تقدم الأشهر المنصرمة منذ أن اعتلى الكاظمي رئاسة السلطة التنفيذية في بغداد قبل 170 يوماً أدلة كثيرة ودامغة على إن الرجل ليس جاداً في تنفيذ مطالب قوى الانتفاضة التشرينية فحسب، بل وعمل ويعمل على تفتيت قوى الانتفاضة ومحاولة تخدير جزءٍ من المشاركين فيها واللعب على عدم انتماءه للأحزاب السياسية والادعاء بـ”استقلاليته!” عن الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية الحاكمة، وتصريحاته التي يؤكد فيها التزامه بمطالب الانتفاضة دون أن ينفذها، بأمل الوصول إلى وأدها. هذا الموقف الذي تبلور، عند تشكيله فرق عمل جوالة عقدت لقاءات مع بعض قوى الانتفاضة في محاولة منها لإقناعها بمواقف الكاظمي، ثم اللعب على وجود تفاوت واختلاف في مواقف التنسيقات العديدة للوصول إلى ما ظهر أخيراً في الادعاء بالاتفاق على إزالة الخيام من ساحات التظاهر في بغداد ورفع الصور والشعارات، لاسيما من ساحة التحرير، وكذلك في محافظات الوسط والجنوب.
لم ينس الكاظمي الوعود التي قطعها على نفسه والقسم الذي أداه في مجلس النواب والبرنامج الواسع الذي قدمه ونشرته الصحافة وأجهزة الإعلام، وفيه يؤكد محاسبة القتلة وكبار الفاسدين ومصادرة السلاح المنفلت المستخدم من قبل الميليشيات الطائفية المسلحة، فحسب، بل راح يستمرئ ممارسة أسلوب المكر والخداع ومحاولة الضحك على ذقون الشعب، هذا الأسلوب السيء الذي لم يعد يمر على بنات وأبناء الانتفاضة الباسلة. فهو يقدم باليد اليمنى الوعود تلو الوعود ويشكل المزيد من اللجان البائسة، ويقدم باليد الأخرى وينفذ كل ما تريده الأحزاب الإسلامية السياسية وبقية الطغمة الحاكمة، وكل ما يرضي المرشد الإيراني علي خامنئي، ويرتكب بذلك أسوأ الخطايا والسوءات بحق الشعب العراقي ومصالحه وطموحاته. وآخر إجراء أقدم عليه هو التصريح الذي أُعلن فيه عن إيقاف عمل اللجنة العليا لمكافحة الفساد، هذه اللجنة التي لم تقدم أي ملف فعلي إلى القضاء العراقي!! لقد كان شرط عدم فتح ملفات الفساد هو الأبرز والأهم بين الشروط العديدة التي وضعتها الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة قبل إعلان موافقتها على تكليف الكاظمي بتشكيل وزراته، التي وافق عليها الكاظمي وبدأ الآن بتنفيذها، إذ اعتقد بأن الانتفاضة قد انتهت!!! فهو لم يُقدَّم أي من قتلة المتظاهرين إلى القضاء العراقي، كما لم يُقدَّم أي فاسد كبير إلى القضاء العراقي، ولم تنته أي لجنة من اللجان التحقيقية التي أدعى تشكيلها للتعرف على القتلة، بل عمد إلى إخفاء التقارير التي وضعت تحت ضغط الشارع وكشفت عن الجهات المتهمة بقتل الدكتور هشام الهاشمي مثلاً أو غيرهم من القتلة.
وأخيراً، وبتاريخ 06/11/2010 قتل شاب بعمر الورود، عمر فاضل، سقط شهيدا، كما جرح العشرات من المتظاهرين في تظاهرات المدينة المعمدة بالدم، المدينة الشجاعة بشبابها وشيبها، برجالها ونسائها، المدينة الغنية الفقيرة والمحرومة من نعمة نفطها، إنها البصرة الفيحاء، إنها المدينة السمراء الجاثية على ساحل شط العرب المنهوب نصفه، سقط شهيداً على أيدي أجهزة الأمن العراقية والميليشيات الطائفية المسلحة، في حملة ظالمة وجولة قمع شرسة جديدة ضد متظاهري ومتظاهرات البصرة. انه الطريق الذي اختاره الكاظمي لمواجهة قوى الانتفاضة المطالبة بالتغيير، وهو الطريق ذاته الذي سلكه جزار الشعب والانتفاضة الخبيث عادل عبد المهدي. لقد وضع الكاظمي رأسه وقدميه في بداية المنحدر الذي سيوصله بسرعة فائقة ليحط في قاع المستنقع المعادي لقوى الانتفاضة والاهداف التي يناضلون من اجلها ويصطف مع من سفكوا دماء الشعب على امتداد الفترة المنصرمة. إنه الطريق الذي سيفجر الانتفاضة الشبابية بقوة وعنفوان ويوسع القاعدة الشعبية للانتفاضة بشكل غير معهود، ما دام الكاظمي قد اختار أسلوب العنف لمواجهة مطالب الشعب، أختار الهراوات والرصاص الحي، ثم الضحك على ذقون الشعب بتشكيل لجان تحقيقية من ذات القوى الفاسدة التي لم ولن تصل الى نتيجة واعية وموضوعية، بل ستكتب على ملف الجريمة البشعة “القاتل مجهول!” فيحفظ الملف في الأدراج ذاتها التي حفظ المالكي والمنتفگي ملفات جرائم القتل والفساد الأخرى قبل ذاك، تلك الملفات التي وعد الكاظمي زيفاً بفتحها ثم أخل بالوعد والقسم!!!
لم يخف على عدد غير قليل من نشطاء الانتفاضة وقوى التيار الديمقراطي، لاسيما الحزب الشيوعي العراق وشخصيات ليبرالية ديمقراطية غير قليلة، الدور الجديد المناط بالكاظمي لعبور الأزمة الراهنة والعودة إلى أوضاع ما قبل الانتفاضة واستمرار النظام على بنيته ونهجه وسياساته الجارية التي لم تعد ممكنة بأي حال، من خلال إجراء الانتخابات دون توفير مستلزمات حريتها وديمقراطيتها ونزاهتها وعدالتها، أي العمل على وصول ذات القوى والأحزاب السياسية الإسلامية والأثنية إلى مقاعد مجلس النواب دون تغيير إلا في بعض الوجوه. ويبدو بوضوح أن متظاهري ومتظاهرات البصرة وذي قار قد أدركوا الاعيب الحكومة الجديدة ورئيسها الكاظمي، مما دعاهم إلى رفض إيقاف التظاهرات أو رفع الخيام بل الاستمرار بالانتفاضة التشرينية إلى حين تحقيق أهدافها المشروعة والعادلة. وكان هذا الموقف سبباً لإعداء الانتفاضة البدء بجرف أو حرق الخيام والاعتداء على المقيمين فيها.
في مقال مهم للباحث الأكاديمي والكاتب الأستاذ الدكتور فارس نظمي بعنوان: “هل انتهت ثورة تشرين، أم بدأت للتو تأثيراتها القادمة” جاء فيه بصواب كبير:
” منذ أيام، وتحديداً بعد يوم 25 تشرين الأول الماضي، تجري حوارات ونقاشات عدمية في قنوات الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي وعلى ألسن سياسيين وحتى ناشطين، حول “انتهاء” ثورة تشرين وفشلها في تحقيق أهدافها. ولهذه الرؤية المتعجلة أسباب متعددة، تبدأ من قصديات الثورة المضادة لتسقيط حراك تشرين وشيطنته وإفراغه من جذوته، وتنتهي في وجهات النظر المبسطة القائمة على الملامسة السطحية الجزعة للحدث دون تمحيص في مدياته العميقة غير المنظورة.”، ثم يواصل تحليله فيكتب: ” ولذا، أقول لكل هؤلاء الموهومين (رغبوياً أو عفوياً) الذين يتصورون أن التاريخ الاجتماعي ليس أكثر من فصول متفرقة أو مشتتة لا تستنسل بعضها جدلياً، أقول لهم أن لا شيء يضيع أبداً من طاقة الزمن الاجتماعي الحي، إذ مثلما يبزغ الأمل من احتقان اليأس وينسلخ التحرر من قيود العبودية، فإن الثورات الناقصة تحقن بذارها تدريجياً في رحم المجتمعات حتى يكتمل الوليد الجديد من تفكك القديم واندثاره. وهنا يجب التمييز بين أهداف الحراك التشريني النهائية (وهي ما تزال بعيدة عن التحقق بحكم التركة الثقيلة لسلطة زبائنية متعددة الأقطاب)، وبين تأثيراته المتحققة فعلياً في نسيج الثقافة السياسية والوعي الاجتماعي لجمهور عراقي كبير سواء كان مسانداً لتشرين أو معارضاً لها أو متفرجاً عليها.”.1
وفي مقال للكاتب، د. كاظم حبيب، بشأن الأوضاع الراهنة ومحاولات تفكيك قوى الانتفاضة تحت عنوان ” لتُشل الايدي الخبيثة التي تريد اغتيال الانتفاضة السلمية! كتب حول التآمر لوأد الانتفاضة ما يلي:
” الأول: اتهام قوى الانتفاضة السلمية بالعمالة للولايات المتحدة، في حين هم وليس غيرهم من جاءوا راكبين ظهر الدبابات الأمريكية وتسلموا السلطة والمال والنفوذ بمساومة وقحة وضد مصالح الشعب العراقي بين الادارة الامريكية والقيادة الإيرانية ليفرضوا نظامهم الطائفي-الاثني الفاسد على المجتمع العراقي المتعدد القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية العقلانية.
الثاني: اشاعة الفوضى والبدء بالاعتداء على اجهزة الأمن وجرِّ بعض قوى الانتفاضة السلمية الى معركة مرفوضة منهم مع قوى الأمن، التي مهمتها حماية قوى الانتفاضة من التجاوز عليها من جانب تلك القوى الشريرة. وقد فشلوا الى حد بعيد في ذلك، ولكنهم تسببوا بجرح العشرات من قوى الانتفاضة على أيدي الأشرار وقوى الأمن الداخلي، كما جرحت مجموعة من قوى الأمن العراقية على ايدي القوى الاستفزازية والشريرة.
الثالث: محاولة ثانية لاغتيال الانتفاضة الشبابية والسلمية في موقعها المركزي ببغداد، ومن ثم خنقها في ساحات العراق الأخرى، والقيام بحرق الخيام واشاعة الفوضى والخوف، إضافة إلى مواصلة عمليات اختطاف وتغييب وتشويه سمعة النشطاء المختطفين أو حتى قتلهم، والاستمرار بتخطيط وتنفيذ موجة من الاغتيالات ضد نشطاء الانتفاضة الشبابية والشعبية. فعلى سبيل المثال لا الحصر أقدمت قوى الدولة العميقة، الميليشيات المسلحة، في وضح النهار باختطاف الشابة المسعفة والناشطة المدنية في التظاهرات التشرينية ماري محمد التي لا يتجاوز عمرها الـ 20 عاماً في بغداد، وأجبرت تحت التهديد بالسلاح على تسجيل فيلم ادعت فيه ما لا يمكن أن تدعيه أية شابة بعمرها وفي مجتمع كالمجتمع العراقي، زاعمة بأن كانت لها علاقات جنسية مع بعض أعضاء مجلس النواب أو شخصيات أخرى لم تتعرف عليهم يوماً. ثم نشروا هذا الفيلم بوقاحة بالغة وسلوك لا أخلاقي سواء بإجبارها على الادعاء وتسجيل الفيلم أو نشره. إنها محاولة للإساءة إلى سمعة البنت أولاً ولمن وردت أسماؤهم في الادعاء الزائف.2 أنها الطريقة ذاتها التي مارسها نظام الفاشية والعفونة، نظام البعث وصدام حسين.
إن حكومة مصطفى الكاظمي، التي لم تنزع السلاح المنفلت من أيدي الميليشيات الطائفية المسلحة، كما لم تحاكم القتلة ولا الفاسدين الذين وعدت القيام بكل ذلك قبل البدء بأي انتخابات مبكرة، أخلت بوعودها وشجعت القوى الشريرة على تنفيذ خططها التآمرية الجديدة ضد قوى الانتفاضة السلمية ومطالبها العادلة والمشروعة. ويبدو أن حكومة مصطفى الكاظمي استساغت تقديم الوعود العسلية، والامتناع عن تنفيذها، فـ”وعود الليل يمحوها النهار”.3أو كما قال الشاعر العربي:
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت …. الا كما تمسك الماءَ الغرابيلُ
فلا يغرنك ما منّت وما وعدت …. ان الاماني والاحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً…. وما مواعيدها إلا الاباطيل
أو الشاعر الذي قال: وعدتَ وكان الخلفُ منك سجيةً مواعيدَ عرقوبٍ أخاه بيثربِ
السؤال العادل والمشروع الآتي يفرض نفسه على كل إنسان شريف في العراق: لماذا قتل المسلحون الأوباش المتظاهر المدني والسلمي عمر فاضل في البصرة؟
لقد أقدمت القوى الأمنية وغيرها على توجيه نيرانها صوب التظاهرات التي طالبت بما تطالب به الانتفاضة التشرينية بالخلاص من الطائفية المقيتة والمحاصصة المذلة والفساد، الخلاص من التمييز الديني والمذهبي، تطالب بهوية المواطنة الحرة والمتساوية، تطالب بوطن حر ومستقل غير مسلوب الإرادة والسيادة، تطالب بحق شعب البصرة وعموم العراق في الحصول على الكهرباء والماء النظيف الصالح للشرب، تطالب بالخلاص من رثاثة الأنهر وهلاك الأسماك والمدن، تطالب بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تطالب بفرص عمل للشبيبة العراقية العاطلة منذ سنوات، تطالب بحقوق المرأة المصادرة وحقوق النساء الأرامل والأطفال المشردين والمحرومين. لهذا السبب قتل عمر فاضل، ولهذا السبب قامت قوات الأمن في البصرة وغيرها بجرف الخيام أو حرقها في ساحات التظاهر بهدف قتل الانتفاضة ووأدها. لقد نسى الكاظمي، هذا الحاكم الجديد، كلما تعلمه وطالب به حين كان في صفوف المعارضة، فكرسي الحكم حوله إلى تابع ومنفذ لما يريدون. يجب مصارحة الكاظمي بالقول التالي:
“إن واصلت سلوك طريق مواجهة الانتفاضة بالعنف والسلاح والرصاص الحي والكذب وعدم تنفيذ ما التزمت به وأقسمت عليه، فلن يكون مصيرك أفضل من مصير من سبقك من حكام العراق المستبدين أمثال صدام حسين ونوري المالكي وعادل عبد المهدي، ولن يكون الدم الذي ينزف من شبيبة العراق القوة التي تطيح بك بعيداً عن حكم العراق.
ومن الجدير بالإشارة هنا الموقف الواضح والسليم الذي اتخذ الحزب الشيوعي العراقي الذي تجلى في بيانه مكتبه السياسي الصادر بتاريخ 1/12/2020، إذ جاء فيه:
“انطلقت حركة الاحتجاج منذ بدايتها تعبيرا عن الرفض لواقع شعبنا وبلدنا المأساوي. وبدءا بمظاهرات شباط 2011 وصولا الى انتفاضة تشرين 2019، رفعت شعارات ومطالب عادلة تجاوبت معها غالبية العراقيين، لأنها جسدت تطلعهم الى حياة أخرى مختلفة، عبْر تغيير شامل لمنظومة الحكم المسؤولة أساسا عما آلت اليه الأوضاع، ولنهج إدارة الدولة. ولا تزال عوامل اندلاع الحركة قائمة، بل وتفاقمت في بعض جوانبها جراء الانسداد السياسي، واحتكار السلطة والقرار فيها، وبسبب الازمة المالية والاقتصادية والمعيشية والصحية، وتفشي جائحة كورونا، والعجز الحكومي عن تسديد رواتب الموظفين والمتقاعدين وتخصيصات الرعاية الاجتماعية، بجانب الفشل في إطلاق تنمية حقيقية واستنهاض اقتصاد البلد وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، وحماية حياة المواطنين وامنهم وحصر السلاح بيد الدولة، والتصدي للفساد والفاسدين، وتهيئة شروط وعوامل إجراء انتخابات عادلة.”.4
الهوامش:
أنظر: فارس نظمي، “هل انتهت ثورة تشرين، أم بدأت للتو تأثيراتها القادمة”، جردية المدى العراقية، أراء وأفكار، 31/10/2020.
2 أنظر: نهاد القاضي وسمير طبلة، أنقذوا شرف الانتفاضة السلمية: ماري محمد نموذجاً، 04/11/2020.
3 أنظر: كاظم حبيب، ” لتُشل الايدي الخبيثة التي تريد اغتيال الانتفاضة السلمية، جريدة العالم العراقي، اراء، 29/10/2020.
4 أنظر: بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي إرادة متجددة لدحر منظومة المحاصصة والفساد، طريق الشعب في 01/11/2020.
الاختطاف السياسي والاختفاء القسري في العراق .. هل من التفاف على مطالب الانتفاضة والسعي لوأدها؟
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا