شعر ( النثر) .. تجليات الكلام و إنصهارات اللغة
_ قراءة معرفية في نص ( دندنة روح ) _
مهند صلاح
القراءة المعرفية هي الإنتقالة النوعية داخل الصفة الموسوعية لذاكرة المتلقي , التي تذهب به نحو مناطق التماس مع الكتابة للتوغل المعلن الذي يمارسه في عالمه النصي الخاص , مع تباين أشكال هذا النص و الأدوات المتاحة لهذا القارئ , و التحديات التي تدفع به لتحديد مؤشرات الوعي داخل التراكيب اللامحدودة التي تتقافز أمام كاميراته الداخلية بمجرد ممارسته لعملية النحت الموضوعية في جرف النص , و التي من الممكن أن يتعرض لها إثناء ( عملية الفحص و التلقي ) , و الأمر برمته ليس بحاجة لمسافات عمرية أو تاريخية تفصل بين النتاج و القارئ , بل على العكس من ذلك , فمجسات التلقي تمارس عمليات مستمرة من النزوح نحو السؤال عن حجم و عمق الخزين الفكري الذي من الممكن إمتلاكه كي يؤهلنا لنكون قراء من الطراز الرفيع . فعمليات الكشف التي تمارسها أدواتنا الخاصة على أي عمل تمثل الفسحة التي نستطيع من خلالها أن نعيد الثقة بذائقتنا في تجديد إدراكنا لغواية ( الكلام ) , و التي بدورها تفجر داخل سماء المعرفة ( ثورة ) لا مناص منها على كل ما هو ( معتاد أو مكتسب ) .. يحاول بعض بائعي أرصفة الفكر الإرتزاق علي سذاجة العقول و بحسابات إحتيالية , حيث يبرزون أنفسهم على إنهم ( الواسطة ) الحتمية و الواجب وجودها و الغير مستغنى عنها بين ( الكاتب ) كمنتج نصي و معرفي , و ( المتلقي ) كحاضنة تفاعلية لمحصلة هذا النتاج . و لمحاولة تجريب آلية ( القراءة المعرفية ) دون الحاجة لبعض المحتالين ممن يطلقون على أنفسهم ( نقادا ) سوف أتخذ من نص ( دندنة روح ) للشاعرة ألق محمد ؛ محطة أنطلق منها نحو مناطق القراءة الأدواتية , و التي تستغني عن الواسطة بيني كقارئ و بين الشاعر كناص , و ذلك طبعا يحتم على رؤيتي القرائية شروط إمتلاكي لأدوات تلقي النص و تفكيك لغته .. يقول الكاتب ( ميشيل ساندرا ) في كتابه الموسوم ( قراءة في قصيدة النثر ) في بابه الثاني المعنون ( تاريخ و نظريات ) : (( يقترن مصطلح قصيدة النثر في أذهان قراء اليوم بإسم بودلير على الفور , إذ أدرك كاتب قصائد نثر صغيرة غرابة عمله المطلقة ؛ و على الرغم من إن مصير مصطلح قصيدة النثر مدين له حصرا , فإن أشكال النصوص التي يشير اليها قد ظهرت في الأدب الفرنسي قبل عام 1830 , كما إن استنباط قصيدة النثر _ كما أشارت الى ذلك نتالي فانسنت مونيا _ كان من نتاج الرومانسيين القاصرين و يندرج المصطلح كما هو الشأن بالنسبة للكتابة الجزئية في حركة حذر تجاه اللوحات الشعرية الكبيرة الشاملة و الملحمية للعصور السابقة و الرومانسية الظافرة , و على الضد من قصيدة النثر هي من بنات أفكار القرن التاسع عشر . و لكنها ما كانت لترى النور لو لم يتم طرحها بصورة مستفيضة طوال القرن الثامن عشر . لو لم يتم الاعتراف بإمكانية الشعر بالنثر )) !!!!! .. ان محاولة ( ميشيل ساندرا ) و غيره الكثير ممن إشتغلوا في ( غربنة ) قصيدة النثر . هي مجرد عمليات تشويه مرحلية لإخفاء حقيقة مهمة , و هي إن قصيدة النثر صاحبة الامتياز الأول في النتاج الشعري الشرقي و هي ( عراقية ) بإمتياز . و هذا طبعا متوقف على إيماننا بأن العالم لم يخلو من الشعر يوما ما . و مع معرفتنا بأن الشعر بشكله العمودي لم يك المخلوق الأول لهذا النتاج , فلا بد بالتالي من إدراك حقيقة
( قصيدة النثر ) المتجذرة مع أولى الحضارات و إنسلاخها في الكثير مما تبقى من الرقم الطينية , كي تكون دليلا واضحا لا يمكن للطرفين المزيفين في عملية التشويه التاريخي إخفاءه أو تدنيسه . فالطرف الأول هم اللاهثون خلف الإعتقاد بأن قصيدة النثر هي نتاج غربي صدر الى الشرق , و القصيدة العربية ما هي الا نسخة مقلدة من هذا النتاج . و الطرف الآخر هم المزيفون من رهط القراء أو الكتاب لقصيدة ( العمود ) الكلاسيكية .. و التي لم تحمل جدارة قصيدة النثر في تكوينها الابداعي الذي جعلها القديمة الحديثة في الوقت ذاته .. سيكون الولوج لنص ( دندنة روح ) للشاعرة ألق محمد مدخلا بسيطا نحو قصيدة النثر ( الشرقية / العراقية ) و التي لا علاقة لها بغربنة المهرجين .. رغم أن عنوان النص لم يك موفقا ليمثل حجم الكثافة الشعرية و الصورية للنص , إلا إنه كان يصيبني كقارئ بتعب مر . يشبه البدء بالكشف عن حضارة غمرتها خشونة الحروب .. في جزء من النص تقول ألق :
تَـمـوسِـق النَّــبـضُ عــزفًا
على أوتـار الروح الصادحة
مُخالجة
فرقـعـة الأصـابع
أسرتْ بتلات (الـرَّازقـي)
وأربـَكـتْ الفَـراشاتُ وما اِقْـتَـاتهُ من نغم
إثر الصباح
يُبـاغتني شـذاك لــوهـلـةٍ
تَــسْـتــعـدُ جـوارحـي لِـعـنـاقِـك
لـمـحــةٌ مُـكـتـظــةٌ بـالــزّهــــو
وتبــاريـح الشّـــوق
تــأنـقـتْ،
تَــراقصت
سـنـونـوات القـريـةِ
غـــزلًا ،
طــرباً ،
شــوقـًا
.
.
إحتفاءً بلقائِــنا
ان هذا الاشتغال الواضح على مناطق ( جوهر الشعر ) و الذي تدسه الشاعرة داخل لغة النص ربما بعفوية . يوضح مدى النكهة التي تملأ القصيدة الشرقية , و التي من الصعب جدا أن تشم روائح حروفها داخل النص الغربي , بل إنك أحيانا تجد نتاجا ( مقلدا ) للعمل الشرقي . و لأن بعضهم تعود أن ينظر للبضاعة الغربية على إنها هي الأفضل دائما , و إن كل ما هو شبيه لها مجرد نسخ مقلدة . فإن هذا البعض غفل الحقيقة أو تغافل عنها .. في المقطع السابق إشتغال واضح للغة الإيماء و إستنطاق إدراكي و حسي لبعض مناطق الجسد روحيا (( تَـمـوسِـق النَّــبـضُ عــزفًا
على أوتـار الروح الصادحة )) و هي محاولة للبدء نحو رحلة طويلة من ( الكلام ) الشعري , الذي يؤرشف ربما للكثير من الأحاجي التي تحاول الشاعرة أن تضع حدا لها بلغة الشعر ..
أما في مقطع :
(( تُسكن اللّواقح
مُـعلنةً وصــول السّـاقـي
يا ويـلـتـاه!
لله درّ قـلـبي
تأبط ثقلًا وأصمد يا (رچــيــچ)
ها هو
يَـدنـو وجِــلاً، على رؤوسِ أصـابعه
حِــذار أن يُــؤذيـهِ الأصــيـص
مُفرقاً بين نَــبــتـةٍ وأُخــرى بــرفِـق
منحنيًا بكامل دماثته
كما لو يود الإعتذار لهُن
أجزمُ بأن أنفاسَـهُ تـستـحــقُ العِـنـاق! )) ..
تحاول الإشعاعات
( الايروسية ) الواضحة أحيانا داخل هذا المقطع و غيره من مقاطع النص أن تجعل القارئ يبتعد عن ( الروح النقية ) للحب و عدم تمييزها عن اللهاث الآيروسي الذي يتعمده هذا القارئ ( أحيانا ) لدرجة إنه يحاكم ( الناص ) بأشياء لم يفعلها , و هذا ما وجدته في أغلب مقاطع النص التي تحاول أن تضع حوارا مليئا بالحب , و كإنني للحظة أضع إصبعي على أحجية اللعبة الشعرية التي تمارسها الشاعرة و تعتقد بأنها قد إستطاعت أن تخفي معالمها عن القارئ . فهي تحاول أن تبث الروح بشخص قد رحل عنها و لم يعد لجسده وجود , و قد نجحت في أن تجعله حيا ما بقيت حروفها حية ..
أما مقطع :
(( وجـوده ..عــالــم آخـر
يبــتَـسـمُ فـتزهـرُ لهُ الجلنار
وتُحمر وجنات الياسمين
قبل وجنتيّ
فتفضحني عينايّ
فتغورق في بحرِ حنانه
وتحكي كلمًا
لم تكن لتبوح به،فتُفنى
كـ عاشقٍ أصمٍ فاضتْ من عـشـقـهِ العيون
ولـم يفهـمـهُ أحد،فُـفُنيّ.
أشــعُـــرُ بتخلـخـلٍ كُليٍّ
فقدان التوازن كُلما لمحتُ عينيه ابْـتَـسمتُ
قبل الولوج بذكر أسمي
تتطاير الفراشات في جوفي
وكأن حروفه بلسم لجراحٍ عميقةٍ لا تندمل
مُبتسمًا يهمسُ :
كيفَ الحال؟!
يُجيبهُ صمتي
_مُضجرًا
مُتشظيًا
مبعثرةٌ أشلاؤهُ هذا الفــؤاد هـَلّا رَمَّــمـتَـهُ ببـعضِ القُــبّـل!؟
مُدَّنْــدنــةً بــخير .. بخير.. وأسـحــقُ الأزهــــارَ
قـطـفًـا بـلا رأفـــة وأمــضــــــي.. )) ..
تحاول الشاعرة ألق أن تفتعل نظاما شائعا في قصيدة النثر تكون فيه وحدة العرض متأثرة بآليات تتنوع مع تنوع بصمة الكتابة من ( ناص ) لآخر . كل حسب مناطق إشتغاله .. حيث من الممكن أن يتوهم القارئ بأن خطى الشاعر بدأت في لحظة ما بالتلاشي داخل ثيمة النص . دون أن يعي بأن هنالك صوتا ثالثا يؤسس داخل النص لكل عمليات البناء و حالات الجذب . التي تكون عبارة عن آليات حوار دفينة بحاجة فقط لقراءة جيدة و محترفة كي تفضح جمالها . و هو ما إستخدمته الشاعرة في بعض نصوصها . و ما جعلها موفقة , هو عدم تخطيطها المسبق لهذه الآلية , أو محاولة تصنع حدوثها . فهي قد أنتجتها داخل النص بالفطرة ..
مجرد المحاولة في تحريك نقاط الوقوف داخل اللغة . تعد من الحالات التي لم تشتهر بها قصائد النثر الغربية , بل إن قصيدة النثر العراقية تتمرد لتفجر هذه اللغة , و تصنع من تشظيها نقاطا مشعة لا يمكن الخروج من وهج إحداها حتى تمسك الأخرى بعين القارئ الراصدة , فتجذبه نحوها دون أن تدع له المجال كي يفقد روح التلقي لديه . كما إنها تمارس أدوار الغواية المتعمدة كي تؤسس داخل المجال القرائي أنواعا من الصناعة المتقنة لشعرية ( النثر ) ..
إن محاولة وضع قراءة أدواتية لديوان أو مجموعة او نص ما . تختلف عن الجدولة البحثية الأكاديمية التي يستعملها الطلبة في الجامعات داخل طروحاتهم . لذا من غير الممكن أن يتناول قارئ ما نصا يقرأه ليوظفه داخل مقال قرائي , لكنه يستطيع أن يشير إلى نماذج تمثل هذا النص دون أن تكون هذه النماذج هي الأكثر شعرية . بل إنه مجرد إختيار لا على التعيين …