رحلةُ الاميرة البابلية ” ماريا تريز اسمر ” 1804-1870م
اشرنا في العدد السابق أنّ الرحالة الاميرة ماريا تريز اسمر هي من قضاء تلكيف في الموصل 1804-1870م ، وانها كانت تتكلم السريانية والعربية والانكليزية والفرنسية والايطالية والكلدانية ولربما العبرية وتتقن اللهجات المحلية الدارجة عند البدو في العراق ،
شملت رحلتها اجزاء مهمة من الاراضي المعمورة فقد سافرت من العراق الى بلاد فارس ، ثم عادت الى العراق وانطلقت من بغداد بعد وفاة والدها ومنها الى دمشق وبيروت والقدس والقسطنطنية والفاتكان وفرنسا واستقرت في بريطانيا ، ثم تحدثنا عن اقامتها بتلكيف والموصل وتأسيس معهد للغات في المدينة وكيفية دخولها الى بيوت الباشوات والامراء واليوم نواصل رحلتها من الموصل الى بغداد واقامتها فيها ، ثم مضارب البدو في بابل وتوجهها الى دمشق وما سجلته من مشاهدات في غاية اللطف فتقول اثناء رحلتها :
من الموصل اخذنا الكلك الى بغداد وسار بنا في امواج دجلة كنا نترك الكلك ونمشي اذا كان الموج سريعا ، او لو اردنا التمتع بالمنظر الجميل ، كنت صامته اعاني من السوداوية والحزن ، وعبثا حاول مرافقي أثارة اهتمامي من خلال رميه قطعة قماش مشتعلة على بقايا مواد كبريتية تطفوا سطح الماء ، وبدأت النيران تغمر سطح الماء وهذه الظاهرة الغربية كانت مثار اهتمام الجميع ، ويظهر انها كانت قريبة من منطقة القيارة المليئة بهذه المواد المشتعلة .
ـ ماريا في بغداد
سلكت ماريا في طريقها من الموصل الى بغداد طريق دجلة النهري فكانت الاكلاك تسير بين المدنتين وهي من الوسائل المريحة في السفر ، فتقول ماريا كنت أنام في الكلك وفي صباح اليوم التالي استيقظ وانا اكثر حيوية صممت على ان استعين بالله على مصابي وأتحمل ايامي وان اعتمد على الله تماما ، فوصلنا نقطة خطرة في نهر دجلة حيث تكثر فيها الحوادث بسبب كثرة الصخور قد تتسبب تلفا للكلك المصنوع من جلد الحيوانات ، وفي هذه النقطة من النهر الناس عادة يبتهلون الى الله تعالى ، فتركنا الكلك وصرنا نقطع المسافة مشينا على الاقدام وكان القرار حكيما جدا ، اذ كانت هناك عائلة بقيت في الكلك فتشقق نتيجة لاصطدامه بالصخور ، وقد وقع الجميع بالنهر ، لكنهم نجوا من الغرق لأنهم سباحون ماهرون ، وفي هذه النطقة ايضا تكثر الافاعي الكبيرة الحجم وعند مهاجمتها تجعل جسمها على شكل مضرب كبير او هراوة عريضة .
وبعد رحلة استغرقت خمسة ايام وصلنا بغداد في اواسط الربيع حيث ذوبان الثلوج من قمم الجبال في الشمال في هذا الفصل ، ويصبح نهر دجلة سريع الجريان بحيث السفرة لا تستغرق اكثر من يومين ، وعند وصولنا بغداد كان هناك رجال نصف عراة سوى السراويل القصيرة يحملون ركاب الكلك من النهر الى الجرف واحيانا ينزلقون باحمالهم البشرية ويضحك الناس بدون مبرر على الحالة المزرية لغيرهم .
حال وصولي بغداد سكنت مع بعض الاصدقاء وخلال فترة اقامتي معهم فكرت بمشروع مهم جدا ووجهت له كل طاقتي وكان المشروع حيويا ، وهو انشاء معهد لتدريس النساء ورفع مستواهن العلمي لانها كانت تتألم على الوضع الذي تعيش به المرأة من خلال دكتاتورية الرجل حسب وصفها وانه يتعامل معها على انها لا تملك دماغا او قلبا ، ثم تقول اليس الرجل مثل المرأة وتواصل حديثها في الدفاع عن حقوق المرأة وحريتها فتؤكد على اهتمامها بالمشروع وتقول اذ كان لدي تجربة مماثلة عندما كنت في الموصل ، اذ لم يزال لدي بعض المتلكات القليلة للقيام بمثل هذا المشروع ، وكنت احصل على دعم الاصدقاء الاغنياء ويرغبون في مساعدتي لهذا اشعر بالثقة من امكانية القيام بهذا العمل ، وكان هناك رجل يرافقني وهو مسؤول عن حمايتي ففاتحته بالموضوع لم يصغ لي واعتبر ما اقوله مجرد مشروع خيالي ، ورغم ذلك أستأجرت بيتا وبدأت قبول الطلبات بغض النظر عن العمر والمنشأ والخلفية الاجتماعية ، وقمت بتدريس القراءة والكتابة والخياطة بالابرة ونجح المشروع في بادئ الامر نجاحاً منقطع النظير ، ثم اغلق لتدخل جماعة من المبشرين الاوربيين الذين كانوا يسكنون في بغداد .
ـ ماريا والبدو في بابل
على اثر فشل مشروعها في بغداد قررت الرحيل الى احد مشايخ البدو في بابل الذي كان على صلة قوية بوالدها وبينهما مودة اسمه ” درياح بن شعلان ” فتهيأت للسفر لانها لم تشك في رفض دعوتها فارسل الشيخ ابنه وابنته لمرافقتها في الرحلة الى مضارب البدو قرب بابل القديمة على ضفاف نهر الفرات ، ثم تقول وما ان رأت ابن وابنة الشيخ فتذكرت والدها واهلها ووحدتها الان ” حتى اوشكت على البكاء وغمرها شعور عميق بالامتنان لهذه الشهامة وكأنها تتوجه في مسيرها الى والدها .
واول منظر استرعى انتباهها ” هو امتداد الخيم على مد البصر واعداد لا تحصى من قطعان المواشي والاغنام والجمال التي كانت ترعى في البراري وكان وصولها في شهر ايار والارض خضراء وزهورها متنوعة ونهر الفرات بامواجه الهادئة فهي تصف منظره كأنه حدقات العيون المرحة للشباب في ايام الصبا والمكان يبدو موضع للبراءة والسلام ففيه قطعان الغزلان التي تمرح على ضفة النهر يزيد عددها عن الف غزال ، وكانت قد تقربت من جمل صغير عمره خمسة عشر فأخذت تتطعمه بيدها وتتسلى وتمرح معه ، ثم تصف خيمة رئيس العشيرة وقالت بان طولها يبلغ سبعون قدما منسوجة من وبر الجمال وهي ثلاثة اقسام لزوجة الشيخ ومرافقاتها وللخدم والطبخ والجزء الامامي منها لاستقبال الضيوف .
اما وجبات الطعام التي كانت تقدم من قبل الشيخ في الصباح فهي وجبات لذيذة من حليب النوق والتمر المقلي بالزبدة والبيض ، وفي العشاء يقدم لحم الغنم وساق الجمل والغزال وهي تفضل اللحم الاخير، ثم تقدم اصناف من الفواكه والقهوة ، وكان الشيخ يدعو عشرته لتناول الغداء على ضفة نهر الفرات في المناسبات في الهواء الطلق اذ ظلت هذه الدعوة في ذاكرة ماريا وسجلتها في رحلتها لما حوته من انشراح في نفسها فكانت هذه من المناسبات التي ظل ترددها فقد تكونت مائدة الطعام من لحوم سبعة جمال وخمسة وعشرون خروفا وعدد لا يحصى من الغزلان ، وقدمت للخيول حليب الجمال لانه يعطيها القوة وتتحمل مشاق السفر حسب رأيها .
والبدو يرفضون التدخين في ذلك الوقت ويسمون التتن النبتة الملعونة ، وكانت ماريا على عكس ذلك فهي مدخنة اصيلة للنرجيلة وجلبتها معها لكنها كانت على استحياءٍ من امرها ، ففطن اليها الشيخ وشجعها على تحقيق رغبتها احتراما لها فتحقق ذلك .
ثم تصف ماريا حلقة مجلس العشيرة الذي يعقد بعد العشاء اذ يبدأ كل واحد حسب دوره يقص حكاية واغلب مواضيعهم كانت تدور حول الاخلاق الحميدة والخيول الاصلية والقتال والرعب والافاعي المفترسة ، ثم يغني احدهم بصوت خفيف ، وكانت قد استهواها سماع القصص منها قصة الأرملة التي ذبحت خروفها الوحيد لاطعام ضيفين من الهند وهما في طريقهما لدمشق .
وامتدحت البدو واخلاقهم وعلاقتهم الانسانية وضيافاتهم وصداقتهم الابدية وكرههم للقراءة والكتاب وايمانهم بالله الواحد القهار ، واعتقادهم ان الخير من الله والمصائب تأتي لعدم ر ضاه ، وأن البشر كلهم سواسية ، وان البدوي لا يمتلك أي ثقافة بسيطة وانه يعيش على فطرته وتضرب مثلا على ذلك فتقول بانه لا يعرف قيمة الاحجار الكريمة قد يبدل قطعة من الماس تساوي آلاف الفرنكات بكيس تمر ، لكنها تقول ” لم اشاهد قوما أكثر حبورا وسعادة من هؤلاء البدو اذ انهم لا يحملون هم الغد وتنتقد الاوربيين وتعتبرهم تعساء في عاداتهم وتقاليدهم وتفضل البدوي عليهم فتقول ممكن ان تسكن في اوربا نصف قرن بدون ان تعرف من هم جيرانك .
واشارت الى النساء البدويات فتقول بانهن محبذات ومفضلات وسمراوات طويلات القامة أجسادهن مكتملة وملفوفة كجذع النخلة قد يبلغ طولهن اكثر من خمسة اقدام لا يستخدمن المشدات لضغط اجسامهن ايدهن واكفهن واقدامهن ناعمة رقيقة وصغيرة وشعرهن اسود طويل وعيونهن واسعة جميلة سوداء وذات لمعان تخفي لمعانه بواسطة الكحل الاسود تدل على سمو اصولهن .
وتتحدث عن عادات الزواج الاجتماعية عند البدو وهي قد حضرت حفل زواج وظلت تغني وترقص مع البدويات من العشاء حتى شروق الشمس فكانت لها ليلة جميلة هنية ، وتؤكد ان للفتاة البدوية رأي فهي لا تجبر على من لا ترغب منه الزواج واذا رغبت في الزواج من الخاطب فيرحب والدها بالخطابة ويقول لهم نحن نلبي أي طلب ترغبونه ، وتقول عن الفتاة البدوية بان لها شجاعة ولها دور في المعارك التي تنشب بين القبائل فهي تركب ناقة بيضاء مغطاة بقماش قرمزي ومزوقة بالتزويقات المعتادة للجمال اثناء سير القتال وتشجع المقاتلين على الاغارة ومواصلة القتال ويتمنى الفائز منهم ان يجلب لها رأس العدو ليحظى بالزواج منها ، ونصف الفرسان يكونون على مقربة منها حماية لها كي لا تقع بيد الاعداء وقبل بدأ القتال يعلن كل فارس اسمه امامها بكلمات لطيفة فتقول له ليكن قلبك مثل قلب الاسد وسهامك حادة وتصيب ، ان ثمني هو رأس العدو .
وكان وداعها للبدو بمثابة حزن جديد الم بها ندمت عليه فيما بعد ” خاصة عندما سافرت الى اوربا وضاقت بها الدنيا وباعت كل ما تملك من اجل سد لقمة العيش أمتد بها الحرمان ايام طويلة هناك ” فتقول قبل وداعها لصديقاتها البدويات اللواتي قضت معهن ستة اشهر ” سرحت أتجول في خرائب بابل أعظم ممالك العالم والتي كانت فخر الكلدانيين هذه المدينة التي أعدت اعظم المدن بالنسبة لكل الشعوب” ، ثم اخذت تبكي لفارقهم واقنعت نفسها على امل ان تلتقي بهم ” فقالت لهم الوداع يا اصحاب القلوب البسيطة يا اولاد الصحراء اودعكم واترك خلفي فضائل عميمة وكثيرة ، ثم اكدت ان الله ليسعده ان يرى شجاعتكم المهيبة وصبركم واحتمالكم وصداقتكم الممتازة وكرم ضيافتكم وان عفتكم لا غبار عليها رغم انكم تأمنون بالسلب والنهب وان اغلب عملكم قطاع طرق وبهذا فكان تقيمها للبدو بهذه الميزات بانهم يفوقون كل البشر الاحياء في مشارق الارض ومغاربها وكانت على ثقة بانها سوف لن تجد مثلها في اماكن أناسٍ متحضرين .
ـ ماريا في طريقها الى دمشق
ثم توجهت الى بغداد للاستعداد للسفر الى دمشق وكانت هناك قافلة تستعد للسفر منذ اشهر، ولكنها لم تغادر لأن الطريق كان غير آمن وكانت معها امرأة مع اطفالها من البصرة ومطران اسمه ديير ستيفان ، ونصبت خيم القافلة على مسافة ساعة ونصف من بغداد وكان عدد الجمال والخيول فيها يزيد على خمسة عشر الف من الدواب ، وعدد افرادها المغادرون يبلغ خمسة الاف نسمة من التجار والحجاج المسلمين وغيرهم من الفرس والاتراك ، وكانت الجمال محملة بالمواد الغذائية اثناء سيرها من الطحين والبسكت والرز والباسطرمة وتحمل ايضا السجاد والوسائد واغطية الفراش وأدوات المطبخ معلقة على جوانب الجمال ، وكانت ماريا قد استأجرت لها خمسة جمال وحصان وفرس تمتطيه اثناء الطريق حينما تتعب من ركوب الجمل .
وكان مع القافلة فرسان من جورجيا واجبهم توفير الحماية للقافلة من قبل الباشا في بغداد ومع القافلة رعاة من العبيد يبعون الاغنام للمسافرين في الطريق وتذبح من قبل القصابين ، وسعر رطل اللحم خمس بارات وكانت ترى قطعان من الغزلان لا حصر لها في كل الاتجاهات اثناء الطريق ، وكان هناك متعهدون ينصبون الخيم اثناء الاستراحة بسرعة مذهلة قد لا تستغرق النصف ساعة ويطعمون الجمال بنواة التمر ، ثم يبدأ الطابخون بطهي الطعام وأشعال النار وتصف صوت الحطب وهو يشتعل اجمل من صوت الحبيبة لعاشقها ، وأثناء الاستراحة توضع الجمال على شكل حلقة تحيط بالقافلة وهي مسرجة لتوفير الحماية للمسافرين من هجمات مفاجئة غير محسوبة وهم يتناولون العشاء ، وبعد العشاء تعقد جلسة للحديث الى الساعة الحادية عشر ليلا ، ثم النوم وقبل هذا الوقت لا يستطيع احد النوم لكثرة الضحك والضجيج لحرس القافلة الجورجي ، وفي الفجر تبدأ القافلة في المسير بدون فطور وحتى الغداء فكل واحد يحمل معه في خرجه ( كيسه ) على الجمل الجبن والبسكويت والباسطرمة والبيض يتناول المسافر الوجبتين وهو على جمله واحيانا ينام المسافر على الجمل .
ثم وصلت القافة بعد عشرة ايام منطقة هيت وتم احضار العبّارات لعبور نهر الفرات وكان العبور لا يخلو من الخطورة ، وكانت هي خائفة حتى ان عبارتها فقدت السيطرة عليها من قبل الربان ورست بعد مسافة طويلة تبلغ نصف ساعة مشيا على الاقدام ، وكانت ماريا عاشقة لنهر الفرات فهي مطمئنة طالما تسير بمحاذاته ، وحينما بدى لها فراقه بدأ الحزن يدب في نفسها ، واصاب اوتار قلبها التكسر وتهيأ جرحها الملتئم للتهيج ، وهكذا استمر نزيفها على فراتها وبلدها حتى وفاتها ، فهي تصف نهر الفرات باجمل صديق لها باسم وملئت قربتها من ماءه العذب البارد .
وكانت قد تحسبت اكثر من غيرها في القافلة للتموين وهي تقطع مسافات في الصحراء بين سوريا والعراق ، وجهزت نفسها من هيت في البيض والدجاج ، واصبحت موضع دهشة زملائها المسافرين وتصف دخولها للصحراء بان لونها اصبح ابيض من ذرات الاملاح ، وان الكآبة بدأت في النفس وان العين لا ترى شيئ يريحها سوى حركة حيوان مرعوب من منظر القافلة الهائل مثل الاسد ، وكان الاهتداء بالطريق بواسطة البوصلة والنجوم ، وان الوقت يمر بصعوبة بالغة في الصحراء ، وتحاول ماريا تسويف الوقت في القراءة على ظهر الجمل بالقراءة ، وكانت تراقب حركات الجمل هذا الحيوان الاليف الذي يمتلك من الذكاء والصبر قد لا يتوفر لغيره من الحيوانات فهي تفرد له نصوص وروايات ، منها دهشتها حينما كانت تقرأ فسقط الكتاب من يدها الى الارض فتوقف الجمل لانه شعر أنّ الراكب فقد شئ فيجب عليه التنبيه وانتظار اعادة ما سقط ، وتعجبت من الفطرة التي تتمتع بها الجمال فأثناء مسير القافلة في الصحراء جاء رجل يركض مرددا ( الساميري ) وهو يعلن هبوب العواصف الترابية فاندهشت وقالت كيف يكون ذلك والسماء صافية لا اثر لغيمة ولا نسمة من الهواء تهب فتسألت عن ذلك وعرفت ان الجمال بفطنتها الطبيعية وغريزتها رفضت السير وبقيت لا تتحرك من مكانها كي تعلم الانسان أنّ هناك خطراً شديداً من هبوب الرياح فعليه ان يتخذ الاجراْت المناسبة بتغطية روؤس الحيوانات بالاقمشة ووضع القطن في اذانها ، وتترك الجمال فهي تعرف كيف تحافظ على نفسها .
أما المسافرون فانهم يعتصمون في الخيام ويغطون رؤوسهم بالماء شاء الله ويتمددون على الارض وحينما وصلت العاصفة كانت ماريا عند أمرأة تركية قد دعتها لفنجان قهوة مع غليون تركي تقول ان الريح جاءتها بدون مقدمات وحمت نفسها بالنوم ارضا وتغطية الرأس وان خيمتها كانت تهتز وحرارة الجو ارتفعت فيها وتحولت الى حمام حار والعاصفة استمرت اقل من ثمان ساعات بقليل ، ثم هدأت الرياح وباشر المسافرون بالرحيل وتركت جثث من العرب الذين ماتوا من جراء العاصفة .
وكانت ماريا قد اختارت اعلى جمل لركوبها كي ترى ما يدور حولها اذ تقول ان الجمال ظلت ثمانية ايام بدون ماء ، وفي اليوم التاسع لاحظت ان الجمال نست آدابها وتحفظها في الطريق واخذت تسرع وتشنف آذانها وتتشمم الهواء وهي تتحسس بانها ستصل الى بركة ماء وتحقق ذلك ووصلت القافلة الى جدول عميق بالماء ونزل جملها بسرعة لشدة عطشه حتى وصل الماء الى يدها واخذت تستنجد خوفا من الغرق فاقسم لها الجمال وقال لها ” أحلف بلحية والدي وبنور عيوني بأنك في أمان تام ” وأن الجمل لم يغرقك وهو يعلم ما تتحسسين منه ، وفعلا ان الجمل جعلها في مأمن تام وهو يرتوي الماء .
وتحدثنا ماريا عن مشاهداتها لمعاناة الطريق منها تعرض قافلتها الى قطاع الطريق اللصوص من قبل قبائل البدو ، وارغام المسافرين على دفع الاتوات وفي حالة الامتناع ستنهب القافلة ومكونتها ، فتقرر ان يدفع كل واحد ضريبة فرضت عليه واخذ الاغنياء يبكون على سوء حالهم بعد ان كانوا قبل قليل يتباهون بغناهم وتم أكمال الدفع ، وبعدها جلس السراق والمسروقون يتسامرون في وليمة على حساب القافلة وعلت الاصوات صاخبة في المرح والفرح والانشراح والحبور وبقي الاحتفال الى ساعة متأخرة من الليل بهذا الانجاز الكبير الذي توصلت اليه قيادة القافلة مع السراق ، وكانت ماريا تحمل اللؤلؤ والمجوهرات لأيصالها الى تاجر بغدادي في دمشق بناءً على طلب من احد معارفها فخشت على هذه الامانة من السراق .
ـ ماريا في تدمر
وواصلت القافلة مسيرها حتى وصلت مدينة تدمر وفيها ماء عذب تطفئ ظمأ المسافر في ارضها الرملية الجرداء ، فركبت ماريا فرسها وتجولت في مدينة تدمر فتصفها فتقول ان ابنيتها تتعرض للهدم والقسم الاخر منها موجود على شكل اعمدة وأسس البيوتات تدلل على اتجاهات الطرق والشوارع وتخطيطها يمتد الى مسافة ميل ، وتصف ملكتها زنوبيا وتقول عنها بانها كانت ملكة الشرق الفخورة التي بنت مجدها وأسست مدناً عظيمة في الصحراء حسب تعبيرها ، ثم اكدت بان زنوبيا كانت تفتقر الى الرجال الشجعان في حماية مدينتها من خراب الفاتح المغتصب وان اغلب العرب الموجودين فيها هم يعملون في تجارة تافهة بالملح والصودا يحملونها الى دمشق .
ـ ماريا في دمشق :
وبعد مسيرة شهرين وصلت القافلة دمشق وكان المستقبلون قد نصبوا الخيم المتعددة الالوان ومتلهفين في انتظار وصول القافلة وكان المنظر لا يوصف بهرجه ومرجه ، وعندما اقتربت القافلة الكل يتكلم سوية ويسأل عن كيفية سلامة الوصول وكانوا يعانون من طول الانتظار وبعظهم يعلم ان تجارته وصلت بشق الانفس ونجت من قطاع الطرق فاقيم حفل كبير بمناسبة وصول القافلة حضره القادمون والمستقبلون .
وكانت ماريا تحمل توصية من معارفها لتسكن مع اسرة احد التجار الساكنين في دمشق من اصل فلسطيني اسمه الخواجة يوسف عنحوري وهذه الاسرة لا تزال معروفة في دمشق ، فسكنت في دارهم فترة من الزمن بصحبة صديقتها البصراوية واطفالها ، وفي اليوم التالي عرضت زوجة الخواجة على ضيفتها الذهاب الى الحمام بمرافقة عشرٍ من العبدات في خدمتهم ، تقول ماريا كنت بحاجة ماسة للحمام بعد مرور شهرين على عدم الاستحمام وانني معتادة ان استحم يومين في الاسبوع ، وان العادة في دمشق جميلة هي تخصيص يوم السبت للنساء في الحمام ويوم الجمعة يتم فيه الاستعداد للحمام .
ويظهر انها حينما ذهبت للحمام تفاجئت بجمالياتها وكثرة النساء فيها ، فتقول أن دمشق مشورة بحماماتها وهي في غاية الزينة ، وتصف جدران الحمام الذي ذهبت اليه فأندهشت بقاعته المرمرية المصقولة وارضيته المطعمة بالمزائيك الفائق الجمال وهو يلمع مثل المرآة وكان السقف على شكل قبة مليئة بالقاشاني ، وفيه حنفيات تزود الماء الحار والبارد ، وفي الحمام يوجد غسالات لكل امرأة اثنتان واحدة تدلك جسمها والاخرى تسكب الماء عليها ويغسل راسها بمادة الكيل وهي معروف في الموصل الى وقت متأخر ، ثم يغطى الجسم برغوة من الصابون المعطر بالاف الروائح ويدلك الجسم بكيس ابيض اسمه الليف ويفرك باطن القدم بحجر بركاني به ثقوب ومقبضه من الفضة او الذهب ، هذه العملية قد تستغرق ساعة بعدها تمتد المستحمة على الارائك والجاريات يدلكن اجساد سيداتهن بروائح معطرة غنية نفاذة .
وكانت ماريا قد شغلت فكرها بالطاقة الاستعابية للحمام وبهذا قدمت لنا صورة لطيفة عن حجم الحمام الهائل وقالت ان عدد النساء مئتان وعشرين أمرأة في القاعة الكبيرة ولم تذكر عدد القاعات الاخرى وما فيها من النساء ، ثم انتبهت الى النساء ووصفتهن بالعاريات ما عدا فوطة من قماش الحرير الابيض بحافات مخططة بالاحمر والوان اخرى وتصل الى الركبة ، قسم منهن كن يستحمن والاخريات يشربن الاركيلة والقهوة والمرطبات وهن مستلقيات واجساد قسم منهن جميلة رشيقات يعجز اكبر نحات الاتيان بصياغتهن ، وتصف النساء التركيات بانهن من اكثر النساء اللواتي يحتفظن بشابهن في العالم فالبنت والام كأنهن اختان ، ثم تقول ان اغلب الحديث الذي يدور بين النساء في الحمام هو لتصفية حسابات الغرام وترويج الافتراءات فتنطلق منهن الضحكات مما يدلل على حيوتهن وسرورهن اذ انها تصف حدثهن بسوق الفضائح الدمشقي ، بل انهن يرقصن في الحمام مع عبداتهن حتى الانهماك ، ثم تؤكد بان نساء دمشق من اكثر نساء الشرق اناقة يتركن خصلات من شعرهن ملفوفة بحلي من الذهب واللؤلؤ والماس قسم منها يتدلى الى الارض وهن ودودات كريمات بقلب طيب تصرفاتهن طبيعية خاليات من أي علة او عيب ومملوءات مودة وحنانا .
ولان ماريا كانت غريبة بينهن تجمعن عليها النسوة سألنها ألاف الاسئلة فهي تقول احتاج الى اسبوع للرد عليها يسألن عن نساء بغداد وملبسهن ومظهرهن وكيف يتسلين وهل هن قصيرات طويلات شقراوات سمراوات نحيفات بدينات عاداتهن كيف يعاملن ازواجهن وأخيرا سالن عن الرقص في بغداد وطلبن منها ان ترقص فرفضت ثم رمي عليها اكليل من الزهور وأغرقوها بالعطور حتى وافقت على الرقص فرقصت وفي الاخير تزحلقت على الارض المرمرية فسقطت وجرح راسها واخذت تنزف ولا يستطيع العطار الدخول الى الحمام لمعالجتها لانها اغمي عليها ، ثم عولجت بحرق ذيل حصان على الجرح فتوقف نزيفها .
وفي دمشق مكثت ماريا فترة من الزمن وقدمت وصفا عنها في غاية الروعة ، ثم رحلت منها الى لبنان والقدس وكانت امنيتها ان تزور اوربا فتحقق لها ما ارادت فذهبت الى روما ولندن وباريس وتفاجئت بالمجتمع الاوربي وظلت تحلم ان ترجع الى الشرق وتعيش ايامها الاخيرة لكنها اصبحت عاجزة في العودة ماديا ومعنويا فالسفر على الدواب ومعاناة الطريق قد رحل مع ايام صباها لهذا اوصت قبل وفاتها في دفنها في تلكيف ، وكانت قد أدخرت مالا فتحقق لها ذلك .
وهكذا فقد سجلت ماريا رحلتها في بريطانيا في اللغة الانكليزية وخاطبت بها الشعب البريطاني ويظهر انها لم تجد لها رواجا في حينها ، لكننا نؤكد ان ماريا أول امرأة شرقية من مدينتنا الموصل تقوم برحلة جغرافية استكشافية سجلت فيها ملاحظات قيمة لا تكل ولا تمل لقارئ رحلتها ، فتعد مصدرا مهما في الدراسات التاريخية والجغرافية والاجتماعية شأنها شأن الرحالة الياس الموصلي 1668- 1683 م الذي سجل اروع رحلة الى ما وراء البحار زار خلالها اوربا والامركتين وسمى رحلته ب ( بالذهب والعاصفة ) وسجل الرقم الاول في المشرق في الوصول الى العالم الجديد .