(النص الاندماجي بين ظاهرية المعنى وعمق دلالته)
قراءة نقدية لمجموعة ( حياة قاحلة ) للشاعر قاسم محمد مجيد
( النص هو محور الأدب الذي هو فعالية لغوية انحرفت عن موضوعات العادي والتقليدي، وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها)*.. اللغة عند الشاعر ليست لغة مشفرة من أجل طرح رؤاه ضمن السياق المرجعي للغة، بل نجد إن اللغة المستخدمة من قبل الشاعر لغة عميقة يبحث فيها عن حلميه اللغة من أجل أحداث الانزياح، لحدوث الصدمة المعرفية للمتلقي وبذلك استطاع في كثير من نصوصه أن يوجد له منفذ خاص يؤدي به إلى خارج السياق الأدبي المرجعي ، وما جاء هذا إلا استجابة إلى مشاعره الدفينة في أعماقه ومن أجل خروج هذه المشاعر إلى الخارج على شكل هذه النصوص وبذلك تكون نصوصه ، هي أعادة صياغة المسميات ليس حسب سياقها وحركتها في الحياة بقدر ما يسعى الشاعر إلى إعادة توازنها ، وحسب ما يراه فيها من حركة دفينة، أي أنه لا يراقب الأشياء حسب حركتها الطبيعية بقدر ما يعيد صياغة حركتها وفق مستوى البنية الذهنية، لكي ترتقي إلى مستويات طاقة التخيل الرؤيوية لديه .هذا ما نجده في مجموعة الشاعر قاسم محمد مجيد ( حياة قاحلة ) حيث يعطيها الرمز التي تحدده رؤاه في الخطاب الشعري ، وتصبحت النصوص تمتلكه و تملكه إلى حد الانتماء إلى معرفة ذاته، وبذلك يصبح النص لديه رحلة إلى داخل نفسه ومحاكاة إلى الحياة، لذلك نستطيع أن نقول أن اللغة بقدر ما هي تعبير عن الذات بالكلمات بقدر ما هي تعبير عن هاجسك، حين تدركه في لحظة الصمت والهدوء لتغرقك في عالم يمتد بخيالك إلى مساحات واسعة ،وحسب الرموز التي تعطي سياق الدالة وفق مدلولها المعنوي ، أي أن الشعر هو الانغماس بالذات من أجل أن تري العالم حولك وفق طاقة هاجس خيالك ، الذي يحرك معناه ما تمتلك من جزالة اللغة وبلاغتها الحية ، هذا ما نجده في هذه المجموعة …
ص11 نص (انه صندوق فارغ)
(لا يملك أجرة السفر / لا مأوى في مدن الضياء /أو قطاراً عابراً يقله…. /لمحطة أخرى /ولا.. أهل بانتظاره /خيل إليه /العالم اقفل أبوابه.. بوجهه /وان الزمن /بقى له قصير /ويمضي سريعا /هكذا وببساطة!! /صار مثل… صندوق فارغ /وضع في العربة /الخلفية /لقطار )
حينما لا تحقق الحياة التي لا تعطي الإنسان بعده الدلالي لإنسانيته ، يسبب إليه الضياع في الإدراك الوجودي الحي في الحياة ،ويتحول كل شيء حوله إلى هامش لا يرتقي إلى مستويات حضوره الذاتي، ويجعله يتدرج ضمن سلوكيته بفقده الأمن الذاتي ، ما يجعله يعيش حياة مبهمة لا يجد فيها ما يحقق أمانيه ، و ما يجعله غير قادر على التغير من أجل والوصول إلى ما يحلم به ، لأنه لم يعد يمتلك أجرة السفر أو القدرة على التغير ليجد الحياة التي يبحث عنها ضمن قيمته كإنسان ، لأنه فقد الأساس الإنساني في المجتمع( الأهل ) لهذا يتحول إلى هوامش الذي لا يوصله إلا إلى الضياع (لا يملك أجرة السفر / لا مأوى في مدن الضياء /أو قطاراً عابراً يقله…. /لمحطة أخرى /ولا.. أهل بانتظاره ) ، أي يصبح منتفي القيمة فلا شيء يوصله إلى وجوده الفاعل بالحياة ، لكنه يحاول أن لا يصبح هامش لا قرار له في أيجاد من يوصله إلى ما يبحث عنه .والشاعر بني دلالاته الإدراكية على أحساس اللحظات غير منتمية إلى الوعي ، لكي يتجنب الانغلاق بالتيه الذي يلغي وجودية الإنسان ، وهو وبقدر أشر هذه الأزمة وبين تحكمات الظروف المحيطة التي تؤدي إلى كل هذا التهميش، وقد أستطاع أن يبني الترابط المعنوي في رؤيته الموحدة ، لكي يؤشر كل هذا من خلال الاستعارة الدلالية في مجتمع غير مرتبط بمعناه ، و يكون الانتماء فيه غير صميمي وفوقي لأنه لا يملك الحضور القيمي ، وهذا ما يجعل حياته تتهمش ضمن هذا المجتمع ، فيبقى متوحدا مع ذاته . والشاعر أستطاع أن يعطي الأبعاد في سيكولوجية الفرد ، حين يكون كل شيء حوله قاصر عن معناه الذي يوصله إلى الامتلاء من الفراغ الذي يحيط به، وقد أقفل كل شيء أبوابه بوجه، فكيف يجد نفسه ضمن هذا المجتمع وهذا ما زاد توحده وضياعه إلى حد يتحول إلى صندوق في أخر قطار الحياة ، و أن أي يتغير لا يمر به أنه تغير فوقي وغير حقيقي ، (خيل إليه /العالم اقفل أبوابه.. بوجهه /وان الزمن /بقى له قصير /ويمضي سريعا /هكذا وببساطة!! /صار مثل… صندوق فارغ /وضع في العربة /الخلفية /لقطار ) والشاعر بني المدلول قبل أن يؤشر الدلالة لكي يبقى التناظر الدلالي متوهج بعمق أزمة الإنسان المتوحد مع ضياعه ، أي بقى يصعد التوهج الدلالي لكي يعطي لغته الرؤية البصرية، التي تشير إلى حجم أزمة الإنساني ضمن مخاض الوجع وتيه الإنسان الفرد ضمن سلوكيات المجتمع الفوقي والقصير بالرؤيا …
ص28 نص (تذكرة )
(ليت حزنه /مثل الضباب /بل هو /سفَنُ /تصطف على ساحل البحر/تذكرهم /بالبيوت القديمة /وصوت المزاليج /لبيوت الإحزان /ثمة ليل في رأسي /لم يعد فيه وقُتُ للسلم /رأسي!! /كدفتا باب تنغلق على الظلمة /مُنذ متى؟ /حين كُنت….. تذكرةً /تذكرةً /مقضومة بيد مفتش القطار )
يستمر الشاعر بطرح رؤاه ضمن محددات الدلالة ، لكي يوصل المعنى بهدفية بيان حجم الفاجعة في أزمة الإنسان الذي يعيش في مجتمع غير واضح بأهدافه وضبابي في الانتماء ، فبعد أن طرح ما يؤشره في ظاهرية الإنسان وأزمته المتوحدة مع ذاته ، يحاول في هذا النص أن يبين حجم تأثير ما يعيشه من الداخل ، حيث يتحول كل شيء إلى مؤشرات حزن وضبابي في الحياة التي يعيشها الفرد في حياته ، و يحاول أن يكشف تجربة الإنسان الذي يحاول أن يكشف المضمر والمسكوت داخله .الشاعر ويبني نصه الشعري على أفقية لكي يرتقي بخطابه الشعري إلى شعرية الحدث ، أي أنه يكون النص الاندماجي بين ظاهرية المعنى وعمق دلالته التي تؤشر من خلال إلى الاحتفاظ بالمدلول كالهدف النهائي في الكشف ، لهذا يحاول أن يعيد أعادة الحاضر إلى الماضي ، لأن الحاضر لا يمثل إلا التيه كالسفن تصطف على ساحل البحر ، لكي يتم إنقاذ الحاضر من أزمته وإنقاذ الإنسان من حزنه ،لأنه لم يعد متصالح مع ذاته بسبب كل هذا، ما يسبب الصراع داخل الرأس ، لأن لا يوجد انفراج فيما حوله من أجل إزالة أزمته (ليت حزنه /مثل الضباب /بل هو /سفَنُ /تصطف على ساحل البحر/تذكرهم /بالبيوت القديمة /وصوت المزاليج /لبيوت الإحزان /ثمة ليل في رأسي /لم يعد فيه وقُتُ للسلم /رأسي!! ) وحتى حين يحاول أن يحدث النقل أو التغير لا يستطيع أن يفعل هذا لأن هناك ، من يمنع كل هذا هي التراكمات الموجودة في المجتمع الذي لا يريد أن يسعى لأحداث التغير ، أي أن كل شيء مقضوم (كدفتا باب تنغلق على الظلمة /مُنذ متى؟ /حين كُنت….. تذكرةً /تذكرةً /مقضومة بيد مفتش القطار ) يبقى مجرد تذكرة لا توصله إلى غاياته التي ينشدها، لأن كل شيء فقد المعنى ,ولم يعد هناك من مبررات يسعي من خلالها إلى أحداث التغير، وأصبح كل شيء مسكوت عنه ،ولا يبقى سوى الصراع داخل الرأس (ثمة ليل في رأسي) أي تحول كل شيء إلى سوداوي ، لأنه وصل إلى حالة اليأس بأحداث التغير في الحياة حوله ….
ص 30 نص (حياة قاحلة)
(لم /اعثر في أرشيف حياتي /ألا عن …/خيولٍ هزيلةٍ /تركضُ فوق /حقل مطمور بالخوذ /وخراطيش الرصاص /——————- /الريح تلاعب /طائراتنا الورقيةَ /والخيوُط تشتمنا /في الشتاء الذي هيج البحر/كي يفتَح سحاب فمه /ويدخل في سراويل الأيام )
الشاعر أعتمد على اشتغال البؤرة المركزية التي تحرك الحدث الخارجي على التنامي الداخلي ضمن توترات ذاته، وحسب انفعاله الأستدراجي نحو الذات المهشمة في الحياة الاجتماعية ، فهو يطرح الوعي في إشكالية أزمة الإنسان من داخل من خلال المشهد الخارجي ، وبهذا يحقق قلقا وجوديا . أي الشاعر لا يعيش على سطح المسميات بقدر ما ينمو العلاقات التشابكية ما بين الذات الإنسانية وذاتية المسميات ، وهذا ما يجعل النص لديه ، نصوص تبادلية مرة ما بين الذات ووعيها الوجودي ومرة ما بين الأشياء وحركتها المؤثرة في هذه الذات، أي أنه لا يشارك في أحداث تغير في الأشياء وموضعتها ضمن وعيه الجمعي للمجتمع بقدر ما يعيد كشفها، لكي ويبين أسبابها التي تصعد من أزمة وجودية الحياة ومخاضها التأثيري عليه . والشاعر يعيش الذاتيين ( ذاته وذاتية الأشياء ) أي أن علاقته علاقة تمازجية معها ، فهو لم يعثر في أرشيف حياته إلا على خيول هزيلة متعطلة بسبب الحروب والتي تسبب خواء الحياة حوله،وجاء تأثيرها عليه من خلال هذه الحقول المطمورة بالخوذ وخراطيش الرصاص، أي أن أسباب سكونية حياته ليس هو من سببها بقدر هي أسباب خارجية تحيط به فهي قاحلة من الحياة (لم /اعثر في أرشيف حياتي /ألا عن …/خيولٍ هزيلةٍ /تركضُ فوق /حقل مطمور بالخوذ /وخراطيش الرصاص ) أي أنه يحاول الخروج من أزمة السميات حوله ويعطي لحياته أبعاد ايجابية ، ما يجعله قادر على الامتداد بالدلالات المعنوية ضمن جوهرية الحياة ،و تأخذ نصوصه القدرة الامتداد برصد حركة الأشياء حوله ضمن ذاته الواعية، بالطريقة الحيوية التي تبعده عن الظروف القاحلة حوله ، لهذا يكون رصده الرصد الواعي في شعرية المعنى المستنتج من كل هذا ، ما يمده بإحساسات داخلية للبصيرة الشعرية المضاءة من داخل هاجسه الشعري ، و يجعل نصوصه مفعمة بحركة الحياة ودهشتها، وهذا ما نجده في هذه نصوص هذه المجموعة ، حيث يرصد حركة وعيه الداخلي حسب حركة الحياة حوله، والتي يناظرها مع أحساسة الداخلي في وجودية الذات الإنسانية التي تبحث عن مصيرها ضمن مصائر الأشياء وظرفها المؤثر عليه ،لم تعد الحياة حوله ثابتة بقدر ما هي متغيرة في المصير الذي تتلاعب به الريح والمصائر المتغيرة التي لا يعرف أين تصل ، وما يزيد من قلقة الداخلي على أيامه الآتية (الريح تلاعب /طائراتنا الورقيةَ /والخيوُط تشتمنا /في الشتاء الذي هيج البحر/كي يفتَح سحاب فمه /ويدخل في سراويل الأيام ) أستطاع الشاعر من التحكم بالاستعارة الأزاحية ، لكي يحقق الرموز التي تغني نصوصه بأبعاد التكثيف والإيجاز ، كما يحاول أن يبتعد عن الحوار الداخلي الصامت ،لأنه يتابع حركة الحياة حوله ليكتشف البعد التأثيري على هاجسه وإحساساته الداخلية ، لكي لا يحدث التنافر بينه وبينها بقدر ما يعيد كشفها وإعادة تأويليها ضمن ذائقته الشعرية بطريق التجاذب معها ، وجعلها رموز تأويله تعطي إلى شاعريته الأبعاد التكوينية المعنوية، و التي يثري نصوصه بهاجسه المضاء بالدهشة التأويلية ، و يحدث التراسل بين نصه وبين القارئ ، لأن يحاول أن يبتعد عن الوقوع في شرك الغموض والرموز المبهمة ، وهذا ما يجعل نصوصه قريبة التأويل الدلالي في المعنى الذي يريد أن يوصله إلى هذا القارئ .
* نص مقتبس من كتاب الكاتب العربي عبد الله الغذامي ( الخطيئة والتكفير) من البنيوية إلى التشريحية ، نظرية وتطبيق____ إصدار المركز الثقافي العربي ، دار البيضاء – المغرب