الكل متفق على أن عملية كتابة التأريخ بوجهها العام شابها الكثير من الأنحياز مرة والتغطية على بعض جوانبه مرات أخرى، وأيضا هناك رأي عام بين المؤرخين والقراء بشكل عام أن الجوانب المسكوت عنها والمغطاة بدواعي وأسباب لا علاقة لها بفن كتابة التأريخ وصدقيته تشكل جانبا مهما من هذا التأريخ، الدوافع والأسباب كثيرة والمرجح فيها هو دوما إرادة السلطة الأجتماعية والسياسية وحتى الدينية التي ترعى وتشجع هذا النمط من الكتابة المحرفة والناقصة، وكل جهة لها أسبابها ومبرراتها طالما أن هناك تعارض بين ما يريدون أن يكتب وبين وسائل الحفاظ على السلطة والهدف تجاه الغاية التي يؤمنون بها أن تكون ظل الحقيقة، من هنا لا بد لنا ونحن في عصر لم يعد لهذه السلطة القدرة على فرض رؤيتها أو حتى أجبار المؤرخ والباحث أن يكتب وفقا لمشيئتها أن نبادر للكشف عن وجه الحقيقية بالقدر الذي يحمي التاريخ من تزييف أخر.
في حياة الأمم كما هي حياة الأشخاص الكثير مما أهمله التأريخ أو تناساه أو تم تغيبه لسبب ما أو علة ملحوظة، هذا أمر مفروغ منه ولا يشكل عيبا في وجه التأريخ، العيب عندما يكون المؤرخ له شخصية محورية في صفحات التأريخ ذاته ومحور من محاور الوجود اليقيني فيه فسيكون الأمر مختلف وذو توجه مقصود بالإساءة سواء كان ذلك إهمالا متعمدا ومقصودا أو عجز عن ملاحقة الحقيقة ومن مضانها ومصادرها التي لا يمكن أن يرقى لها الشك، خاصة وأن الأحداث لها وجوه وقراءات متعددة كل حسب مقدماته وأهواءه إلا ما ندر ممن ألتزم النهج العلمي والحياد والتجرد في الكتابة التأريخية وهم من أقل القليل.
في مقالة نشرت أخيرا لي عن تأريخية الدين وعبادة التأريخ كشفت بها أمرا قد يكون محل نقاش وربما أنتقاد وهي علاقة الإنسان بالدين والتأريخ التي جعلت من هذه الكائن وبهذا المعيار كائنا متفردا عن غيره من الكائنات الوجودية، وقلت فيها (أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحركه التأريخ والدين دون سائر الوجود الكوني) ، وبالتالي يبقى التأريخ أهم محرك وعيوي يسير الإنسان في حركته الوجوديه وبه يرسم صورته وهويته المميزة والمنفردة.
قضية التأريخ برغم أعتراض الكثير من المفكرين والفلاسفة والمعرفيين يجب أن لا تكون معرقلا في سعي الإنسان للتجديد الوجودي، ولا بد من تجاوز إشكالية التأريخ هذا والتركيز على متطلبات الحياة المعاصرة ومحاولة الأنتصار للإنسان مقابل كل ما يحول دونه والتطور والتجديد في بناءه المعاصر والحقيقي، ولكن مع إيماننا بهذا القول يبقى التأريخ جزء من هذه الإشكالية لأن حاضرنا هو أبن الماضي ومستقبلنا هو وليد الحاضر، فالسلسلة لا تنقطع برغبتنا ولا يمكننا تجاوز خطيئة الأمس لنبي مستقبلا منقطعا عن جذره التأريخي لأننا سنصطدم به كلما توغلنا للأمام.
يعجبني جدا مع تحفظي على مؤديات ونتائج مقولة الفيلسوف الألماني هيجل عندما أختصر نظرية التأريخ بمقولته المشهورة “العقل يحكم التاريخ” ، والتي تعني عندي أن التأريخ فعلا كما هو لدينا نتاج إرادة العقل الإنساني بعيدا عن الواقعية وصدقية الحدث المؤرخ، فالمؤرخ وهو عاقل طبيعي يجنح للعقل وخياراته في وضع التأريخ بالطريقة التي يفهمها عقله وليس بالضرورة كما وقع، فالعقل أيضا بطبيعته ليس مستقيما تماما ولا نزيها ومعصوما من الخطأ، فهو يرى بعين واحد عين المصلحة أو الهدف أو الرؤية التي تسيطر على العقل وتوجهه، ولو كان العقل كاملا وهو يحكم التأريخ ما كان هناك خطيئة للبشر وما كان هناك تعدد في القراءات تصل حد التناقض والتضارب في الحكم، إذن العقل الموظف هو من يحكم التاريخ ويصيغه ويبنيه كما تريد القوة النفسية أن تراه حقيقة العالم .
هناك مقولة فلسفية قديمة تمتد في جذورها للفلسفة اليونانية القديمة التي تنص على (أن الطبيعة تجسيد للعقل وأنها تخضع لقوانين ثابتة)، بمعنى أن التأريخ كتجسيد من صور الطبيعة الكونية وأحد وجوهها هو أيضا نتاج العقل وأنه يخضع لقوانين ثابتة كإنعكاس أصلي للطبيعة، عليه فالعقل هنا هو المسئول الأول عن رسم التأريخ كنتيجة وصنعه أولا، فلولا وجود العقل الإنساني بأي صورة وأفتعاله الأحداث ومن ثم رؤيتها من الواقع ما كان لدينا تأريخ وما كان لدينا هذا الألتصاق به على أنه محرك الحراك الوجودي، فالعقل الإنساني دون كل العقول التي تتمتع بها بعض الكائنات الوجودية لديه هذه الميزة الفريدة التي جعلت منه أسير للتاريخ وأسير للرؤى التي يصنعها التأريخ أو يفرضها عليه، فلا غرو أن نصف الإنسان بالكائن التأريخي المفتون بالزمن وصيرورته في عقله.
هناك رأي أخر يعطي أهمية أقل للعقل في صناعة التأريخ ويركز على موضوعية المكان بمعنى أن الجغرافية هي التي تصنع التأريخ وهي المسئولة عن ظهوره (اتفق الفلاسفة والمؤرخون على انه من اهم اركان المسرح التاريخي فلا تاريخ بدون مكان، اما الانسان فقد كان المكمل الرئيسي للدائرة التاريخية، ولان الانسان من ضمن دائرة التاريخ، كان لا بد من ان يحمله الى محمل العقل والادراك) ، هنا يوضح الكاتب أهمية الجغرافية (المكان) كمسرح تأريخي وليس صانعا ولا مجسدا للتاريخ، فهو يفرق بين المسرح (الواقع) كما هو وبين الصورة النهائية للحدث بعيدا عن المسرح، إنه يتكلم عن الحدث موضوعيا لا عن الحدث كزمن، العقل يكون له دور المشاهد لما يجري في المسرح وكيفية التأثر به معتمدا على ما يثيره الفعل الحدوثي من نتيجة في العقل ليحيل النتيجة له لاحقا وليس أبتدأء كما يقول الماديون والجدليون من أن العقل هو من يصنع الصورة ثم يقدمها للمسرح أو على المسرح.
يقول الدكتور دانيال ليتل المحاضر في جامعة ميتشغان في مسألة علاقة الزمن بالمكان مختصرا رؤيته الكلية بقوله (هناك مسألتان أوليتان تتعلقان بمعظم النقاشات حول التاريخ وفلسفته، وتتعاطيان مع التأسيس للتاريخ وما ننتقيه من الأحداث والمُجريات، المسألة الأولى حول علاقة الفاعلين بالأسباب وسط التاريخ، هل التاريخ سلسلة علاقات بين الأسباب الموضوعية؟ أم أنه سلسلة متشابكة من الأفعال الإنسانية فحسب؟ أما المسألة الثانية فتتعلق بمعيار المجريات التاريخية في الزمان والمكان) ، النقطة الثانية من رؤيته هي الأهم في نظري بخصوص المعيارية التي تجري بها الأحداث مضافا لها المعيارية التي تهتم بالحدث التأريخي وتقدمه، هذه المعيارية هي الجزء الأكبر من المشكل التأريخي كما بينا في المقدمة، وهي العقل الذي يجسد التأريخ صياغة ورؤية ونقل وفهم.
فليس من الموضوعية بمكان أن نعتمد في كتابة التأريخ على المجاراة والمتابعة والميل المصلحي للقوة التي ترى الحدث التأريخي بمنظارها الخاص، بعيدا عن المسرح الحقيقي وبعيدا عن الأمانة العلمية في طرح الرؤية له بتجرد وحيادية، كل هذه المقدمة التي أردت الوصول لها توطئة لمشروع أرى فيه الكثير من الجدية لو أعدنا قراءة تأريخ محدد بشخص هو النبي محمد ص رسول الإسلام، ليس لأنه فقط عنصر تأريخي محوري له بصمة مميزة في التأريخ، ولكن لما يحرك ما تنتجه الدراسة من حوار علمي وجاد يقود للمزيد من البحث التاريخي الذي يؤسس لتأريخ حقيقي بعيدا عن المصالح وبعيدا عن توجهات القوة والسلطة والزيف والإنحراف، هذا المشروع وإن كان يبدو لي من سنين أنه معضلة حقيقية ليس في البحث عن مصادره، ولا في صعوبة تتبع حياة رجل عاش في مجتمع قليل التدوين والكتابة ويعتمد في تأريخه على الشفاهية والنقل عبر الأجيال بطرية الروي المباشر أو من خلال الشعر بشكل أساسي، المعضلة الكبرى في كيفية تقبل هذا التأريخ وقد أمنت أجيال وأجيال بالتأريخ المدون له وأعتبرته جزء من الدين، بل وصل البعض على أعتبار هذا التأريخ هو البدي عن الدين كما نرى في المبحث اللاحق.
يذكر الدكتور (مايكل ماندلباوم) وهو أستاذ ومدير برنامج السياسة الخارجية الأمريكية بجامعة جونز هوبكينز، كلية الدراسات الدولية المتقدمة في إطار مفهوم المعيارية التي يجب أن يكتب بها التأريخ أو صنعه (البشر هم من يصنع التاريخ؛ لكن ما هي طبيعتهم الجوهرية؟ هل توجد أصلاً طبيعة إنسانية موحدة أم إن السمات الجذرية للإنسانية تشكلت تاريخياً؟ )، لقد أثار الكاتب جانب مهم في دور الإنسان بصناعة التأريخ متسائلا بجدية (هل حقا أن هناك ما يسمى طبيعة إنسانية موحدة)، هذا السؤال كما يبدو عميقا في دلالات البحث عن معنى الإنسان وهو مرتبط أيضا بمفهوم أخر هو طبيعة الوعي الإنساني، وكأنما يريد أن يقول هل أن وعينا كبشر تجاه الحدث والتأريخ كزمن بنفس المستوى الذي يجعلنا مؤهلين جميعا أن نصنع التأريخ، وبمقولة أعمق كما أظن (هل الإنسان بعيدا عن المكان والجذر الإنساني يمكنه صنع التأريخ لو أستعان بالعقل؟).
مثل هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة دقيقة لا يمكن التسرع في طرحها وكأنها بديهيات، خاصة وأن التأريخ البشري بوجهيه الصناعة والنتائج لا تساعد بالجزم على الإجابة المحتملة، هناك تأريخ عظيم لبعض الحضارات التي مرت على الإنسان في فترات متتالية ثم أندثر فعلها التأريخي لأسباب ما، وهناك جغرافية كانت خالية من ما يسمى بالتأريخ الأكبر الذي هو فعل الإنسان كمجموعة كبرى وملخصه (كيف لهذه الأطروحات الجازمة أن تنجح في تعليل ما يحدث في السياق الكوني)، ثم تبدلت الأحوال والظروف لتتحول بعض الجغرافية إلى صانع تأريخ وتنزوي جغرافيا ما حتى عن تأريخها لتكون رهينة توقف التأريخ عندها، وهنا اتسأل إن كان الطبيعة الإنسانية واحدة وذات جوهرية ثابتة لماذا توقف التأريخ في مكان وتحرك في مكان أخر؟ خاصة وأن التأريخ ليس تمثيل لمرحلة بقدر ما هو وعي بشري به.
الطبيعة البشرية فيما أرى قد تكون واحدة بشرط ربطها بمحركات الوجود (الزمان والمكان) دون أن نجعل من منظارنا الخاص معيارا بديلا عن الواقعية في تشخيصها، العقل الذي ينظر لتأريخ قديم بمنظار القرن الواحد والعشرين لا بد أن يرى هناك تفاوت بين طبيعته وتلط الطبيعة البشرية التي كانت على مسرح الحدث التأريخي، ليس لأنه يرى من فوق فقط، ولكن لأن مفردات هذه الطبيعة البشرية قد أختلفت وقدمت وأخرت في ترتيب أولوياتها ومفاهيمها تبعا لتغيرات الزمن والمكان، قد لا نفهم مثلا لماذا أستمرت حرب داحس والغبراء أربعين عاما بين قبيلتين على سبب يبدو لنا تافها ومنحطا الأن، لكن في زمنه ومكانه كان هذا السبب وما ورائه جزء من الطبيعة البشرية ليس لدى القبليتين فقط بل تقريبا كمنطق سائد لشعوب عديدة تشترك في مستويات وعيها ومفرداته.
نعود مرة أخرى للمشروع الذي سنباشر الكتابة فيه معتمدين على الكثير من مفردات ما يطلق عليه فلسفة صنع التأريخ، أي فلسفة الزمن حين يكون محركا للإنسان وفاعلا في حركته، لنقرأ الحدث بما هو وكما هو دون أن نقحم أنفسنا في محاولة الدفاع عن تاريخانية التراث وقداسته عند البعض، هدفنا أن نتابع السؤال التأريخي كيف ولماذا ومتى أولا لنصل لاحقا إلى معنى الحدث وقدرته على تجسيد العقل في صنعه أو في الكشف عن رؤيته المتأخرة لما جرى على مسرح المكان، أجزم إن التاريخ الإنساني في كل معاييره المتاحة وكما يظهر لنا يخوض حالات طارئة ومتعددة المسارات والتطورات لا تنتهي عند قانون واحد ولا وفقا لنظرية واحد حتى نختار لها منهج واحد يعتمد على التجرد التام من النظر بعين واحدة ووفق زاوية واحدة، هذا لا يعني عندنا إلغاء التعدد والتباين في الرؤية وما ينتج من تنوع في النتائج، ولكن علينا أن نعي أن الإنسان هو ابن التأريخ والتأريخ هو الذي يجعل منه طبائع متعددة وأتجاهات مختلفة بقدرة تأثيره على العقل.
التأريخ والإنسان عاقلا
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا