2.
في غيابة الذكريات
رميتُ بقافيةٍ للهوى لم تمُت
وعدتُ لقلبي بما كان للحبِّ يوماً قميصاً
عليه دمٌ ليس إلاّ ..
أحمرٌ للشفاه اللواتي نطقن الكذب
قلتُ: ياقلبُ لا تبكِها ..،
تناص مع سورة يوسف؛ فالقميص يرتبط بالحب والفتنة ومابقي للشاعر سوى القميص الذي يشم فيه رائحة الحبيبة المتمثلة بالوطن فيه، ولم يبق للعراق سوى اسمه الذي بات قفارًا دون أهله، بل بات مشاعًا.
رولان بارت، يقول: إن التناصية في حقيقتها هي استحالة العبث خارج اللامتناهي، سواء أكان ذلك النص: بوست، أم جريدة يومية، فاكتابة تُبدع المعنى، والمعنى يُبدع الحياة، وهنا تتلاشى الحدود بين النص والنصوص الأخرى، وتتسع دلالة التناص حيث تذوب النصوص في بعضها بعضًا، ويصبح النص غنيًا بالمعاني والدلالات والأحداث.
ا. هل يمكن القول ونحن نتحدث عن التناص إن أنماط اللفظ تعددت عند الشاعر مكي نزال فقام بإعادة آلية توظيفها عند اختيار المكان المناسب والحدث؟
يجيبنا الشاعر والصحفي مكي النزال، قائلًا:
اختيار موفق للون نادرًا ما أكتبه ولقصيدة اشتهرت على الإنترنت وفي المحافل الأدبية التي كنت أرتادها مشاركًا على المنبر في العقد الأول من هذا القرن.
لم يرضَ عنها بعض النقاد حين سمعوها أول مرة، لكنهم عادوا فأعطوها حقَّها من التمحيص ثم الثناء.
التناص هو حالة من الاقتباس المشروع، فالشاعر يُحاكي نصًّا ما ولكن بلغة وأسلوب جديدين يعبِّر بهما عن نفسه وينتج إبداعه بروح جديدة تتناغم مع النص الأصلي الذي يرتفع سقفه بتفاعله مع نبض جديد، سيما وأن الشاعر لا يستخدم هذه السمة الشعرية إلا مع نصوص راقية تليق بذائقته.
وفي هذه القصيدة وغيرها كانت لغتي حاضرة مع الصورة الأصلية ممّا ميَّز النصوص وجعلها أقرب للمتلقي الذي يمزج إعجابه بالأصل مع انبهاره بالجديد. ولعل ما يجعل النصوص أقرب لنبض المتلقي هو الانهمار الفطري للشعر دونما تكلف يجعله ينفر ويتقوقع في صدفة الأصل الذي يحبه ويعيشه تاريخًا جميلًا لا يريد له أن يُخدش.
نعم، الناتج الجديد يكون متأثرًا بالمكان والزمان الجديدين وكذلك بروحية التفاعل في اللوحة التي رسمها القديم في قريحة الشاعر. النص الجيد (المتناص معه) هو إزميل نَحَتَ في روح الشاعر (الجديد) في زمان ومكان ثم ظهر هذا النحت في زمان ومكان آخرين. كل هذا وغيره من عوامل (منها المخاطَب مثلًا) تتفاعل بجو مختلف ليظهر لنا هذا النتاج الذي – إن وُفِّق – يكون إضافة إبداعية جديدة للشعر.
وبما أنك ذكرت القميص، سنجده متعدد المعاني لو رجعنا للقصة القرآنية العظيمة؛ فهو الذي عليه الدم الكذب (وقد ورد في القصيدة)، وهو الذي أعاد النظر ليعقوب؛ وهو الذي قُدَّ من دبُر! فنحن إذن نتحدث عن قمصان يوسف ذات الرمزيات المختلفة، لا عن قميص واحد. (على الأنبياء السَّلام).
****
3. وهل أضفى التَّناص صفة الاستمرارية لظاهر النص وباطنه في شعرك من حيث تعدد الأصوات داخل النص الشعري الواحد؟
يجيبنا قائلًا:
أحب التناص فطريًّا وربما لأني نشأت كغيري من العراقيين والعرب في واحة القرآن وارفة الظلال.
في النص القصير أدناه ورد تناصّان أحدهما القميص والآخر الهدهد، بينما في النص الذي اوردتموه كان هنالك القميص والذئب؛ لكن في كل مرّة يختلف التوظيف فجميع الشعراء تقريبًا لهم تناصات مع القرآن الكريم أو غيره (قد يكون التناص مع أمثال أو قصائد قديمة أحيانًا).
والسؤال هنا: هل أجاد مكّي النزال هذا الفن؟ وهل أخذه جاهزًا من غيره أم انَّه جاء به بلغته الخاصة؟ وما درجة إبداعه فيه؟ أسئلة كبيرة ننتظر من النقاد والمهتمين بالشعر الإجابة عنها في كل مرة تُذكر.
دَمٌ كَذِبْ
عَلى قَميصِ قِصَّةٍ
لَمْ تُخْتَتَمْ كَما يَجِبْ
وَهُدهُدٌ طَوى المَدى
وَطافَ دونَما هُدى
فَضاءَ حُلْمِهِ الرَّحِبْ
وَعادَ خالِيَ الوِفاضِ
يا أَحْمرًا تَغَمَّدَ الْبَياض
أَيُّ ذِئْب؟
وَأَيُّ جُرحٍ نازِفٍ
إِلَيْهِ تَنْتَسِب؟
حَقائِقٌ لِلزِّيفِ تَنْقَلِب
فَتُكْرَمُ المُدى
وَالْحَقُّ يَحْتَجِب
.
4. بماذا تعرف مفهوم التناص في الثقافة العربية ؛ هل المصطلح intertextuality ترجح ترجمته إلى التناص أم إلى ” بَيْنصّية” يعني(بين- نص) ؟
يحدثنا، قائلًا :
أشير أولًا أن التناص مصطلح جديد لا تذكره المعاجم لأنه حديث وقرأت لكم أنه “بألوان ثلاث أولها وثانيها الاجترار والامتصاص وثالثها التحوير وظهر مصطلح التناص أولما ظهر عند(جوليا كريسيفا) عام 1966م،إلاّ أنّه يرجع إلى أستاذهاالروسي (ميخائيل باختين)،وإن لم يذكر هذا المصطلح صراحة واكتفى( بتعددية الأصوات)،و(الحوارية)،وحللها في كتابه فلسفة اللغة ،وكتاباته عن الروائي الروسي (دستويفسكي)،وبعد أن تبعته جوليا وأجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة اللغةالشعرية)،عرّفت فيها التناص بأنه (التفاعل النصي في نص بعينه)ثم التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حوله،وتوسع الباحثون في تناوله ، وكلها لا تخرج عن هذا الأصل،وقد أضاف الناقد الفرنسي (جيرار جنيت)لذلك أن حدد أصنافا للتناص .
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص ،وأصبح بمثابة ظاهرية نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والإهتمام،وشاعت في الأدب الغربي،ولاحقا انتقل هذا الإهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي ،إضافة إلى الترسبات التراثية لأصلية.” (انتهى الاقتباس بتصرف).
وأقول: أما الاجترار والامتصاص فهما مجرد اقتباس دون أن نغير النص أو أن نغير فيه شيئًا قليلًا وهنا يأتي الظلم للثالث (الذي أسموه التحوير) وهو المبدع الذي لا أسميه تحويرًا بل تطويرًا مبدعًا فيه جِدَّة تخدم النصّين المتناصَّين معًا. وبما أن المصطلح جديد عندنا فلقد حاول اللغويون إعطاءه كلمة متوافرة فاختاروا textere اللاتينية ومنها أُخذ الآخران في الفرنسية والانجليزية (كما وردا في السؤال). بهذا سأتطرف قليلًا وأقول إن كل المسميات وبكل اللغات تدخل في القواميس الحديثة فقط ويأخذ اللاحقون ما قاله السابقون دونما نقاش لا طائل منه.
ولولا أن المصطلح أصبح واقع حال لقلتُ إن تسمية (التشارك النصّي) هو الوصف الأصح، لكن المحدثين يحبون أن يضيفوا بصماتهم الحداثية على الترجمة.
وفي نهاية جوابي الطويل أنوّه لمصطلح آخر حديث هو (التَّلاص) وفيه يعني النقّاد الأصلاء أن بعض الطارئين على الأدب يسرقون صور غيرهم بحجة التناص، فهم ليسوا إلا لصوص الأدب ولا يليق أن نسايرهم في ادِّعائهم ولذلك وجدوا لهم مصطلح التلاص سخرية منهم وتنكيلًا بهم.
انتظروا قادمنا