د.علي ثويني
لسان المجتمع وبيئته
إن الدراســات الإجتماعلسانية/ Sociolinguistiques، تدرك بجلاء أن اللّغة والمجتمع وجهان لعملة واحدة. أي بينهما علاقة جدلية ، بحيث إن أي “إساءة” للإنسان من منظور إجتماعي / لساني، قد تؤذي أيضا لغته، والعكس يصح أيضا. وأنه لا يمكن فهم اللّغة وقوانين تطورها بمعزل عن حركة المجتمع الذي يمارس اللّغة كسلوك اجتماعي في الزمان والمكان. يقول (فيرث): “لنبدأ نعد الإنسان ليس مفصولا عن العالم الخارجي الذي يعيش فيه، إنه ليس إلا جزءا منه … فكلامك ليس مجرد تحريك اللسان أو اهتزاز الحنجرة، إنه أكثر من ذلك نتيجة لعمل العقل في تأدية وظيفته كمدير للعلاقات، لتحفظ عليك سيرك في المحيط الذي تعيش فيه.” لقد ركز الإجتماعلسانيون، أمثال فيشمان وفيرث ومالينوفسكي وماييه، اجتهادهم قصد إكتشاف الأسس والمعايير الاجتماعية التي تحكم السلوك اللغوي مستهدفين إعادة التفكير في المقولات والفروق التي تحكم قواعد العمل اللغوي، ثم توضيح موقع اللّغة في الحياة الإنسانية، وهذا ينطبق بالتمام مع العمارة ، حيث نرصد التحول الذي طرأ على عمارة بغداد خلال الطفرة العمرانية خلال العقود الأربع أو الخمس السالفة،وهي حالة نموذجية من التحول الكبير في بنى المجتمع العراقي الذي شهد نقلة من إنفتاح ومخملية خمسينية وستينية الى علمانية قومية عروبية في السبعينات وبداوة وطنية شمولية ثمانينية دغدغت الروح الوطنية العراقية وألغت الذاتوية بصفاقة، ثم تلاها خطاب ديني شمولي تسعيني بما دعي (الحملة الإيمانية) غطت بجهالة العيوب والشرخ الحاصل في الأخلاق والقيم من أثر سابق،ومارست الحقيقة الطائفية المموهة وأظهرت الضغائن الغريزية على الملئ،وطفقت بالجانب المعماري في بناء صروح فرعونية (مساجد وقصور) صارخة للحاكم مستلة بغل وضغينة من أجواف شعب يتضور من الجوع والفاقة والتشرد،و واكبها حصار وفوضى عارمة وطفوح صارخ للانانيات وزوال الخط الهلامي المرهف الفاصل بين الخاص والعام، وأشاع هرج “العنتريات” البدوية ،وبالمقابل النزعات “المهدوية” ،بغرض التصبير والإيغال في الإذلال، ثم تلاها فوضى وإحتلال . كل تلك النقلات المتناقضة الكبرى والخطوات المتباعدة والنائية عن الإنسيابية الثقافية ،نلمسها متداعية ساطعة في كم وكيف التشويه الذي حصل على لهجة العراقيين اللسانية وكم الكلمات السوقية التي تشيع حتى اليوم ،وأنعكس بالمقابل في عمارة غوغائية تصرح عن ذوق بدوي وشعبوي وليس شعبي،مع خلط بين مقدس ديني وأعراف رعوية وفلاحية، تحكم بخلطتها غير المتهاجنة عاصمة البلاد وممثلة مدنيتهاوحضريتها، فدمغتها بسمة هي خلطة بين بدوية عشائرية وقروية طائفية، فلم نعد نلمس حدود صريحة بين المدينة وخلاء الأرض على تخومها، وأمست المدينة قرية كبيرة مترهلة. وهكذا دفعنا الثمن غالياً خلال تخبط وتضحيات ، تماهيا مع المشروع الأمريكي المتناقض والمبطن والمنافق في العراق.
يشهد من ترك العراق مثلي لقرابة اربعة عقود وعاد ليلمس تلك الطفرة التي أشهدها في اللسان الذي تدنى وأصبح سوقي ودهمائي، وغابت البغددة والروح الحضرية. أما في العمارة فنشهد التلوث المفاهيمي العاكس للتلوث البصري، والتراكم التقليدي والإبتذال الشعبوي ، والتمظهر الكاذب والعناية بالشكل ، والتنمر بحلول إنشائية ومعمارية مبهرجة ومرقعة وخيلائية وتستنسخ الواحدة الأخرى بغباء، على حساب المضامين البيئية وهبوط النوع وغياب التنوع والإبداع.ولابد أن نلحظ الكدر وروح الشكوى والتظلم صريحة على ألسنة العراقيين ومحيا عمائرهم ،و نادر من يبادر. ربما لا أبالغ إذا قاربت بين الهبوط في مستوى اللّغة المثقفة النخبوية التي أنحسرت وترجعت اليوم، يحاكي شيوع العمارة الهابطة. كل ذلك يجعلنا ننبه من مغبة التمادي بإهمال الثقافة وشجونها،ومنها الألسنة والفنون، التي تبقى الدالة والدليل على رقي الحياة البشرية.
لا تنأى اللّغة عن سطوة البيئة المحيطة مثلما العمارة التي تمكث أنساق لمعطيات بيئوية سماوية وأرضية وتفقد دفقها أو تستجد ماتحتاجه للموائمة مع البيئات الجديدة. إن اللّغة مثلما العمارة مرهونة بجهود الإنسان وتدخله وإجتهاده ،ولايمكن أن تتطورا ذاتياً. فالعربية التي قدمت من الجزيرة تطورت حينما وطأت بلاد تضم ثقافات لغوية راسخة مثل العراق والشام مثلما العمارة الإسلامية التي كتب لها أن تكون شاخصاً حضارياً من خلال سّنة الإقتباسات من راسخ ورصين منتج الشرق القديم المعماري. وهنا حري بتتبع كل عنصر ومفردة وإصطلاح لنجد له الأثر الأقدم في ذلك المنتج . وللعراقيين “دون تشدق ولا غرور ولا دعاية” دور فعال في إرتقاء العربية لساناً ، والعمارة الإسلامية فكر ومنجز على حد سواء،فلولا مدرستي (العراقين) الكوفة والبصرة، لم يكن بالإمكان أن تنتقل تلك اللّغة من لغة روحية منتجها القرآن أو شفاهية متناقلة في الأشعار الى لغة من أرقى لغات الدنيا ثراءا بالمفردات، وهندسة للبنى وتفسير للقواعد، والتي أستجدت الكثير من النتاج العقلي والتظيمي والبلاغي والبياني. والأمر عينه يجعلنا نتسائل: لماذا انشأت أول الحواضر في العراق (الكوفة والبصرة) واكبرها واهمها كبغداد وسامراء، والجواب موجود في باطن الأرض التي وجدت تحت تلك المدن لأثر عراقي أقدم، وما سنن إنشاء المدن الإسلامية إلا إسترسال تطوري لتقليد عراقي راسخ منذ سومر قبل الإسلام بأربعة آلاف عام.وهذا هو سر إنشاء البصرة على تخوم الأبلة الأكدية، والكوفة فوق تراكم لمدن سومرية وبابلية شهدت عليها الحفريات المتأخرة،التي وجد طبقة لمدينة بابلية وأخرى لمدينة آارامية مسيحية مترعة بالكنائس وصلبات النواويس. كل تلك المعطيات التي كشفت عنها معاول الحفريين دحضت سياقات السرد التأريخي الواردة من كنف التأريخ الإسلامي الملتبس، التي أرادت أن تطمس حقيقة المكان الولاد للمدن قبل ورود شعب من الجزيرة بعقيدة دينية ناضجة وسياق من منتج محلي وإنساني محض. وهنا نحذر من مغبة تحميله ما لايحتمل ، ولابد من الإعتراف دون وجل أنه لم يملك منهاج لإنشاء المدن كما كان عليه أهل العراق، إذا نزعنا المقدس وسير (السلف الصالح) من كل ما حشي قسراً في مدونات التأريخ.
وهنا لايمكنني أن نفرق بين مقتفي الحداثة المعمارية “المنفلته” أو الناسخة لما سبقها ،حتى لو وسم أصحابها أنفسهم بالـ (حداثيون) ،حينما نظروا الى لغاتهم بدونية لصالح لغات أخرى ولاسيما الغربيه بحجج سقم التراث وعجز اللّغة، ومايقابلها من عدم كفاءة الحلول المعمارية التراثية في سد الحاجات المستجدة في حياتنا. ولنا في أزمة الكهرباء اليوم، درس بليغ على أن حلول التراث المعماري نافذة لكن زمان بنفس المكان، مثلما هي اللّغة الشعبية أو الوطنية المثقفة التي أحتقرها البعض ولا نقصد هنا الشعبوية والسوقية.ولايفوتنا ان نشير الى ان الإصطلاح المعماري العربي من مصدره العراقي المفعم بالآرامية الموروثة من سومر وأكد وبابل ،قد وطات ثقافات راسخة كما الفارسية في بواكير التلاقح الثقافي بعد الفتح ،وغلبت التركية والتترية في سمرقند وبخارى في شروحات العمارة السامانية(نجدها في ضريح إسماعيل الساماني 907م) والسلجوقية(ق13) والتيمورية(ق 15) ثم والعثمانية(ق:16-17) ،وطغت على لغات الهند وعمائرها إبان العمارة المغولية(ق:16-17).
الترجمة والإصطلاح
لما كانت اللّغة لسان الحضارة ، وبالتالي مرآة تعكس ما أحرزته من تقدم ورقي، كان لزاما على المجتمعات الطامحة إلى التقدم تطوير ملكات اللّغة كوسيلة عاكسة للصعود وميسرة للتواصل،وتشهد في رحلتها بعض الإقتباسات ممن سبقها، لذلك تسعى الى الترجمة للإطلاع على منجز الآخرين،وقال إبن خلدون في ذلك( إن غلبة اللّغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم)،وهكذا فالمدنية والعمارة لابد أن يعكسا الإرتقاء ويشهدا عليها في كل زمان ومكان. إن الفرد إذا حرم من الرموز اللغوية فإنه لا يفكر، فالفرد المتوحش البدائي الذي لم يستعمل الرموز اللغوية لا يستطيع أن يتخيل أو أن يقوم بعملية حسابية ابتدائية.
وصلة اللّغة بالعمارة تتجسد في الترجمات والإصطلاح. والاصطلاح الفني والمعماري لفظ يؤدي المعنى بوضوح ودقة، ويعبّر عن اتفاق طائفة على شيء مخصوص. ويرد في التراث بصيغة (علم استعمال الألفاظ) ويصفه تاقنوجي: هو من فروع علم البيان؛ وهو علم يُبحث فيه عن استعمالات الألفاظ، في المعاني التشبيهية والكنائية، بطريق الإستعارة والمجاز؛ وهذا الفن في علم البيان بطريق الكلية، وفي هذا الفن بطريق الجزئية([1]).وعرَّفهُ آخرون بأنه أداة البحث ولغة التفاهم بين الفرقاء، ولاوجود لعلم أو فن بدون قوالب لفظية معينة، بشرط أن توضع تحت إشراف أهل الشأن والمشتغلون و المعنيون. وعلى هذا فإن شرطه الأول هو: اللفظ، والمعنى،. ويعد الاصطلاح المعماري إحد الركائز الأساسية للتعبير المنهجي؛ إذ بدونه تسير لغة التواصل بين المعماريين على رجل واحدة، وتتعطَّل عملية الإبداع والابتكار. ويمثل الإصطلاح الوافد من ثقافات أخرى، تحدّياً عظيماً على إختبار قدرة اللّغة على إستيعابه والتعبير عنه وما لم تتمكن اللّغة أيّ لغة من ذلك فإنها توصف بالعقم والعجز والقصور. وبذلك يعدّ المصطلح من أهم مفاتيح التطور؛ ويعد تعدد المصطلح أو المترادفات وتداخلها مشكلة تؤدي إلى التشتيت. وهذا ما تعاني منه الثقافة العربية التي تفتقد الى التنسيق والتوحد، فكل صقع تبع لمن إستعمره، وثمة إصطلاح إنگليزي أو فرنسي أو حتى إيطالي،وهناك التسميات المحلية التي تعوق التواصل المفاهيمي الذي يخدم الثقافة عموما،ويوسع دائرة الإطلاع ويعمم الفائدة. فلنأخذ على سبيل المثال مصطلح Computer الذي ترجمه ذوو الثقافة الإنجليزية إلى (حاسوب-حاسبة) و مصطلح Ordinateur الذي ترجم إلى (نظامة) من قبل مترجمين ذوي الثقافة الفرنسية ، وهكذا أصبحت صناعة المصطلح بالعربية تفرق اكثر مما تجمع ولاسيما انها تعكس عقليتين مختلفتين إحداها فرنسية سفسطائية وأخرى إنگليزية “بيكونية” تطبيقية ،وبالنتيجة فإنها تخدم وتروج لمن يسكن الضفة الأخرى،و كما يقول ” فرانز روزنزفيغ ” ( F.Rosenzweig ) ، إن الثقافة العربية تشي وكأنها تخدم سيدين، وتمارس الدونية المعرفية .
وهناك إشكال في الثقافة العربية يكمن في خلط بعض المترجمين بين نظرية الترجمة وعلم المصطلح ، هذا الخلط يؤدي غالبا بهؤلاء إلى الاعتقاد بأن المصطلحات ما هي إلا ترجمة أو تعريب للمصطلحات الغربية بحسب مصدرها، في حين إن خلق المصطلح يعتمد على توليده من جذر اللّغة انطلاقا من المفهوم المطلوب التعبير عنه دونما إرتكاز على المعنى الظاهر لها، ونشهد على فوضى إصطلاحية تعاني منها الثقافة العربية خلطت الكثير من المفاهيم دون منطق،ومازلنا نشكك في الكثير منها،ونجزم ان ثمة حاجة لأعادة نظر منهجية وواعية لكل ما أصلحنا عليه. لابد أن يطلع المترجمون على علم المصطلح والمعجمية والباع المعماري(نفضل أن يكون واضع المصطلح معماريا)، ومصادر الكلمات في لغاتها القديمة أو الأجنبية،من أجل الإلمام قدر الإمكان بقواعد توليد المصطلحات وسبر روحها وليس شكلها، وتوحيدها ومعرفة خصائص المعاجم العامة والمتخصصة.ونشهد هنا أن المصطلح رهن بسمو التحضير الحضاري والعلمي للثقافة، حتى أننا لنجد رصانة في الإصطلاح التراثي اكثر منه في الحداثي في الثقافة العربية، ونضرب المثل بترجمة إصطلاح المنطق او علم الكلام من مصدر(logos) اليوناني، بعدما بدى أقرب إلى لغة او كلام أو نطق .ولناخذ مثلا إصطلاح (إصلاح) الشائع في السياسة ، فقد ذكر محمد عابد الجابري بأنه مصطلح غربي المنشأ أصله اللاتيني reform، والذي يعني “إعادة التشكيل”. لكنه عندما وصلنا أخذناه بمعنى repair، أي إصلاح العطل الذي يحدث لآلة ما، مثل السيارة([2]). وما يؤكد كلام الجابري ما جاء على لسان ولي عهد دبي في احد المؤتمرات، ردا على المطالبات الدولية للعرب بضرورة الإصلاح: “هل لدينا شيء مكسور حتى يصلّح؟”!.ونجد غير ذلك الكثير من المغالطات في الإصطلاح.
وغير الخلط الإصطلاحي هناك خلط منهجي في القراءات ، إذ نقر بالتشويه الذي حصل في الثقافة العربية على كثير من معطيات التأريخ وأعتمد مصادر كتب صفراء حملت آراء غرائبية ومنحازة.وعلتها أنها لم تطلع على الثقافات القديمة والتي كشفت بفضل علم الحفريات منذ ثلاثة قرون والبحوث المضنية التي اتبعها أجيال من علماء الغرب في ذلك وأمتدت حتى عامين مفصليين 1822 في الكشف عن أسرار الكتابة المصرية و1857 عن الكتابات العراقية.وجدير بالذكر أن ثمة كتاب منسي لعالم عراقي نبطي يدعى (إبن وحشية) عاش في القرن التاسع الميلادي كشف فيه اسرار الكتابات القديمة، من خلال كتابه(شوق المستهام في كشف اسرار الأقلام) ولاسيما الكتابة المصرية.
والكتابة في تأريخنا ألبست المدنس المعماري بالمقدس، ونسبت الأمر لغير أصحابه ،وأنحازت لجهة دون أخرى،سيرا على الطبيعة البشرية الحابة والكارهة، وثم أمست بعد تقادمها “للأسف”، شهادات دامغة ومصادر موثقة ،ولاسيما لمن صدقها على علاتها ،وكررها كالببغاء، وحتى تمادى ودافع عنها،وما اكثرهم ، بعدما نأى القوم عن إخضاعها لسطوة العقل وتمريرها خلال مرشح الأخلاق، الذي يستدعي الحيادية في إنساب الامور لأصحابها. وهكذا وبسبب وضعنا في حالة كر حضاري (لساني ومعماري) فقد مررت وأنطلت علينا الكثير من المسوغات التي يجب “برأينا”إعادة النظر بها وإخضاعها لمنهج (شكوكي skeptic) صارم، ينسف الحشو والغث ويحتفظ بالحجة الدامغة والسمين من المعلومة والإصطلاح في كنفها.
وما زالت تعج كتب التراث لدينا بالمغالطات، بعدما تبعت لأهواء شخصية ومصالح سلطوية وسلطانية، وتبنت خطاب فوقي ،فسمّت الأوابد و المباني بأسماء الملوك والسلالات الحاكمة وليس طرز وطنية أو منتج شعوب او مقترنة باسم المنشئ المعمار، في حالة من إنكار فضل المبدعين جماعات وأفراد .وبذلك أمسى تأريخنا المكتوب محض سير لملوك”عظام” و”أمراء همام” و”عصور ذهبية” و”سلف صالح”، ولا خبر لمنجز الناس أصحابه الحقيقيون. لقد فضل مؤرخوا التراث الإسلامي ان ينسبوا الأشياء ولاسيما الإصطلاحات العربية من أصل آرامي او أكدي او حتى سومر الى الفارسية مثلا، والتي أثبتت البحوث الحفرية الحديثة وكشف أسرار اللغات القديمة ذلك وهكذا ومثلما تتكرر حالة التهميش للمغلوب ،حدث أن أزدري (النبط) سليلوا الدهور العراقية، وأدغم الكثير من منجزهم ونسّب إلى أصول شتى ولاسيما فارسية بعدما أختلط مفهوم الموالي والأعاجم في الفرز بين السلطات المحتلة والشعوب المبدعة. وصنف هذا المنتج “شعبوي”، الذي أطلقَوا عليه(الشعوبي)، ونسب للدهماء والسوقّه الناطقين بهذه اللّغة التي عمت الشام والعراق والجزيرة العربية والخليج العربي وحتى أجزاء من مصر، وشاعت الى الشرق ووطأت الصين والهند،ولم يؤسس الآراميون دولة سياسية كما كان “الساسانيون” الذين تداولو اللّغة الآرامية في (دواوينهم). لقد كانت الثقافة الآرامية الاثرى في تأريخ الالسنة البشرية ومنها وجودها في أسفار العهدين القديم والجديد (التوراة والإنجيل) كمصدرين روحيين ، وتركت أثرها الواضح في العربية، التي ورثتها بإعتداد. بيد أنها مكثت ثقافة المغلوبين عسكريا ،حتى لو كانوا غالبين حضاريا وثقافياً،وذلك بحسب “منطق” البداوة. وسنجد دائما أن جل المصطلح الإسلامي المعماري محض إنسياب لمصطلح آرامي سابق،كون العربية الآتية من الجزيرة بلهجتها الحجازية كانت لغة دين وروحانيات أو لغة أعراب أكثر منها لغة إصطلاح معماري تعكس طرز معمارية راسخة.
لقد ورد الإستشراق بعد النهضة الغربية التي تبنت الصراع الديني وسارت على هدى الإحتواء الازلي الكامن في (السليقة التأريخية)،والذي تصاعد لاحقا إبان حقبة الإستعمار التي تماهت مع الخطاب القومي الغربي الذي فرز بين طبيعة الشعوب بحسب مقدرتها على تكوين ملكاتها الحضارية، ولاسيما في اللّغة والعمارة، ونجد جلهم من أزدرى (شعوب الشرق والجنوب)، حد الغثيان ، و نسبوا كل المنتج إلى البيزنطيين والفرس مثلا كونهم “أولاد عمومة آريين”، ،وأمست القبة العراقية الواردة باكورتها في حضارة جرمو الواقعة على تخوم الموصل شمال العراق في الألف السابعة قبل الميلاد ساسانية والقبة الشامية أمست بيزنطية، بالرغم من أن بيزنطة جاءت متأخرة جداً في تراتبية التأريخ، وحتى أن أسمها فينيقي (كنعاني) ،ورد من مركب (بيز-أنات) أي ضرع الآلهة أنانا(مازلنا نسمي الضرع بز في العراق)،كون الأناظول اصلها (أنات-وليا) اي بلاد أنات أو أنانا (عنان) السومري، وميناءها او ضرعها (بيزنطه)، التي تحولت من قرية وميناء الى إمبراطورية وثقافة، وحتى روما التي خرجت فسيلة منها أسمها سومري، كان قد اطلقها عليها الأتروسكيون القادمين من الساحل الشامي والناطقين بلهجة سومرية متأخرة بحدود العام 900 ق.م، على قرية في سهل (لات) اي العريض(منها وردت كلمة لاتين) عام 735 ق.م، مستوحيه ومتبركه بأسم ( الرحمن) في الإسلام أو (رامان) آلهة المطر والبرق المضي والرعد الطارق .
وجدير أن نذكر أن المعمار الألماني “الدكتور” (كلدوي) ،الذي سرق بوابة عشتار عام 1899 بتزكية ومباركة عثمانية ، كان قد صرح بأنه يريد ان يدرسها عن كثب “لديه في برلين” ليثبت إنها محض إقتباسات من فنون”فارس الآرية”.لكن علم الحفريات، الذي يقل به الغش والتمويه اثبت العكس تماما، وأعلن دون دجل بأن فارس (الآرية) ومنتجها محض صدى لصوت المنتج الدهري العراقي، وإنها نشأت بعد ألفي عام بعد نشوئها في السهل العراقي .وهكذا كانتا اللّغة والعمارة مسرحان طبق في كنفهما الدجل القومي وأنطلت خلالها السياقات الفارزة والعنصرية التي عدّت اللّغة مصدر الفكر ودليل صفاء الدماء،ومن ثم صنفت تلك الدماء الى طيبة وخبيثة وذكية وغبية أو منتجة ومستهلكة، ثم تلاها نسب كل ماهو خير ومهم الى الغرب و”الآريين” والهامشي والساذج الى “الساميين”، حتى قلب علم الحفريات المجن على ترهات تلك التوجهات،وجاءت النتائج عكسية تماما، وتبين أن العراق وبعدها مصر بنيا لحوالي ثلاث آلاف عام حتى تمخض الغرب بؤرتان حضاريتان دعيا أثينا وروما(حوالي القرن السابع قبل الميلاد). ومن المفارقات أن أثينا وروما يقعان معماريا ضمن النطاق البيئي للبحر المتوسط الذي أملى معطياته صريحة، وشتان معماريا على الأقل بين أهل الشمال المدعين إنتسابهم لهما، وبين تلك البيئة القريبة من بيئات الشرق القديم،ولاسيما أن جنوب البحر المتوسط مكث ضمن النطاق الجنوبي الحضاري، وأمسى بيئيا ومعماريا يمت الصلة للحوض البحري كله كما هي المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر الدنيا ، ولسانيا للمحيط العربي الإسلامي الواسع.وهكذا نجد غضاضة في الكثير مما سوق لنا وأنطلى على ذقوننا من طروحات “علمية”!.
وعلى العموم وبصدد تكريس الذاتية في الثقافة العربية لابد أن يُتَّخَذَ اصطلاحاً معماريا، ويدخل في الثروة اللفظية للغة والتي يجب أن تتحقق فيه الشروط العشرة التالية :
-1البساطة والوضوح في الدلالة على الفكرة المعمارية أو الفنية.
-2الإيجاز والاقتصار ما أمكن على أقل عدد من الكلمات والحروف.
-3أن يكون موضوعياً في دلالته بحيث لا يكون مقصوراً على جانب دون آخر.
-4ألاَّ يتعدد الاصطلاح للمفهوم العلمي الواحد ذي المضمون الواحد في الحقل العلّمي الواحد،وأن لايتقاطع ويتناقض المفهوم المعماري مع مفاهيم علمية أخرى مثلما حال الإصطلاح الصوفي في الثقافة العربية.
-5أن يتم وضعه بعد الرجوع إلى لغات أخرى ومقارنته ومقاربته ليكون أكثر دقة وشمولية وقابل للرواج.
-6أن يسمح بالاشتقاق بما لا يضر بكيان اللّغة. ويتفرع عن ذلك أيضاً ضرورة ترجمة الاصطلاح المفرد بمفرد مثله، لأن ذلك يساعد على التصريف والاشتقاق.
-7أن يمكن ضبطه بتطبيق قواعد تحديد شكل الإصطلاح؛ كأن يعبِّر عنه بصيغة المفرد أو الجمع، أو فرزه إلى مكونات مستقلة يعبر عن كل منها بصيغة الاسم وتستخدَم بصورة مستقلة.
-8 نفضل ان نعود في كل خلاف أو حتى أن نختار الاسم القديم حتى لوكان من السومرية او الاكدية او الكنعانية أو الآرامية أو الهيروغليفية، لنثبت إسترساله من ميراث بشري أقدم،بما يدلل على رسوخه.
9- البحث عن جذر الإصطلاح في اللّغة الأجنبية، إن كان لاتينيا او أنكلو سكسونيا او سلافيا او يونانيا، وكل تلك الثقافات نهلت من الثقافات الشرقية الكثير الذي أمسى تراث مشترك، حتى لنجد أحد”الأكاديميين” قد أستنتج من وجود ثمانية عشر الف كلمة إنگليزية من أصل عربي. وهنا نشير الى ان اللّغة الإنگليزية لم تتكون بشكلها الحالي إلا قبل أربعة قرون لاغير،وكل اللغات الغربية لايتعدى تداولها إلا لقرون قليلة خلت، وإن اخبار سومر المتروكة على الطين قبل خمسة آلاف عام أكثر تفصيلا وشمولا من أخبار أوربا قبل خمسة قرون فقط. لذا لابد من رفع غشاوة الدونية التي تحتاج الى الوعي وسعة الإطلاع، والمصدر الأول للكلمة، مثلما كلمة (nation) التي أصلها (natio) ناسيو اليونانية والتي ترجمناها (قومية) و(وطنية ) وترجمها الهنود (أهلية) وهي محض (ناس) مثلما في العربية.
10-الحذر من الخلط بين المصطلح التراثي والحداثي، ولابد من ذكر ذلك وتبيانه للقارئ، كما في مفهوم(التراث) أو (العمارة الإسلامية) اللذان وردا من سياقات حداثية او إستشراقية وبحثية غربية.
[1] صديق بن حسن تاقنوجي-ابجد العلوم- الجزء الثاني
[2] جاء ذلك في مقالة نشرها بجريدة “الاتحاد” الإماراتية بتأريخ 26/7/2004 تحت عنوان “مفهوم الإصلاح”.