بقلم: الدكتور زاحم محمد الشمري
تُعرّف “الحضارة” بأنها نتاج تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية، لترويضها وتسخيرها له واستغلال إمكانياتها، حيث يكون للانسان الدور الرئيسي في تكوين الحضارة الإنسانية الى جانب دور عوامل البيئة الطبيعية والموقع الجغرافي، التي تؤثر في الحوادث التأريخية، وتكسب الحضارة طابعاً مميزاً لكل بلدٍ من البلدان.
كان لموقع العراق الجغرافي وما يزالُ أثرٌ مهم في سيرته الذاتية التأريخية، سواءٌ من الناحية الإقتصادية أو أهميتهِ العسكرية، أو من ناحية تركيبته السكانية واتصالاته بالبلدان المجاورة له، مما جعلهُ أن يكون مؤثراً في مسيرة التأريخ والحضارة، وتكون له مكانة مهمة في تأريخه القديم والحديث، ليس لانه “مهد الحضارات” البشرية فحسب، بل لانه غنيٌّ بثرواتهِ الطبيعية، ولاهميته العسكرية بالنسبة للاقوام المتعاقبة التي استوطنته. حيث أكسبه هذا الموقع ميزةً تجعله مشرفاً على القسم الشرقي من الشرق الاوسط. وهذا الجزء من الشرق مهمٌ في موقع العراق الجغرافي لانه يقع على الجسر الارضي الذي تلتقي فيه قارات العالم الثلاث آسيا وأفريقيا وأوربا.
وأضحى العراق خلال العصور التأريخية القديمة طريقاً مهماً يصلُ الأمم الغربية بالأمم الشرقية من خلال الطرق التجارية التي تصل بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، واقطار الشرق الاقصى عبر الخليج العربي والمحيط الهندي. ولموقع العراق أثر كبير في تركيبته السكانية، فهو يقع بين منطقتين تقل فيهما الموارد الطبيعية، اذ تحده من الشمال والشمال الشرقي مناطق جبلية، ومن الغرب والجنوب مناطق صحراوية فقيرةٌ في مواردها الزراعية والمائية، مما جعله محط الانظار وهجرات الاقوام من المنطقتين المجاورتين التي تقل موارد العيش فيها. الامر الذي دفع أقوام عديدة أن تهاجر الى العراق.
ونتيجةً لهذه المميزات وهجرة الاقوام الى العراق، فقد أُنشأت في بلاد ما بين النهرين المسماة Mesopotamia “الدولة الاكدية” المشهورة في منتصف الالف الثالث قبل الميلاد، نسبةً الى العاصمة أكد، حيث أُطلق اسم الاكديين واللغة الاكدية على سكان العراق من الجزريين الشرقيين. واستوطن العراق من
بعدهم الكنعانيون الشرقيون والغربيون ومنهم الفينيقيون ما بين الالفين الثالث والثاني قبل الميلاد، الذين ينحدرون من القبائل الاّمورية. حيث أسس الاّموريون في العراق دولاً كثيرة نتج عنها تحطيم “امبراطورية أور” القديمة للسومريين واقامة عدة دويلاتٍ على انقاضها. وأعقبتها بعد مئة عام هجرة آمورية ثانية، قامت منها عدة دويلات اشهرها “سلالة بابل” الاولى للفترة ما بين 1894 الى 1595 قبل الميلاد، والتي اشتهرت بملكها السادس “حمورابي” (1792-1750)، الذي سن ولاول مرة في تأريخ البشرية القوانين لتنظيم حياة الناس، والتي دونتْ في مسلتهِ الشهيرة الموجودة حالياً بمتحف اللوفر في فرنسا. وقد شهد العراق قبل هذه الفترة نهضة هندسية في مجال تسوير المدن ليتمكن اهلها من صد الغزاة.
وأنتشرتْ القبائل الاشورية في شمال العراق في الالف الثالث قبل الميلاد، وأسستْ دولة استمر حكمها حتى عام 612 قبل الميلاد. بعدها تدفقت القبائل الارامية الى وادي الرافدين ما بين القرن الرابع عشر والقرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأقامت لها عدة دويلات آخرها وأشهرها دولة “بابل” الحديثة، التي اشتهرت بملكها نبوخذ نصر الثاني.
إنَ إتصال سكان وادي الرافدين منذ أقدم العصور بعدة أقوام من الخارج عن طريق التجارة والاسفار والفتوحات، مؤثرين ومتأثرين حضارياً، أدى بالنتيجة الى تغلغل بعض هذهِ الاقوام الى مَوطنِ هذه الحضارة، حيث دخلوا في تركيبة سكان المجتمع العراقي القديم، بعد ان استوطنوا في مناطق متعددة في شمال ووسط وجنوب العراق. ومن هذه الاقوام، بالاضافة الى العرب، الكوتيون والميديون والكشيون والحوريون. حيث ساهمتْ هذه الاقوام، التي نتج عنها التركيب الحالي لغالبية سكان العراق الحديث، في بناء صرح حضارة ما بين النهرين Mesopotamia، التي تُعدُّ أعرق الحضارات في العالم. وكانت حضارات السومريين والبابليين والاكديين والآشوريين التي دامت عشرات القرون منبع الحضارات الإنسانية اللاحقة.
إن ظهور الامبراطوريات والدول والتكوينات السياسية في الاقسام الجنوبية من العراق في حدود اربعة آلاف سنة قبل الميلاد، أوجدَ الحاجة الماسة الى سن القوانين والاعراف، لتتمكن هذه التكوينات السياسية من تسيّر أعمالها اليومية وإدارة شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مما دفع العراقيون القدماء الى إكتشاف الكتابة في وقتٍ مبكر، والتي عرفها العالم من خلالهم فيما بعد، لاهميتها في تدوين قوانينهم واخبارهم ومعاملاتهم الاقتصادية والقضائية. حيث يشير ذلك الى وجود مجتمعاتٍ متطورة حضارياً وعلمياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، قطنت العراق في تلك الفترة البعيدة من الزمن، لتكون الاساس والانطلاقة الاولى للتطور الحضاري، الذي نشهده الان في العالم الحديث.
وتعد الكتابة المسمارية واحدة من أهم المحصلات الحضارية التي حققها الانسان العراقي القديم، إذ كان لها الفضل الكبير في وضع اصول التأريخ المدون للبشرية، كما تركت أثراً كبيراً على مجمل الحضارة الانسانية، وبواسطتها استطاع الانسان أن يسجل علومه ومعارفه وتراثه وينقله الى الاجيال المتعاقبة.
ولكي نثبت العلاقة بين الماضي القديم والحاضر المتقدم، نشيركم الى قانون حمورابي، أشهر ملوك العهد البابلي القديم وسادس حكام سلالة بابل الاولى، الذي حكم في الفترة ما بين 1792 الى 1750 ق.م. الذي عُدَّ من أكثر القوانين المكتشفة تقدماً من ناحية الاعداد والتنظيم، مقارنةً بالقوانين المكتشفة الاخرى، الذي ظل المحور الاساسي لاي دراسة تأريخية قانونية في العراق القديم لكونه أكمل وأنظم قانون مكتشف. وكان لحقوق الانسان والمرأة نصيبٌ في هذه التشريعات الىتي تهدف الى تنظيم الحياة الاجتماعية للعراقيين في تلك الفترة الموغلة بالقدم.
وشريعة حمورابي، التي وضعت تحت شعار – “من أجل أن لايضطهدُ القوي الضعيف، ومن أجل ضمان العدل لليتيم والارملة … ومن اجل نشر القوانين والقرارات العادلة في البلاد، ومن أجل ضمان حق المضطهد” – كانت الاكبر حجماً والاكثر شمولاً، وتتكون من 282 مادة قانونية، منها 92 مادة تخص المرأة فقط، حيث وجدتْ العديد من النصوص التي تنظم حياة الأسرة وتحفظ مكانة ودور المرأة البابلية في العراق القديم. الامر الذي يشير بوضوح الى ارتقاء تشريع حقوق الانسان الخاص بالمرأة والعناية بأمورها.. فقد كان للمرأة حق الطلاق من زوجها، ولها حق رعاية الأولاد، وحق ممارسة العمل التجاري، ولها أهلية قانونية وذمة مالية مستقلة عن ذمة زوجها، ولها الحق في الرعاية والنفقة، كما وضُعت عقوبات قاسية على الشخص الذي يسيء معاملة المرأة، أو ينتهك حقاً من حقوقها الثابتة في القانون المذكور . أما من الناحية الدينية فكان للمرأة قسط هام في الكهنوت وادارة المعابد واقامة المراسم الدينية.
وهناك نساء في العصور القديمة للمجتمع العراقي قمن بأدارة البلاد أو القضاء، ومن أهم الامثلة على تبوء المرأة مقاليد الحكم جاءت من العصر السومري، اذ يُذكر في قائمة تسلسل الملوك السومرية أن أمراةً تدعى ((كوبابا kubaba)) كانت قد استولت على عرش مملكة كيش في حدود 2420 ق.م. وتمكنت من حكم البلاد في تلك الفترة. وكان منهن حاكمات مقاطعات مثل أميناي Aminai التي حكمت في حدود 1380 ق.م. وللمرأة العراقية مشاركات في العزف على الالات الموسيقية والغناء في مختلف العصور.
وسجل الآشوريون سابقة مهمة وفريدة من نوعها في تأريخ العراق القديم في الالف الثالث قبل الميلاد، حين تولت أمرأة المنصب الاعلى في دولتهم بعد موت زوجها الامبراطور شمشي، الذي خَلّفَ وراءه أبنه القاصر أدد – نرازي الثالث، فتولت أمه شمورامات (التي عُرفت في المصادر الكلاسيكية اليونانية واللاتينية بأسم سميرا أميس) الحكمَ وصيةً على ابنها، وحكمت البلاد نائبة عنه لمدة خمس سنوات.
وعلى الرغم من أن بعض القوانين القديمة للاقوام التي استوطنت في العراق على مر التأريخ، كقوانين أوركاجينا راور، و نموولبت، وعشتار ، واشنونا قد جردت قانون حمورابي من صفة الاسبقية في الصدور، لكنها تشيرُ الى تطور القوانين في تأريخ المجتمع العراقي القديم، بما يتلائم وتطور المؤسسات والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حين كان المجتمع يقوم على الانتاج الزراعي البدائي ويسوده الخوف نتيجة إستمرار الحروب والغزوات.
وتجدر الاشارة هنا الى أن شريعة حمورابي قد نظمت الكثير من أمور القضاء والقضاة، وشهادة الزور والاتهام والكذب والسحر ، وعمل العمال وحقوقهم. فقد كان للعامل الحق في التمتع باجازة مدفوعة الاجر، كما حددت اجور العمالة اليومية واجور العمال الزراعيين ، ونظمت عقود العمل واجور الحرف اليدوية. كما عالجت المواد (48- 52) من شريعة حمرابي حالات تسليف الفلاحين، واقراضهم مبالغ من المال من أصحاب رؤوس الاموال، مقابل فوائد ثابتة أو نسب معينة من انتاج الارض. و أقرت شريعة حمورابي حماية خاصة لاموال الاشخاص، وفرضت العقوبات على من يعتدي عليها، كما فرقت بين عدة انواع من الجرائم، منها الاعتداء على الاموال والسرقة وهروب الرقيق واختطاف الاطفال.
وهكذا نجد أن تطور التشريعات القانوية وحقوق الانسان في مفهوم ذلك الوقت في بلاد مابين النهرين كان ملازماً للنهوض الحضاري، الذي شهدته تلك الحقبة الزمنية من تأريخ العراق القديم، الذي يؤكد تطور النظمُ السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه، والتي تشير الى وجود حضارة متطورة … وعليه نستطيع أن نستخلص من دروس التأريخ، بأن هناك علاقة وثيقة بين العدالة الاجتماعية والتشريع القانوني، الذي يصون حقوق الانسان، وبين النهوض الحضاري الذي تتطلع اليه الامم والشعوب في العالم. فالانسان يبدع في الحيز الذي هو فيه، ويستطيع أن يقدم المزيد من العطاء، عندما يشعر بالطمأنينة على كيانه الشخصي والعائلي والفكري، وتصان حقوقه وواجباته.
لذلك فإن مقولة حمرابي التي ارتكزت عليها مسلة التشريع هي عنوان مجدٍ وعظمة له ولغيره من ملوك تلك الحقبة الزمنية، الذين أستطاعوا عن طريق القانون بناء حضارة وادي الرافدين العظيمة لتنهل منها الحضارات الاخرى في وقتٍ كان فيه الظلام يغطي ارجاء المعمورة.
وكان للحكم الاسلامي اثر كبير في تاريخ العراق وحضارته، حيث كانت بغداد عاصمة للامبراطورية الاسلامية ابان الحكم العباسي للفترة من (750- 1258م) والتي امتدت حدودها من الهند والصين شرقاً الى اوربا غرباً، حيث اهتم العباسيون بتطوير العلوم الانسانية والطبيعية والثقافية وترجمتها الى اللغات الحية الاخرى، بعد ان اسسوا مراكزاً للدراسة والترجمة في بغداد والمدن الرئيسية التابعة لها، بحيث اصبحت بغداد العاصمة في تلك الفترة قبلة لطلاب العلم والمعرفة من جمبع انحاء العالم، والتي افل نجمها فيما بعد نتيجة للحروب والانقسامات الداخلية بعد العام 1258م.
ونتيجة للحروب المتتالية وعدم الاستقرار ، التي مر بها العراق خلال تأريخه الطويل والى يومنا هذا، تعرض أرث هذه الحضارة الانسانية الى السرقة والمتاجرة غير الشرعية من قبل المهربين وتجار الحروب، وضعفاء النفوس. حيث تم، وبمساعدة الشرفاء في العالم والمنظمات الدولية، متابعة آلاف القطع الاثرية المهربة، ووضع اليد عليها في أمريكا وأوربا وآسيا، وإعادتها الى العراق.
لذلك ندعو جميع الشرفاء في العالم من المختصين في مجال الاثار وغيرهم والمجتمع الدولي بشكل عام الى إبلاغ السفارات العراقية في الخارج او مراكز الشرطة المحلية، في حالة أن رأوا أو سمعوا، بأن هناك أثار عراقية مهربة معروضة أو تباع في مزادات الآثار العالمية والاوربية على وجه التحديد لغرض اعادتها الى موطنها الاصلي العراق، انطلاقاً من الواجب الانساني الذي يحتم علينا جميعاً المحافظة على أرث هذه الحضارة الانسانية في بلاد ما بين النهرين.
——————————————————————————————
المصدر:
⦁ لجنة من الباحثين: “حضارة العراق”، في (12) جزءاً، بغداد 1985.
⦁ مجموعة مقالات حول حضارة العراق.