تماسكُ الثيمة .. وملامح تأثّيث الصورة الشعريّة
في ديوان (شطّ العرب) للشاعر العراقي منذر عبد الحر
سعدي عبد الكريم
تُعدُّ الثيمة (theme) العماد الارتكازي المؤسس للمنتج الادبي والفني المُدوَّن ، وهي القوام الناشط والفاعل في تشييد الاطار العام لبُنيّة النصّ الشعريّ بفعالية قوامه اللّغوي وانتقالاته الزمكانية ، ومحكم فضاءاته السرديّة التراتبية المُتقنة المراد توصيل فحواها الى دائرة التلقي عبر الاستثمارات النَّسقية التي تدعم بإمتياز ملامح تأثيث الصورة الشعريّة ، وفق منظومة ركوز استثمار المحطات المشاهداتية في ذاكرة الشاعر ، ومن خلال الخزين القرائي المتراكم الذي يخلق لديه وعياً متماثلاً مع حركة النصّ وديمومة خلقه ، وهذان العنصران يستدعيهما في لحظة المذاكرة مع مخيلته الناهضة ، لإنتاج مُلهم شعريّ يتواءم مع موسيقى عالية ، وجرسية مُنغّمة ، وايقاع مُتَّزن ، ولغة رصينة ، واقتضاب قصدي يفضي الى خلق حالة مُثلى من التكثيف، ومنع ظهور حالة التَّرهُّل السردي عليه ، ومن ثم توظيف هذا المُجمل من المعطيات من خلال مكنوناته الفكرية الناشطة ، وفعاليته الاجتماعية المعاشة ، ليكوّنا مصدراً مهماً من مصادر تمرير (المُشفَّر) الذي لا يمكن الإباحة به علناً ، خوفاً من الوقوع بالمباشرة أولاً ، ومحاولة الهروب من التقريرية ثانياً ، والابتعاد عن ملامسة السائد التقليدي ثالثاً.
ويمكن لنا تصنيف (الثيمة) في تجلّياتها الموضوعية على انها الأقرب إلى فحوى (الإطار العام) او السقف الذي تستظلّ بظلّاله مجموعة من الموضوعات ، وتندرج في متنها العديد من الأفكار المختلفة في الشكل ، لكنها لا تختلف في مصبّها النهائي داخل (وحدة الموضوع) الاصيلة.
إن عملية (تماسك الثيمة) داخل النصّ الشعريّ بصفتها مورداً هاماً من الموارد الفنية ، والتقنية ، والجمالية في تأثّيث الصورة الشعريّة الماثلة للكمال ، والتي تبرز في مجَّسات ، وفسحات الملمح الشعريّ ، ولكونها تتمظهر في جلِّ المُجاورات الفنية في صياغة المنتج السردي الذي تدور حلقاته في فلك الفكرة (الثيمة) لأنها العتبة الآمنة ، والقاعدة الأمينة التي تنتمي اليها مراصد الابتكار ، وسطوة الدهشة ، ومكامن الإبداع ، وهي البوصلة التي تحتكم اليها ملازم الفطنة التدوينية ، وتنساق إليها المُخيّلة الساحرة ، والنَّفَس الواقعي الرفيع ، لكي ترتقي إلى ملاحق أكثر اتساعاً من خلال منطقة التَّوءمة بين الفكرة من جهة ، وبين البُنيّة النَّسقية للنصّ الشعريّ من جهة ثانية ، ويأتي ذلك من خلال تنشيط المحرك الداخلي ، وتحريك فاعليات التأثير الخارجي ، ومحاكاة المُعبَّر التراتبي الحقيقي للوظائف الزمكانية ليحاذي الثيمة الأصيلة للنصّ ، وربما تتوزع إلى ثيمات مجاورة متتالية ، وافكار متفرعة عديدة.
ومن المؤكد ، ان جميع الاشتغالات الأدبية ، والثقافية ، والفنية تحكمها موارد وضوابط (الثيمة) لأنها جوهر الكتابة ، ولأنها البوصلة التي توازن جميع الفعاليات التدوينية ، وتنساق إليها موارد ترتيب الاجندة المرسومة في وعي الكاتب او لاوعيه ، لتلقي بها داخل عملية محاكاة الافعال ، التي تثبت في اطارها الابتدائي الثيمة الأصيلة ، لتتوزع داخل النصّ إلى ثيمات لاحقة تالية لخلق حالة من استقرار المبثوث ، وعملية تلقيه بأمثل الصور.
إن الثيمة في رأينا .. هي الفكرة الأساسية ، أو التكوين الرئيس للنصّ ، والاطار العام له ، وتتمحور ضمن ضوابط ومعايير النظرة النقديّة ، على اعتبارها شكل من أشكال الارتقاء بالوعي التدويني لمحاكاة الموجودات من الظواهر المادية المحسوسة ، والملاحق التي تكتنفها محيطات المظاهر الواقعية ، والارتقاء بها صوب المبعوثات المخيالية باعتبارها المعيار الأساس في تنشيط الفاعل المُتبنّي للفكرة في تأسيس النصّ ، وهذا ما يستدعي العين النقديّة للنظر اليها بالكثير من الدراية التفحَّصية ، ومُكنة الإمعان في مؤديات تأثيرها على المنبت الأصيل في تكوين النصّ من جميع جوانبه التدوينية الفنية المؤثرة ، لسحبه أو استدراجه الى حيزات دائرة التلقي النموذجية.
و(الثيمة) هي النظام الأكمل في توجيه جهد الكاتب الى حيثيات النصّ ، باعتباره المُتسيّد على خارطة المتن التواصلي مع المتلقي ، واتخاذ جملة من التدابير الابتكارية المُلهمة ، لإيجاد طريق سالك في اختيار الثيمة الملائمة لنصّه ، وهذا ما أكده (رولاند ب توبياس) حيث صرح قائلاً:-
(إن الثيمة هي نظام توجيه يعمل بالجهد الذاتي لخدمة الكاتب ، فإنها توجِّه قراراته حول أي طريق يتخذه ، وأي الاختيارات ملائمة لنصّه).
وقد جاء تعريف (الثيمة) في مجمع اللغة العربية على إنها نقل حرفي للكلمة اليونانية (θέμα) وتُنطق (ثِيمَ) وتعني في الأصل (مَوضوع) ثم أصبحت تدلّ على (الموضوع الرئيس) في الأعمال الأدبية بتنوع اجناسها العديدة ، وتُترجم إلى العربية بـ(مَوضُوعة) وتُجمع على (مَوضُوعات) وهذه الترجمة مستعملة بجانب اللفظ الأجنبي الـمُنقول حرفيّاً (ثيِمَة).
ووفق هذا المنطوق في تفسير الثيمة ، فقد اختلفُ شخصياً مع من يترجم الثيمة (theme) على إنها الموضوع والفكرة معاً ، ومزج اللفظين في ترجمة واحدة ، لأن مفردة (subject) بالانكليزية تعني (الموضوع) وأميلُ على استخدام مفردة (الثيمة) على اعتبارها المحيط الاشمل ، والإطار الاكمل في اتحاد الموضوعة الرئيسة في النصّ لتتفرع منها الثيمات المحاذية ، واعتقد بأن هذا الفهم هو الاعم لــ(الثيمة) والمستثمر في مخاصب الكتابة الأدبية ، والدرامية ، وأجد من الضروري التمييز بين الثيمة والموضوع ، لأن نسق عمل كلّ مصطلح منهما يشتغل في حيزات مختلفة ، ومناطق متفاوتة في مناشط البثّ الإبداعي المُبتكر ، ولأن الثيمة في محفزاتها المُلهمة تعني (الفكرة الأساسية) أو(التكوين الرئيس) داخل إطار النصّ ومن هنا يجيء التفاوت في اللفظتين.
وعند ربط هذه المنطوقات التنظيرية مع منطقة القراءة الأولى ، وبمزاوجة مع حفريات الكاشف النقديّ للمنتج الأدبي ، يتبين ان عتبة النصّ تشي في جلّ الأحايين ، وابتداء من موسوم النصّ الى (الثيمة) التي يمكن لها الإفصاح عن المدخل الناطق عبر منظومة الفكرة الأصلية ، بمجاورة قصدية وفاعلة مع الثيمات المحاذية الأخرى لها والتي تتفرع منها جملة من الصور التي تدور في فضاء الفكرة الأولى ، ولعلّ من الأمثل لفحوى الإطار العام الذي يمكن تطبيقه على المُدوّن المسرحي ، والروائي ، والقصصي ، باعتبارها اجناس ادبية وفنية تُخلق من رحم الثيمة ، وتُعزّز ارتباطها الوثيق في تصوير الأحداث المتلاحقة مع تراتبية الحبكة او العقدة ، بداية من المشهد الاستهلالي للنصّ ، مروراً بالمشاهد التالية ، والوقوف عند منطقة الذروة التي تتأزم فيها الأحداث ، وانتهاءً بالحلول المأساوية ، او الغابطة التي يركن لها الكاتب باعتباره المُنفذ الأصيل في اشتغالات اللعب الحُرّ داخل نصّه ، ووفق ملازم تغذية الأحداث ، والتي اكد عليها أرسطو في وحداته الثلاث في كتابه فن الشعر:-
1- وحدة الموضوع
2- وحدة المكان
3- وحدة الزمان
وعند الركون الى استثمارات الثيمة في الشعر فإنها اي (الثيمة) تبدأ في التأسيس الابتدائي حتى الفسحات المترابطة والناشطة الأخرى في مخيلة الشاعر للتعبير من خلالها عن مكنوناته الداخلية ، والمؤثرات الخارجية للوصول الى موارد توزيعها وفق منظومة تتَّسم بدراية ماهرة ، وامكانية عالية في تأسيس المشهد الشعريّ ، ليستطيع من خلالهما تأثّيث الصورة الشعريّة عبر الثيمة الأصلية المُنتخبة ، وهذا بطبيعة الحافز الوجداني ، والمؤثر الحسي اللذان يستدعيان الشاعر وبخاصة في قصيدة النثر الى خلق حالة من التوأمة بين البُنيّة الداخلية ، والمؤثر الخارجي ، واستثمار المُخيلة ، والاقتضاب ، والانزياح ، وضبط الإيقاع ، واستثمار الموسيقى الداخلية بجرسيتها المُنتقاة ، لتجتمع هذه العلامات المتداخلة لإنتاج نصّ شعري متكامل ، عبر لغة بارعة في فن التصوير الشعريّ ، وناهضة في تأسيس الفضاء النصّي من خلال رصّ مشاهده المتلاحقة والتي تتمحور في سياقات الاستيطان في محاور البثّ الشعريّ الرفيع المستوى.
ومن وجهة نظرنا النقديّة ، ومن خلال موسوم الدراسة بقيمتها التداولية العالية ، ومباعثها البثّية الناهضة ، ومن خلال معالم ارتكازها على الثيمة ، فقد دعتنا رغبتنا الحثيثة في تطبيق المشروع بأنساقه وتفرعاته الاكاديمية للولوج الى عوالم توزيع جهدنا النَّظري ، فكان الخيار الأمثل ، والاختيار الأكمل ، هو الوقوف عند عتبات الشاعر العراقي (منذر عبد الحر) في اختياراته الصعبة والمؤلمة لثيمات نصوصه ، وفي تأصيل ملامح تأثّيث الصورة الشعريّة فيها ، والذي انتج لنا ديوان (شطّ العرب) الذي أدار دفته بقدرة فائقة ، واعتنى عناية لافتة بمحاور وموسومات نصوصه ، وعرف كيف يؤثّث مشهده الشعريّ عبر مجموعة من الملاحق الجمالية التي استطاع من خلالها ان يضبط الإيقاع الخفي في تماسك الثيمة التي تتجوّل بترف لغوي مخملي ، ورقي صوري باهر ، لخلق ملامح ذلك الفضاء السرمدي لرمزه المُعلن والمُشفّر في آن واحد (شطّ العرب) تلك الايقونة البصرية الساحرة ، والعلامة المضيئة الكبرى الماثلة في خاصرة الازمنة ، والتاريخ العراقي الناصع ، وما يحيط بهذه الساحرة من جمال أخاذ ، وافراح مؤجلة ، وخسارات متتالية ، ومآسي موجعة ، فقد تجوّل بنا (عبد الحر) برفقة نصوصه داخل البصرة واحياءها ليستذكر رموزها ويرثيهم ، وينتقل الى مدن عراقية أخرى ليحطّ بمراثيه على مشارف كينونة مبدعيها ، ويتسع في مداولاته اللفظية ، ليؤثث الصورة الشعريّة المُنتخبة عبر سلاسة لغته ، وتوجيه الفاعل المؤثر في الجسد الشعريّ ، للارتقاء بالنصّ الى مناجع فائقة الدقة في انحيازها لصالح منافعه الصوريّة ، والاجتهاد في بثّ معاناته ، والتركيز على مخزون آلامه ، وفواجع مآسيه من خلال الفقدان المتتالي لأقرب أصدقائه ، او ربما الوقوف ملياً ازاء السؤال الكونيّ في معنى (الموت) وأشكاله المأساوية التي تبعث على الأسى والحزن وكأنه يتقمَّص دور (كلكامش) في الملحمة السومرية الخالدة ، وهو يبحث عن نبات الخلود داخل مناطق الفقد في مُعتمات حياته.
لقد حصد الشاعر (منذر عبد الحر) الناتج مع محصلات حياته الغير متصالحة مع النهايات المأساوية ، او ربما الناقمة على معادلة (الحياة والموت) عبر ذلك الايقاع اليومي المُتسارع ، ويمكن لنا القول بأن الثيمة الاصلية ، والثيمات المجاورة التي تتوالد من رحم تلك المعاناة كان قد خبرها وعاشها الشاعر البصري بتفصيلاتها الدقيقة في زمكانية محددة ومُنتقاة ، كان قد ولد في رئتها لتصبح متنفساً لبثّ همومه ، فكان لها النصيب الأسمى في المحفل الانتمائي ، والرصيد الانبل وهو يتغنى ، او يذرف دموع أوجاعه على ضفاف (شط العرب) لتتوزع تلك الملاحم الشعريّة الناهضة من قصائد الديوان في مخملية بثّها وتلاحمها داخل بوتقة الفاعل الناجز للملامح الصوريّة واللّغويّة الانجازية التي بزغت في حيزات الضّوء واحتوت تلك الابعاد الجمالية ونقلتها الى عوالم مثالية انتهائية مقدسة ، ستكون حتما ارحم من عالمنا المُتخم بالحروب والخراب والموت ، والفقد المفاجئ الذي كان له الأثر الفاعل في تأثيث صوره الشعريّة ، المليئة بالوجع كما يُفصح عنه الشاعر في مقطع من قصيدته (انكسار) التي استهل بها الديوان ، ليخبر المُتلقي بأن الاغنيات الشاحبة ، والقرابين ، وترنيمة الوجع ، قد احاطته وهو يرسم على الموج لوحته الشعريّة الماتعة :-
رسمت على الموج
اغنيات شاحبة
وقرابين
تصعد الى السماء
نساء ملثمات
بالسراب والزبد
ليحلق دخاني بآهاتهن
وهو يؤدي ترنيمة الوجع
في هذا المقطع الشعريّ الذي امتاز بالكثير من الصدق مع الذات ، والوضوح التام لكشف الواقع المؤلم التي يكتنفه الغموض ، بتوالي المؤثرات الداخلية في ملامح تأثيث الصورة الشعريّة التي احاطت (عبد الحر) ليرتقي الى منصّات خلق مفردات الحبك النصّي من خلال فواجعه اليومية لينتخب المفردة المؤثرة التي تستطيع الافصاح عن عوالمه المأساوية ، حتى انه راح يرسم على الموج اغنياته الشاحبة ، واختار القرابين التي تصعد الى السماء ، والنساء الملثمات بالسراب والزبد ، هذه الصور التي تنمّ عن مديات الالم والحزن التي يعيشها وسط ركام من الاحباط والفجيعة ، حتى انه لا يتوانى في رصد مشاعره المُتدفقة ليحلق بدخان اهات النساء المفجوعات اللاتي كُنَّ امهات وزوجات وحبيبات وقرابين للحرب ، ليزيد الفواجع اليومية ، ومداخل الموت السريّة ، وهو يحمل كلّ هذا الاسى ليؤدي ترنيمة الوجع على النساء المكلومات بالفقد ، ولحالته المحبطة من تكرار ذلك الفزع اليومي للموت ، او ربما يعزف ترنيمة الدخان هذه على وطنه الذي يرزخ تحت نزق الساسة ، ومقصلة الحرب ، لينزف دماً طاهراً ، ثم ليهدي للحرب جثث ابناءه الصاعدة الى السماء.
ولابد من الاشارة هنا .. الى ان جلّ قصائد الديوان الاربع عشرة مهداة الى اصدقاء ومجالين للشاعر كان قد خطفهم الموت عنه مبكراً ، ليعبَّر عن مأساته تلك عبر الثيمة الاولى من بداية اول نصّ الى اخر نصّ في الديوان ، فهو يؤكد هذا الفعل الانساني النبيل من اول موسوم لنصوصه التي حملت عنوان (انكسار) ومرورا بنصّ (الى الذين رحلوا) الى آخر نصٍّ فيه الموسوم (العليل) وتضمن الديوان العديد من القصائد المهداة الى شعراء وأدباء راحلين ، فهو الحدّ الفاصل والواضح للاعتراف بالحزن ، والوجع الذي يشعر به ، باعتباره احد أطراف معادلة (الحياة والموت) ويتجلّى هذا الوجع في موسوم الديوان (شطّ العرب) الذي كان شاهداً جيّاً على الفواجع والخيبات ، وأزمنة خلّت بجمالها ، وخرائبيتها ، ومرورا بقصائد الإهداء المعنونة الى الناقد (حسين سرمك حسن) والقاص والروائي (محمد علوان جبر) والشاعر (كزار حنتوش) والشاعر (جمال حامد الفريح) لتصبّ قصائد الديوان في صالح تلك المأساة التي يعيش في كنفها الشاعر (منذر عبد الحر) فقد تقاسم مأساته واوجاعه المتتالية ، وحزنه العميق رغيفاً مع (شط العرب) فجاءت النصوص مكفولة بذلك الابهار في تماسك الثيمة ، ليؤثث من خلالها صوره الشعريّة الباذخة الهيبة والجمال والنبل الإنساني.
كما يؤكد على ذلك في قصيدته الموسومة (من يسبق من) المهداة الى الناقد الراحل (حسين سرمك) والتي يصرح بها تصريحاً قصدياً واضحاً :-
من يسبق من؟
الرياح شديدة
قلت لي ذات موتٍ
لنبعثر خطواتنا
نشتم الكراسي
نكسر ارجلها التي
دعكت زهور حياتنا
في هذا المقطع الذي يُرثي فيه الشاعر (عبد الحر) صاحبه الراحل (حسين سرمك) فهو بذات لحظة الرثاء هذه ، يطرح سؤالا كونياً كبيراً في معادلة التسابق ، ومفاد السؤال (الى اين؟) ربما يكون التسابق الى لحظة الانتظار ، او إلى حياة استشرافية قادمة ، أو الى لحظة انتظار الموت ، او لحظة القيامة ، ويتساءل من يسبق من؟ ، هذا السؤال المُحيَّر الذي يبدو للوهلة الأولى بسيطاً ، لكنه عميقاً في نسقه الفلسفي لأنه الحدّ الفاصل بين (الوجود والا وجود) وهنا يرفع الشاعر لافتة احتجاج كبيرة يعلن فيها تعثر خطواته مع صديقه في الحياة ، ليرفعا صوتهما ويلعنا الكراسي لأنها السبب الرئيس في قذفهم داخل اتون مأساتهم اليومية الخانقة ، وهي البلاء الاكبر الذي جرَّ عليهما ويلات الحروب والخراب ، او ربما الزجّ بهما في إعتام السجون ، فهو يدعو لكسر ارجل تلك الكراسي التي كانت سبباً في تحطيم زهوهم ، وكانت الأصل في دعك زهور حياتهم ، التي كانا يحلمان في تدشينها بالحُبّ ، ويحيطوها بالجمال.
إن عملية البحث عن الصورة ، أو الصور التي تحتضن في محيطاتها المُعلنة والخفيّة قدر من الجاذبية بما يكفي لتعضيد (تماسك الثيمة) في النصّ الشعريّ ، وهذا الفعل الديناميكي المُحفّز في البحث المُتوالي عن الصورة المثيرة ، والمدهشة ، والفاعلة في جسد النصّ قد تفرَّد بها (عبد الحر) بلياقة الشاعر المُجدّ ، وعبقرية الضليع في اللغة ، والساحر المتأمل ، وسلاسة الباثّ ، وحزن المكلوم.
ونعتقد من خلال قراءتنا لديوان (شط العرب) بأن هذا الفعل المختبري قد أمتلك نواصيه الشاعر عبر ملكته المخيالية العالية ، ولمساته الواقعية المنتقاة ، وقدرته الفائقة على التصوير ، ورصده للظاهرة اللّغوية ، وميزات استثماراتها الخلاقة السلسة ، والتي اسميها شخصياً بــ(الاستثمار السحري للغة) والإجادة في تحصين دوالها ، بمدلولاتها الناجعة من خلال لغته الرصينة ، ومن ثم البحث عن تراتبيات الحادث اليومي وفق النظرة المُعبَّرة عن فواجعه ، والامتثال لمجمل تداعياتها الآنية المؤقتة , والمزمنة ، او باستدعائه للماضي للاستلال من حيثياته القديمة ومواطنه الجميلة الآسرة ، او فواجعه المأساوية والخرائبية ، وأيضا في تحديد ملامح تلك الصور ، التي يتخيلها او يفترضها لتحقيق مؤشراته الدالة على تمظهرات المعنى في خبايا الصورة الشعريّة، ويأتي كلّ هذا الفرز الناشط من رحم المُخيلة في مهمتها للدعوة الاستنفارية لمجمل حواس (الشاعر) المجتمعة داخل ايقونة صياغة نصّ شعري متكامل ، وإخراجه بصورة مثالية ، ولا بد من الإشارة الى ان استثمارات (عبد الحر) الصوريّة ، وتكرار عملية الإيغال في الإبصار المستمر ، والتحديق المجهري في كينونات واشكال الصور المتلاحقة ، كانت الحافز المثالي الذي من شأنه ان يخلق الميزة الدافعة لذلك الثأثّيث ، ومن دوافعه المثلى في الاتحاد مع جسد النصّ ، هي عملية التنشيط المستمر لمدركاته الحسيّة ، ومخيلته الفطنة داخل فسحات ملاذاته الجمالية ، وحينما نتوقف عند ميزاته في تحميل ذاته الشاعرة وتكويناتها من خلال المعرفة الثقافية ، والحصانة الأدبية ، فأننا سنقف حتما إزاء ما يخصّ ذات الموضوعة الحساسة والدقيقة وهي تتجلّى بأبهى صورها في تماسك الثيمة ، وملامح تأثّيث الصورة.
وعلينا الاعتراف بأننا منحازون لمواقف الشاعر الرصينة والسامية إزاء وطنه وأبناء جلدته ، وأصدقائه الراحلين ، فقد أبدع في خلق مناخ اعتباري مائز عبر اشتغالاته الجادّة وفق منظومتي (تماسك الثيمة) و(تأثيث الصورة) فقد جمع اركان هذا المنطوق بين الإدراك الحسيّ العالي ، والتماثل العقلي الرصين ، والشعور الوجداني العاطفي ، وبين الإبداع المعملي الواقعي ، واستثمار المخيال ، ونعتقد بأن هذه البُنى رسخت في النصّ تلك العلائقية المُتطورة الدائمة ، والفاعلة بين (الثيمة+الصورة) ، ليحيل (الشاعر) فكرة التسامي النبيل عبر التأكيد على الطابع الثيمي المحاذي والفاعل في ديمومة التجربة ومديات نجاحها ، وأيضا على صعيد الجانب النفسي ، فقد تأثر أيما تأثير في توظيف فكرة (الوعي) في حقل تحليل الذات والمجموع ، عبر المناخ الأوسع رحبة من ملاحق (اللاوعي) فقد أخذت هذه الفكرة المُتحرَّرة من قيود الركون الى الثبات في منطقة واحدة للبوح ، والتماهي مع الحيز الأكبر لمفهوم الإبداع في الشعر والحياة لديه ، وتطوير تصوراته التي تحوّلت من الخيال الجامد ، الى الخيال السحري المتحرك ، متجاوزاً بذلك نمط اللفظة الجامدة ، لإحالتها الى ديمومة نمو حركي إبداعي مستمر ومثمر داخل حركة المنظومة الحيّة النابضة بالحياة ، بواعزها المُنتخب والحقيقي داخل متن خطابه الشعريّ بمجمل تنوعات طروحاته الثيمية والصوريّة ، ليحولها الى مناخات جاذبة وخصبة ، ومراتع تأملية راقية ، مقرونة بشفاعة النَّضج الإبداعي ، الذي يقود المُتلقي الى تحفيز ملكاته الحسيّة الخاملة ، لإحالتها الى مدركات عقلية شاعرة ، ومجسات التقاطية فاعلة ومتفاعلة مع الجسد الشعريّ ، والمتلاصق مع المأساة بالقدر المتماثل مع تجربته الذاتية ومعادلته المُتراصة بأبعادها الثلاث (الحياة*الشعر*الموت) ففي مقطع من قصيدته الموسومة (هي مزحتنا الاولى) المهداة الى الروائي الراحل (محمد علوان جبر) والتي يقول فيها:-
كل ضحكة غرسناها
افصحت عن وردة
كل خطوة باتجاه الجنوب
عبّدتها احلامنا بالشجن
كل وجع صمتنا امامه
غلّت ذكرياتنا
لنرسم معا قاربا
يحمل اهاتنا موّالا
ودعاء خفيّا
يا من لاذ خوفنا به
تتجلّى في هذا المقطع الشعريّ مواطن الاستذكار التي احاطت بأحاسيس الشاعر المكين (منذر عبد الحر) الذي يتمتع بتقديم المُسعف الصوريّ واللغويّ في رثائه المؤلم لصديق رحلته الادبية الروائي (محمد علوان جبر) والذي بدت علاقته الانسانية قد وضحت وفق تدفق ملاحق الانصات الى جوانح صمته المأساوي الموشوم بالفقد والأسى ، تلك السمّة التي يمتع بها الشاعر لإسقاط حيز من واقعه مع استثمار مخيلته المحلقة في مديات ذات ملغزات قصدية تصبّ في صالح المعنى الذي يؤسس له ، وعبر اسلوبه الشعريّ الفارع النبل ، ولعلّ من اهم تمظهرات المعنى التي عالجها (عبد الحر) بعناية فائقة ، هي تلك التبعات المؤثرة والشديدة الوقع عليه وهو يشعر بذلك الكم من الحزن بعد الفقد ، وتلك المترابطات التشاركية الفاعلة في زمن البثّ بين ذاته المترفعة على الموت ، والمتصالحة بذات اللحظة مع الحياة ، وبين اقراره بالموت كحقيقة ماثلة امامه الى الحدّ الذي استسلم معه واعلن خيبته بالفقد ، فراح يعالجه بالرثاء ، فهو يتسامى منذ بداية المقطع الشعريّ المختار كعينه للدراسة زالتحليل مع كلّ ضحكة غرساها مع الفقيد لتضحى ازمنة متقدة في ذاكرته ، هذه الضحكات التي اثمرت عن وردة اينعت في ظلالهما في زمن التوقع بمجسات الماضي ، ليذهب الى ايقاد تلك الذكرى في خطواتهما نحو الجنوب الذي كان رمزاً خالداً ، ومكاناً شافعاً لترقد فيه احلامهما التي عُبّدت بالشجن ليصورها بأجمل تصوير مع المحافظة على تماسك الثيمة ، وملامح تأثيث الصورة في نصّه الرثائي فيقول (كل خطوة باتجاه الجنوب .. عبّدتها احلامنا بالشجن) لينتقل الى صورة اخرى في تشييد مملكة ذكرياته اليافعه مع صاحبه ، ليتحضن حزنه وآلامه ، فهو يتكئ كثيراً على خبايا الذكريات الدقيقة كموقد لإشعال نار شوقه ، وللكشف عن مدى حزنه ، فيصرح بأن (كلّ وجع صمتنا امامه .. غلّت ذكرياتنا) انه وجع الصمت الذي كان ملاذاً آمناً لهما في ازمنة القهر والضّيم ، والعوز والفقر ، وقد انتج ذلك الصمت عن دفع ثمن المخاض في موقعة الذكريات المؤلمة بشكلها القديم الموجع ، لتنجب بعد ذلك هذا الشكل التصويري البديع ، ليصوّرها في مقطعه الشعريّ قائلاً (لنرسم معا قاربا .. يحمل اهاتنا موّالا) وها هو يرسم مع صاحبه قارباً ليخرجهما من محنتهما المشتركة التي صاحبتهما طوال حياتهما ، والذي كان الصمت احد نوازعها المؤلمة ، ليُحملان في قارب النجاة اهاتهما ليحولاها الى موال وترنيمة جنوبية يترنمان بها الى سِفر يوم جديد مشرق ، ويختم (عبد الحر) مقطعه الشعري بهذا التصوير المُدهش (ودعاء خفيّا .. يا من لاذ خوفنا به) انهما يتسلحان بالدعاء الخفيّ الذي يمكن له ان يكون بديلا لمحنتهما ، او هو تميمة التحرَّر من قيودهما وازماتهما التي عاشاها معا في ازمنة فائتة ، فما هو الذي لاذ خوفهما به ، ربما هو شطّ العرب ، او ربما الوطن ، او ربما هو الله ، في المحصلة النهاية ، وفي انتهاء مطاف رحلتهما فهو المخلص الذي يمكن له انقاذهما من محنتهما التي كانا واقعيّن في اتونها المميتة ، إن عملية استحضار الشافع الغائب من قبل الشاعر ، هو برأينا النقديّ .. لحظة انفلات من واقع مأزوم الى ملاحق خلاص استشراقية قادمة من داخل المحنة ذاتها فهو سبيل لاستقدام البديل الغير متوقع ، وفي بذات الوقع ملاحقة الرافد الغائب الغير مرئي ، وقد صوّر الشاعر هذا الاستقدام باجمل التصويرات التأثّيثة ، والتي جمع فيها منفعيّن لنصّه الرائع ، اولهما تماسك الثيمة وعدم الخروج عنها ، وثانيهما الاجادة العالية في تأثيث الصورة الشعريّة.
لقد أتسمَّت قصيدة النثر باعتبارها جنس من الأجناس الشعريّة الحداثوية ، بجملة من الضوابط ، والمعايير ، والمعطيات ، والركائز التكوينية ، التي يمكن استثمارها وفق مناطق الإشتغال اللّغوي في المفردة والجملة الشعريّة ، وتقاس هذه السِمّات وفق منظومة الحراك التأسيسي في عوالم الإبتكار ، وتثوير مظاهر الدهشة ، والإجتهاد في تأثيث الصورة الشعريّة داخل النصّ ، للخروج بنتائج فضلى لحصد تلك الامتيازات الفائقة الخصوبة ، والعالية الاستقبال ، كحصيلة لعملية الإتقان في الضوابط الايقاعية ، وتنشيط فاعلية المُلهم المخيالي ، واستثمار الدلالة والاشارة في خلق المعنى المأمول اتقاده في بنائية قصيدة النثر. ولعلّ من أهم ما ارتكزت عليه قصيدة النثر، هو الابتعاد عن الاشتراطات العروضية ، والابتعاد عن الوزن والقافية ، والبدائع والمحسنات المستثمرة في القصيدة العمودية ، واللّجوء الى الإرتكاز على ملامح التقصي والبحث عن معالم جديدة للنَّفاذ من خلالها الى منصّات بوح شعريّة جديدة ، لبلوغ النتائج المتوخاة من عملية الرصد الصوري لجملة من الإرهاصات المخبوءة في ذات الشاعر ، والتي يمكن بثّها من خلال تجاربه الذاتية ، أو الاتكاء على المراصد الخارجية الفاعلة والمتفاعلة مع النصّ، وقد تميّزت قصيدة النثر بصورة تكاد تلامس المحاور الذاتية للإفصاح عن جملة من الاستخدامات الخاصة التي يمتاز بها النصّ ، لإمتلاك سمات ذات دلائل قصدية في بثّ القيمة الموضوعية الداخلية ، والتأثيرات الخارجية ، واكتنازها لذلك الكم الهائل من المشاعر ، والأحاسيس ، والدوافع ، والاعتراضات ، والتوتر، والتعاطف الوجداني ، واستخدام الدلائل المُشفّرة للبوح عن المخبوء ، وتمتع النصّ النثري بخاصية مفتوحة واسعة ، لرسم خط بياني (ذاتي+جمعي) داخل خارطته التدوينية التي تتسع لفُسحة واسعة يمكن معها تدوين كلّ تلك الإرهاصات البشرية التي تتصارع داخل ذات الشاعر باعتباره المُتسيّد على سياقات التدوين ، وهو المُتحكم في تفجير ملاحق اللحظة الكامنة في دواخله قبل نفاذها الى مظاهرية التكوين الذهني ، أبان لحظة الكتابة.
ويمكن لنا من خلال ما قدمناه من عرض موجز للمعايير والمعطيات التي تمتعت بها قصيدة النثر في اسقاطها على عديد المقاطع التي سنختارها لاحقاً كعينيات للتحليل والاستقراء من ديوان (شطّ العرب) للشاعر (منذر عبد الحر) الذي استطاع وبمهارة فائقة في انشاء مملكته الشعريّة السحريّة بروافد ألهامية عالية المستوى ، وبلغة حصيفة ، وبتأثّيث صوري باذخ الهيبة ، وتماسك رصين للثيمة ، لقد ادهشنا حقاً وهو يقودنا بتجوال حرّ داخل نصوص ديوانه ، ونحن موقنون باننا نملك تأشيرة الدخول الى مواسم الفقد ، ومواعيد الملاحم الرثائية ، ومواقيت الحزن التي قدمها لنا الشاعر من خلال مائدته العامرة بالشعر.
ففي مقطع من قصيدة (اسعد انسان في العالم) المهداة الى الشاعر الراحل (كزار حنتوش) والتي يقول (عبد الحر) فيها:-
لم تكن إلا قلبا ينزف
تعشق الزهور الحمراء
والكؤوس الحمراء
والبدلات البيض
وأنت تقبل
كان بانتظارك بلدا كاملا
فرشوا طريقك سحرا
صعدت معهم الى عرشك
شاعرا
يخاطب الشاعر في هذا المقطع شاعر الديوانية الراحل (كزار حنتوش) الذي سرقته ملاذات بغداد فصار مولعاً بالتسكع بأحيائها ، وكتابة الشعر فيها ولها ، حنتوش الشاعر الذي ملء الدنيا شعراً حتى كان الاجمل عند مجايلته ، وكان القلب النازف بالحُبّ والجمال ، يخاطبه (عبد الحر) في بداية المقطع (لم تكن إلا قلبا ينزف .. تعشق الزهور الحمراء .. والكؤوس الحمراء .. والبدلات البيض) وعلى ضوء معرفتي القريبة بكزار حنتوش حين كان لي معه لقاءات جميلة في ازمنة القحط والضّيم ، والتوق للحرية ، وكان لي معه ايضاً فيضاً طويلاً بمصاحبته كأنسان وشاعر ايام استفحال الامعات على الكبار ، نعم كان حنتوش كذلك كما وصفه عبد الحر ، فهو يعشق الزهور الحمراء بحكم انتماءه الفكري ، والكؤوس الحمراء لميله الشديد للخمر للهروب من واقعه المر ، والبدلات البيض التي كان يرتديها في قلبه قبل جسده كأنه طير سماء هابط من علياء الشعر ، انه وصف دقيق وحقيقي ، واكاد اجزم بأني لم اقرأ شخصياً رثاءً لحنتوش مثلما رثاءه عبد الحر ، انه يخاطبه بلغة شفيفة نابعة من وعيه الكامن داخل مضامير شعر الرثاء على المستوى الفني ، والنبل الانساني ، ليستمر في خطابه الشعري المرهف فيقول (وأنت تقبل .. كان بانتظارك بلدا كاملا .. فرشوا طريقك سحرا .. صعدت معهم الى عرشك .. شاعرا) ان استثمار هذه اللغة العالية في تصوير ثيمة النصّ ، واحالتها الى مجمرة شعرية تصويرية ذات ايقاع فاعل في جسد ذلك التزامن الجميل الذي يؤثث فيه عبد الحر ملامح صورته الشعرية المدهشة ، والتي قطعت شوطاً كبيراً في ملاحق الابتكار، وكأنه يزفّ حنتوش الى بغداد بموكب من العناية الالهية والبشرية وهو يقدم عليها وبانتظاره بلدا كاملا ، أن هذه الصورة الشعريّة المبهرة اخذت من حيزات الدهشة ما اخذت في دقة تصويرها ، ورفاهة المعنى الخفي فيها ، لتكتمل الصورة بأنهم فرشوا لحنتوش الطريق سحراً ، حتى صعد معهم الى عرشه شاعراً ، انه تتويج من طراز رفيع لا يمتاز به إلا الشعراء الكبار ، ولقد صوره الشاعر النبيل (عبد الحر) بأبهى صوره في المقطع الذي يحمل كلّ نواجع الوفاء ، وفنون تأثيث الصورة الشعرية عبر تماسك ثيمتها المبنيّة بفاعلية وقدرة فائقة ، ورفعة كبيرة.
وعند العودة الى موضوعة الثيمة ، فهي في موردنا التحليلي النقديّ تعتبر مفتاح النصّ الابتدائي ، والشعر هو الناتج المُعلن المُدوّن بلسانها ، والمحصلة الانتهائية للتعبير عن الشعور الذاتي أو الجمعي المتصارع في دواخل الفرد ، والذي يبحث له عن مُعبّر يُسطر فكرته بالكلمات المأسورة بالأحاسيس العالية ، وهذا المُعبّر الانموذجي هو الشاعر ، والنصّ هو الشعر ، وقد ذهب الشاعر الامريكي روبرت فروست لتأكيد ما ذهبنا اليه قائلاً:-
(الشعر هو ما ينتج عن عثور احساس على فكرته ، وعثور الفكرة على كلمات).
وهذا التلاحم في الرؤية يقودنا الى القول ، ليس هناك نصّ مدوّن دون ثيمة كان قد وضعها الكاتب في حساباته لتدوين مشروعه قبل لحظة الكتابة ، وهذا ما تفجر في مكامن الشاعر (منذر عبد الحر) حين كتب مراثيه الرائعة في ديوانه (شط العرب) ولعلّ من المهم القول هنا ، ان الشاعر كان قد تلمس طريقه بحماية ادواته الفنية النابضة بالوعي ، والمتسيّدة على الفكرة لإيصالها بعناية شعرية فائقة الى المتلقي ، فقد امتلك رفاهية التعبير العالية ، والامساك بالفكرة حتى لو جنحت به خارج ما رسم لها من اطر سيادة الثيمة لتنحاز الى ثيمات مجاورة ، فأن له القدرة على اعادتها الى مساراتها الاولى لترويضها داخل الثيمة الاصلية لخلق حالة مثالية من التوازن البثّي المقترن بالنسق البنائي والفني للنصّ.
ومن قصيدة (امير الوفاء) المهداة الى الشاعر البصري الراحل (جمال حامد الفريح) اختارنا هذا المقطع الذي يقول فيه:-
هكذا نحن …
يا أمير الوفاء
صعدنا على جبل الحرف
حتى قطفنا
كروم السماء
يرسم الشاعر (عبد الحر) بعناية فائقة نصّه المهدى لصديقه الشاعر البصري (جمال الفريح) الذي يصفه بأمير الوفاء وهي صفة لا تطلق على احد ، الا عبر تجربة حياتية تمتد الى ازمنة طويلة ، يقول في بداية المقطع (هكذا نحن .. يا أمير الوفاء .. صعدنا على جبل الحرف) وهذه كناية عن انهما سارا سوية في طريق الكتابة الملغّم بالصعوبات المضنية ، تلك الرحلة الشاقة التي تحفّ بها المخاطر ، وتحتويها مراتب التحدي ، وبخاصة حينما يزمع الشاعر الكتابة عن نوازعه الانسانية ، ومخاصبه الفكرية ، وخلجاته الوجدانية ، حينها سيكون بمواجهة حادّة مع السلطة ، ولكنه سرعان ما يتدارك الموقف ، ليقول في نهاية ذلك الصعود الناجز بالحرف (حتى قطفنا .. كروم السماء) انها صورة غاية في الجمال ، وفي بهاء التحليق نحو عوالم سماوية باهرة ، وملامح فوقية خصبة ، انها مدارك راقية في فن تأثّيث الصورة الشعريّة عبر ثيمة متماسكة الاطراف ، استطاع من خلالها (عبد الحر) تشييد مملكته الحروفية الناهضة ، ودراية مكنته المُبصرة ، ليحيطها بذلك الترف اللغوي الجميل ، والتشكيل الصوري الباهر ، الذي رفده من جوانبه بالهيبة ، والجمال ، والدهشة.
ونقف هنا عند مقطع اخترناه كعينة من قصيدة (شطّ العرب) وهي موسوم الديوان والذي يقول فيه الشاعر(عبد الحر).
رميتُ شبكة الصيد
على ذكريات علقت
في كومة قش في الماء
حصيلتي :
اسئلة
واصدقاء
قرابين .. واغنيات
انتظار
انكسارا
على ضوء رأينا النقديّ .. نرى ان هذا المقطع يختزل جلّ ما زمَّع عليه الشاعر (منذر عبد الحر) للافصاح عنه في ديوانه (شطّ العرب) والذي اعتبره البوتقة التي اجمتعت فيها جميع انكسارات وخيبات وآمال الشاعر التي خرج بها من شط العرب باعتباره الرمز ، والبصرة باعتبارها الرافد ، والعراق باعتباره الوطن الذي احتوى فعالية هذا النمط المأساوي المرتكز في العقل الذاتي والجمعي ، والمدلولات المبثوثة داخل القصيدة ، والذي يحاكي فيها الشاعر هذا المفارق من الصور المتفاوتة المعنى ، والمبنى ، وليصرح في بداية المقطع من القصيدة (رميتُ شبكة الصيد .. على ذكريات علقت .. في كومة قش في الماء) انه رمى شبكة صيده التي تحتضن تلك الاجواء البصرية الرائعة في حدود اعتبار ممارسة الصيد هو المتنفس الوحيد ، والطقس اليومي لأبناء البصرة الذين يعيشون قرب المصبّ ، اراد (عبد الحر) اصطياد ذكرياته التي علقت في كومة قش طافية على الماء او في جوف النهر ، لكن الفاجعة الاليمة التي كانت بانتظاره دون سابق انذار من واقعه المؤلم ، أو من خلال أحلامه الحافلة بالخوف ، والفزع اليومي الذي كان يعيشه ، ان حصيلته من ذلك الصيد المحزن ، كانت (اسئلة .. واصدقاء .. قرابين .. واغنيات .. انتظار .. انكسارات) اي فواجع هذه التي جناها الشاعر من محنة صيده هذه ، انها مجموعة من الأسئلة الحائرة ، وأصدقاء رحل بعضهم ، والبعض الأخر ينتظر مصيره ، انها ذكريات مؤجلة في قوائم البحث والتحصيل ، لأنهم كانوا هم القرابين للنهر الذي كان بانتظار ان يقدموا له تلك القرابين لتنحر على ضفافه ، والأمر الاكثر إيلاما انه حصد في صيده مع هذه البواعث على الخيبة ملمح ومنفذ لبصيص ضوء خافت وهي عبارة عن (اغنيات) كتلك الترانيم ذات الطابع المتخم بالحزن والشجن التي يتغنى بها أبناء الجنوب للتعبير عن حزنهم بالفقد ، او ربما أغنيات كان الشاعر يستلهم من خلالها غنائيته الشعريّة ، او ليبقى بها الى الحدّ الذي يسمح له ان يكون على قيد الكتابة والحزن معاً ، او لتكون دافعا خصبا لتحفير ملهمات مخياله لاصطياد الثيمة وتأثيث فضاء مشهده الشعري من خلالها ، وفي نهاية المطاف فقد حملت له شبكة صيده تلك الكوّة الوحيدة لأزوف القيامة وهو (الانتظار) ذلك المنهل الحالم بالخلاص ، والمعني بالركون الى ما هو قادم من الفضائل ، او ربما من الاتراح ، والأبشع من هذا كلّه أنها حملت له (انكسارت) ليختتم بها رحلة صيده المرّة ، التي طاف بنا من خلالها متجوّلا فوق اللامرئي والمرئي من خيباتنا نحن ، ليختزل حدود (الزمكانية) ويقودنا حيث مأساته الكبرى التي تكوّرت حتى أمست (ملهمات ميلودرامية) عليه ان يتعامل معها يوميا ، ويعيش حيثياتها المؤلمة رغم قساوتها وفواجعها المتتالية التي قبع تحت نيرها ردحا من الزمن ، لقد اختزل الشاعر عبر رحلة صيده تلك مجمل تنوعات آلامه وانكساراته وخساراته حتى ركن الى الانتظار الخائب المليء ايضا بالانكسارات والخيبات واغنيات تبعث على الحزن ، وهذا المجمل من الاحباطات التي احاطت بالشاعر وهو يصوّر ثيمته الشعرية في هذه القصيدة ، قد اختزلت الحقائق المؤلمة ، وكانت موجزا لأوجاعه المبثوثه في قصائد الديوان.
إن السِمّات التمايزية التي تمتع بها الشاعر (منذر عبد الحر) في استثمار لغته العالية اولاً ، وإخضاع رؤيته الثاقبة لفحوى النصّ ثانياً ، والتي مكنته من تأثّيث صوره الشعريّة الجاذبة لمحاكاة الفعل النبيل المُتغاير الذي يتصارع في داخله ، ومن ثم لاسقاطه على واقعه المأساوي ، وثالثاً في استخدام مخياله الخصب لاستقطاب جمهرة من الوافدات الذاتية المُلغّزة لنصّه الشعري ، وتقف الثيمة في تماسكها على رأس هذه المجاورات ليتخذ الشاعر من جوهرها بثوثه الشعريّة الفطنة والملهمة ، ليصوغ من خلالها نسقه العالي في احداث مؤهل استلهامي داخل بنية نصّه الشعري ، مما ازاح الستار عن مخزوناته الصوريّة المتلاحقة لتدشينها فيما اسميه شخصياً (الوافد الصوريّ المخزون) من جلّ التراكمات التي من شأنها خلق وعي نوعي كامن يتوزع داخل جسد النصّ ، فقد كان (عبد الحر) مأخوذاً حدّ الشغف بترسيم حدود ذلك الوافد الصوريّ المحزون وكأنه يستيقظ من حلم اليقظة لأصطياد الظاهرة الشعريّة ، ليسطر من خلالها محافل مأساته وإحزانه على مجمرة الفقد والرحيل ، فهو الذي بكى على وطنه من خلال تلك الفوازع المترادفة ، حتى شعر ان بإمكانه استخدام المؤطر المُعوض لتلك الفواجع الانسانية النبيلة التي تذكره بطفولته ، وصباه ، وشبابه ، والبياض الذي علا هامته ، وأيام تدوين قصائده الأولى في مدينته البصرة ، تلك المدينة الحالمة الغافية على ملتقى النهرين (شطّ العرب) المدينة التي علمته سحر اللغة ، وبهاء الشعر ، وفتحت له أبواب القراءة المُبكرة ، وكشفت له عن خدرها الفيروزي ليتمتع بالنظر الى جمالها الإلهي الفاتن ، فهي التي أرضعته الإيثار الحقيقي للوطن ، ليتمكن من مشاهدة صورة وجوده الانساني والشعري ، وصور وجوه أبناء المدينة الكادحين ، وأجسادهم النحيلة من الجوع وآفة الفقر والفاقة ، تلك الأجساد المحرومة من العيش بأبسط معطيات ومعايير الانسانية ، ولتقذفه تلك المجامر الصوريّة الحافلة بالالم الى رؤية وجوه النساء الثكالى ، والاطفال اليتامى ، والرجال الذين انحنت ظهورهم من الكدّ ، ومن فواجع الحروب التي توالت عليه وعلى مدينته البصرة ، ووطنه العراق.
لقد استطاع الشاعر القدير (منذر عبد الحر) وبإمتياز من خلال اسلوبه المُتفرَّد ان يسحب اليه دائرة الإنصات بروية خلابة وهو يؤثَّث نصوص ديوانه (شطّ العرب) بلغة مرهفة تدلف إلى محافل التلقي بمهرجان من الصور الشعريّة المتراصّة الثَيم ، والحيّة في نبض الجسد الشعريّ الغير خاضع للتعليل الخامل، والتعليق المجرد البسيط ، بل لتنهض انساقه المتراتبة وفق نظرة سيمولوجية مترابطة بين الدوّال من جانب ، ومدلولاتها من جانب مثمر آخر ، لتأخذ على عاتقها تجديد المنابع التأسيسة للنصّ بخصوبة راقية ، وتلاقح فاتن في المُؤسس الاصيل لمنطوق دراستنا النقديّة .. تماسك الثيمة ، وملامح تأثّيث الصورة الشعريّة.
سعدي عبد الكريم/ كاتب وناقد