عرض لبعض أفكار “مصطفى صفوان” من كتاب
ما بعد الحضارة الأوديبية
العلامة مصطفى صفوان
مقدمة الكاتب:
ان تشظي التحليل النفسي بأفكاره ونظرياته إلى اتجاهات جديدة فيه، هو بحد ذاته يبين عمق النفس البشرية، وكل من يتناولها يتناول التحليل النفسي عن ما بداخله فيشطح ويخرج عن النص الفرويدي، هو يشطح لما بنفسه من ؟ ، إلا جاك لاكان، لم يشطح بالظواهر الفرويدية أو يتشظى بقدر ما تعمق بها وَسبر سِبر أغوارها بالعمق، فلم يلوذ بها وإنما دخل في عُمق العمق، فولج فيها وأضاف، إضافة نوعية غيرت التصور الكلاسيكي إلى تصورات معاصرة، وكان مصطفى صفوان من الرواد الاوائل ممن سار في هذا الخط الفرويدي – اللاكاني.
تعد الكتابة عن عالمٍ من علماء التحليل النفسي المعاصرين هي بحد ذاتها مدخل صعب الولوج له لكثرة مطبات الأفكار التي يعرض لها وثنائيات التداول بين التحليل النفسي الكلاسيكي وتحولاته المعاصرة لا سيما أنه عاصر عدة أزمان منذ أختياره لعالم البحث في التحليل النفسي، لأنها مدخل غائص في عمق النفس البشرية، فكيف نبحث في فكر عالم مثل “صفوان” تربى على الفرويدية الكلاسيكية بكل عمقها مذ وصوله إلى باريس في العقد الرابع من القرن العشرين واستمراره فيها متداولا مع أستاذه العلامة “مصطفى زيور” فِكر عالمٍ غير وجه عميق في النفس البشرية بإكتشافاته وفتوحاته ومعرفته الحقة بخبايا النفس البشرية، وهو “سيجموند فرويد” الذي يدين له كل من قرأ فكره وتعمق فيه وبحث بما طرحه ليجد نفسه يغرق في معرفة نفسه وإكتشاف ما يمكن أكتشافه على وفق ما قرره فرويد. اننا أزاء معضلة العرض الأكاديمي لفكر متعدد ومترامي الأطراف في ثلاثة أبعاد ، ولا يستطيع الفكر الأكاديمي أن يغوص في هذه المعرفة المتنوعة للتحليل النفسي، فهو فكر أكاديمي الأساس، علمي تقليدي التكوين، عميق في البحث الذي لا يتمكن التجريب أو الرصد المحدود لدراسة الظواهر في أن تضعه على طاولة الدراسات التقليدية المتعارف عليها بتقنين الظواهر التي تناولها التحليل النفسي، فكيف إذا كان الطرح وعرض أفكار التحليل النفسي هي بحد ذاتها غير قابلة لِلمها” لَم شملها” “جمعها” في إناء تقليدي من مناهج البحث المعاصرة، إنها محاولة إجتهادية نرى فيها من الصعوبة ما لا يمكن وصفها، أو تحديدها، أو الإكتفاء بعرضها، ولنا في هذا ما نستطيع إيصاله للقارئ الكريم ليكتشف ان عالم “مصطفى صفوان” فلسفة عميقه ذات أبعاد نفسية مترامية في الفكر والفلسفة والعلوم الإجتماعية والنفسية، فما نود عرضه هو قاصر بالتحديد لما نريد عرضه، وأردد دائمًا أن من يريد معرفة التحليل النفسي ودراسته لا يمكن حصر نظرياته وأفكاره في موضوع أو مقالة ، أو كتاب، بل أن يقرأ نفسه من خلال التحليل النفسي ليجد المنهج النفسي الملائم لمعرفة النفس، فكتاب “مصطفى صفوان” يحتوي في أبوابه الثلاثة على موضوعات من الدقة لا يمكن إدراكها بيسر،
فالباب الأول ضم موضوعات هي:
البارحة ..
- عن القرابة 2. العائلة والتنشئة الاجتماعية 3. البيت والمعبد.
أما الباب الثاني فضم:
اليوم ..
4 . من المعبد إلى المخبر، أو الأب بوصفه شيئًا جزئيًا.
5 . الآباء المُقيمون في المنازل والاسئلة حول الأصول.
6 . السوق.
7 . فلسفة السوق.
الباب الثالث فضم:
الفردية والفرد..
8 . الفردية والفرد.
9 . الفرد والمجتمع.
10 . الجنسانية “الجنسية” في المجتمع الليبرالي الجديد والتحليل النفسي بين الحاضر والمستقبل.
ونحن بأزاء استعراض هذه المحاور الغنية هي في الحقيقة اكتشاف معرفي بحد ذاته وليس عرض تقليدي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تَعرف أولي لاستدعاء ما يمكن استدعائه من ما خزن في الدماغ من معلومات وإن كانت بسيطة ولكنها قد “ربما” من المحتمل ان تضيف للقارئ المتعلم مثلنا شيء من المعرفة إيمانًا منا بأن المعرفة تراكمية وبالأخص في التحليل النفسي، لنقل مجازًا في اللاشعور” اللاوعي” .. تحية إكبار وإجلال لهذا العملاق المفكر الذي ترك فينا ومن قرأ له أو تتلمذ بين يديه أشياء غير محسوسة ولكنها شكلت سلوكه وتعامله وأسلوب حياته .. له الرحمة والمغفرة ولنا أن نترحم له ما حيينا في كل عمل نقوم به.
من الباب الأول .. البارحة وموضوعاته:
1 . عن القرابة..
يتحدث “صفوان” عن أسس البناء للأسرة ويعدها الخلية الأولى في المجتمع، وهذا الرأي من الصعب قبوله، او الاعتراف بأن المجتمع البعيد عن أن يكون مؤلفًا من عائلات، وعلى هذا الأساس يرسم قوانين الزواج وهو المشرف على تكوين العائلة، وبأن هذه القوانين جزء لا يتجزأ من قواعد القرابة. ويطرح “صفوان” فكرة طرفان يتقاسمان الآراء حول القرابة الأول يرى فيها الظاهرة الأساسية للنسيج الاجتماعي ، والثاني يرى ان الاحتلافات الناتجه عن القرابة تعكس اختلافات إجتماعية وسياسية، ودينية، وقد احتفظت هذه الاختلافات في مفهوم القرابة ببعض المعالم ضمن ما يُدعى بالعائلة الملكية، أو عائلة الموُثقين، أو الأطباء. ويعرض أيضًا أهمية هذه الطرائق المختلفة في تصور مكانة القرابة في المجتمع، لكن اهتمامنا ينصب بالدرجة الأولى على تعرييف القرابة نفسها. ويعرض “صفوان” عدة دراسات بهذا المضمار منها دراسة “مارشال سلنس” في كتابٍ بعنوان: ما تعنية القرابة وما لا تعنيه. نشر في العام 2013 يركز فيه على فكرة تبدد الشك في أن الأمر يسري في الكينونة بقدر ما يُعبر عنه الأسم. وفي الوقت نفسه وفي الجامعه نفسها وهي جامعة شيكاغو نشر استاذ آخر وهو “دافيد .م. شنايدر” في العام 1968 كتابًا عن القرابة الامريكية وأعيد نشره في العام 1980 يلح فيه على أهمية القرابة وعدها بأنها تولد مشاعر التضامن والواجب، وتشكل الأبواب التي يستطيع علم الاعراق من خلالها أن يُحيط بالواقع سائلًا السكان عن طريقة عيشهم هذه المشاعر وتقييمها. أما “رادكليف- براون” هو الذي شرح بأوضح العبارات العلاقة بيين أشكال اللغة التي يستحيل من دونها أيُ اتصصال بين الأفراد الناطقين من جهة، وبينها من جهة اخرى: اللغة يجب أن تُطبق أن تزودنا بأداة اتصال منُاسبة إلى حد يقل أو يزيد، ولهذه الغاية، تخضع لبعض الشروط الضرورية والعامة. إذ تُظهر مقارنة بين اللغات كيف تحقق هذه الشروط باستخدام مختلف المبادئ الصرفية كالإمالة والإلصاق، ونسق الكلمات، والتغيير الداخلي، أو استخدام النبرات من عدمه كما ذكره “راد كليف – برون”.
يرى”مصطفى صفوان” قوله لا يهتم أي مجتمع بشري اهتماما خاصًا بضمان استمرار نوعنا، ولو كانت الحال كذلك لامتنعت مجتمعاتنا عن الحرب وعلى عكس ذلك ينزع كل مجتمع إلى استمرار وجوده الخاص ووجود مناقبه وأعرافه، لكن لا يكفي مجيئ الفرد إلى العالم كي يُصبح جزءًا من المجتمع، إذ يجب أن يكون ثمرة زواج مُعرَف بأنه “ترتيب اجتماعي يتلقى الطفل بموجبه وضعية شرعية في المجتمع، تُتحددها القرابة، بالمعنى الاجتماعي للمصطلح ” ويضيف “صفوان” قوله أما الطفل المولود دون زواج يعترف به المجتمع، فلن يجد مكانًا في هذا المجتمع، سوف يوصف بأنه غير شرعي، وعليه لم تنتظر المجتمعات البدائية علماء الإناسة المعاصرين كي تُفرق بين الطبيعي والثقافي، وهنا يؤكد صفوان قوله: لا يوجد مجتمع بشري لا يمنح نفسه أصلًا رمزيًا يضمن وحدته، بينما تُخفق البنية الثنائية إخفاقًا ذريعًا نتيجة غياب مبدأ أول يضمن الإيمان به إجتماع الناس عليه وبحكم صراعاتهم.
يتسائل “صفوان” هل بإمكاننا أن نميز تمييزًا أفضل بين مساهمة القرابة البيولوجية بقدر ما يدين لها الطفل بدمه وعظامه، وبين مُساهمتها الروحية، أو الثقافية، بقدر ما يجب عليه الاعتراف له بانه يُدخله في النسب الأبوي، أو يمنحه الأسم الذي يجد فيه “سلنس” تبادل الكينونة الذي يخلق الرابط بين الأب والأبن؟ إنما التمييز بين الطبيعة والقافة ثابتٌ، في الأساس وملحوظ في المجتمعات البشرية كلها، ولم يغب عن أي مجتمع أن يطرح مسألة الاختلاف بين الطابع البيولوجي الذي لا خلاف عليه للعلاقة بين الأم والطفل، ونظام القرابة الذي يرسمه، ومن خلاله يمنح المولود الجديد مكانه، وهكذا نعود إلى نقطة انطلاقنا، أي إلى الزواج من حيث هو ترتيب إجتماعي. ويناقش “صفوان” في كتابه هذا موضوع الترتيب من وجهة “ليفي – ستروس” القائلة بأن الأمر أمرُ تبادل بفرض نفسه خيارًا للمفردة الأولى من هذا التخيير: ثمة حاجتان تُمارسان خارج القرابة هما الزواج والقتل، أي بوصفه شرط تعايش المجموعات البشرية، ويطرح “صفوان” رأي “ستروس” قوله أصل تحريم نكاح الُقربى ومع ذلك نرى في البُنى الأولية للقرابة مقاطع تدفعنا إلى التفكير بالاختلاف بين المُباح والممنوع الذي يُملي على مَن يشعر به اختيار الزواج. وباختصار إن قيام تعاقب الأجيال الذي يُديم المجتمع وجوده الخاص على اقتران الجنسين البيولوجي، أمر واقع ولكن تظل الحقيقة أيضًا أن ولادة الطفل حدث ثقافي، أو ثقافي كُليًة كما يقول “سلنس” ليس فقط لأن مجيئه إلى العالم يُمثل مجيء نتيجة مضاجعه دون مشاركة طرف ثالث يُشدد “لاكان” على طابعه الرمزي كالقضيب الأولي عند شعب البوشمان، او مشاركة روح الجد الذكوري، أو الأنثوري لذرية الأب عند شعب البارويا دون الحديث عن مشاركة الآلهة العليمة. لقد جُردت هذه الاطراف الرمزية من وظيفتها البارزة بوصفها قاعدة الوجود الاجتماعي، لكن فرويد عثر عليها في حالات العُصاب العائلية على شكل أب ميت، يخصي ويستمر دومًا في الصراع بين الابن والأب الذي لا يُحسم أبدًا في رأيه. واشار “كروبير” إلى مبدأ الطوطم والتابو، المبدأ الذي يعده الاسطورة الوحيدة التي تمخضت عنها الأزمنة الحديثة، أما “لاكان” الذي أعاد نقد “كروبير” عادًا بحق أن قصة قتل الابناء أباهم في القبيلة البدائية حلم من احلام فرويد، بالمعنى الحصري للمصطلح، فقد نسي هذه القصة دون أن يترك منها إلا ما يتركه الموت، أي الأسم. ومع أن هذا الأسم يًكون في الواقع النقطة التي تنبثق منها الثقافة في انفصالها عن الطبيعة، فهو يُكثف قي ذاته وحدها ثقل هذه الثقافة الكامل بإعلانه أن عبور عالم يرتبط فيه قبول الحياة نفسه عند الطفل بالحب الأمومي، إلى عالم آخر حيث العلاقات بين البشر وعلاقاتهم أيضًا بالأملاك التي يتعلقون بها، تتجسد في الحقوق والواجبات التي يتألف منها القانون، وعندئذ ما الدور الذي يأخذه”أو كان يأخذه” هذا الأسم في تنظيم الجنسانية البشرية.
يرى “مصطفى صفوان” إن ظهور الجنسية “الجنسانية” المبُكرة عند الطفل لظاهرة يصعب شرحها، ولكنها ما أن تظهر حتى يكاد يكون من الطبيعي تقريبا أن تتوجه على نحو أفضل صوب أمه التي تُمثل في نظره، لكونها موضوع حُبه الأول، الخير الأسمى، أننا إذا سلمنا مع فرويد بأن “الانتماء إلى الأب جزء من الجوهر الأمومي” يتمخض عن ذلك أن ظهور الجنسية “الجنسانية” التافه عند الطفل غير المُستبِعد كما ينبغي يُعادل دخوله في عالم القانون ويسبق اندماجه في نظام القرابة الخاص بمجتمعه. ويضيف”صفوان” توضيحًا بناءً على هذه الفكرة استنادًا لقاعدة الرغبة بنتيجتين:
النتيجة الأولى: بعدم وجود إشباع الرغبة دون الاعتراف برغبة الآخر.
النتيجة الثانية: بأن أية رغبة هي رغبة في نزع الأعتراف بها إلى حد أن إنكارها ييًفاقم شدتها.
وقوله .. في النهاية .. ليس التحليل النفسي شيئًا آخر غير دراسة العمليات التي بفضلها تُعبر الرغبة عن نفسها، وهنا نبلغ الاكتشاف الأكثر إدهاشًا الذي أتحفتنا به تجربة المعالجة بالكلام: فمع نقل الصيغة الهيغلية إلى الصعيد الرمزي بدل ربطها بصعيد الوعي بالذات. تتجلى الرغبة وظيفًة اكثر تأسيسًا، وفي مجموعها أكثر ما يخلع الطابع الإنساني على المتكلم “الما هو” ، ومن ثم نرى تفاهة تشبيه التحليل النفسي بتقنية الاعتراف.
أما “لاكان” وهو يشدد على الفعالية الرمزية التي من دونها لا يتضح أي شيء على مستويي الأوديب الواقعي والتخيلي، فَحَول اتجاه هذه العقدة التي انتقلت من النظرية الجنسية الطفلية إلى نظرية الرغبة ، وتتضمن هذه النظرية ضرورة موائمة الرغبة مع المبدا القائل بعدم إشباع رغبة الفرد بمعزل عن إشباع رغبة الآخر. المبدا الذي من دونه يفقد القانون أي معنى، ويرى “لاكان” قوله: تُكَون هذه الموائمة ضمن إطار العائلة الحديثة “المعيارية الأوديبية” التي يُعين فيها وظيفة الأب الحقيقي، وهنا يَحضر وضعان لا يُمكن إبعاد أحدهما عن الآخر:
الوضع الأول: وضع الأب الذي لا يتخرط في ذرية تعود إلى قضيب أول. (راجع حال البوشمان، وكذلك حالة شريبر بالتفصيل- قصة شريبر معروفة جدًا عند المحللين، فهو كان قاضيًا كبيرًا ثم اصيب بالجنون، كان ذهاني، وهو الوحيد الذي حلله فرويد)
الوضع الثاني: الذي ميزه “لاكان” عن الوضع الاول بوضوح عدة مرات وتحديدًا في مقالته بعنوان” تخريب الذات وجدلية الرغبة في اللاوعي الفرويدي” فهو الذي لا يقوم فقط على إملاء القانون، بل على تفويض نفسه به، بكل ما يتضمن من اعتراف.