قراءة في كتاب صفحات بابلية
محمد علي محيي الدين
انماز الفقيد الراحل الدكتور عبد الرضا عوص بمباحثه التاريخية والتراثية المختلفة، وأصدر في هذا المجال عشرات الكتب والمقالات الرصينة التي تصلح أن تكون منطلقا لدراسات أعم وأشمل للحوادث والقضايا التاريخية والتراثية التي تناولها في هذه الكتب والدراسات، وهي نوافذ لدراسات لاحقة لمن يريد التوسع بها فهو كما يقول الباحث أحمد الناجي “يرمي حجرا في بركة هادئة” ليستطيع من يأتي بعده التوسع فيها ليفصل الاحداث بما تقتضيه طبيعة البحث.
ولست الآن بمعرض الحديث عن الجوانب التي تناولها في مباحثه تلك ، وسأقتصر في هذه العجالة على كتاب واحد منها هو” صفحات بابلية” الذي طبع ثلاث طبعات كان أخرها طبعة سنة 2012، ويمكن اعتبار هذا الكتاب مدخلا لدراسة التوجهات البحثية له، فنجد في هذا الكتاب مواضيع شتى يصلح كل منها لدراسة موسعة تسهم في استجلاء جانب من تاريخ الحلة وموروثها الاجتماعي. بما يمكن الدارس التوسع في هذا المضمار والخروج بدراسة شاملة تكون اكثر غناءً في نتائجها المختلفة.
وكتابه هذا تكملة لكتابه السابق” أوراق حلية” الذي تناول فيه موضوعات تصب في هذا المجال، ويمكن اعتبارها مدخلا لدراسات اوسع وأشمل.
وفد قام الباحث ذاته بتطوير دراساته هذه ، حيث أتخذ من الموضوع” الأول” في كتابه هذا (التعليم العالي في الحلة) نواة لدراسته الرصينة لتاريخ الحوزة العلمية في الحلة والتي نال بها شهادة الدكتوراه في التاريخ ، فقد كان هذا البحث اللبنة الاساسية أو مدخل لدراسة تاريخ الحوزة بعد أن تيسر له الحصول على المصادر الخاصة بتلك الفترة.
والموضوع الثاني (خانات الحلة) تناول فيه الخانات المتواجدة على الطرق الخارجية ضمن نطاق المحافظة والموجودة على الطرق الرئيسية الرابطة بين الحلة وغيرها من المدن التي كانت مخصصة لإيواء المسافرين وتوفير احتياجاتهم من الاطعمة والاعلاف والسكن بسبب ظروف التنقل آنذاك، وهذا ما حدى بالباحث الاستاذ صلاح السعيد لإصدار كتابه القيم عن خانات الحلة الذي كان بحثا موسعاً بذل في إعداده الكثير من الجهد والوقت.
أما الموضوع الثالث الذي تناول فيه الملل في الحلة ، فقد تحدث فيه عن أكبر الجاليات في الحلة وهي الجالية اليهودية التي كانت تشكل رقماً كبيرا قياسا لسكان الحلة في ذلك الوقت ، وإلى المسيحين الذين يشكلون الجالية الثانية من حيث العدد والتأثير، اضافة الى الصابئة والايزيديين الذين يمثلون أقلية غير مؤثرة عاشت في ظل التآخي الذي انمازت به الحلة وشكل ظاهرة حضارية في العصر الحديث، وهذا الموضوع كان الدافع للباحث نبيل الربيعي لإصدار كتبه الموسوعية الخاصة بالأقليات الدينية من يهود ومسيحيين وصابئة وتميزت بالرصانة العلمية والدقة التاريخية.
أما الموضوع الرابع (القضاء في الحلة) فقد عمد الباحث ذاته إلى التعمق في الموضوع وإصدار كتابه القيم عن (الحلة وحكامها) الذي يعتبر المصدر الوحيد للدراسة التاريخية عن القضاء والقضاة في الحلة.
وموضوعه الخامس عن الانتفاضة الشعبية في الحلة عام 1991 كان الاساس المعتمد لإصدار كتابه القيم والموسع عن هذه الانتفاضة بعد أن تسنى له الحصول على مصادر ومعلومات جديدة أبرز من خلاله الدور الرائد لأبناء الحلة في انتفاضتهم تلك.
أما موضوعه القصير عن الشاعر والمنشد محمد علي القصاب وأم كلثوم فقد كان بداية كريمة لدراسة رائدة أصدرها الباحث التراثي صلاح اللبان عن الشاعر القصاب ومواقفه الطريفة.
وفي مقالات متفرقة أخرى تناول فيها لمحات عن الغجر وجسر المسيب وفرق الخشابة وما تلاها من الفرق الفنية، وهي مباحث رائدة يمكن لمن يريد التوسع بها انجاز كتب قيمة لتاريخ منسي لم يكتب عنه بعد أن توفرت المصادر التي تعين الباحثين للتوسع في هذا الموضوع.
أما الفصل الخاص بأغرب القضايا ، فقد وثق فيه لأحداث طواها النسيان ، ولم يؤرخ لها أو يكتب عنها رغم أهميتها الاجتماعية ، وأكثر هذه الاحداث من المسكوت عنه في الموروث الاجتماعي لما فيه من حساسية وهناك حوادث أخرى مشابهة لهذه الاحداث في خصوصيتها وأهميتها تستحق البحث والدراسة ، تناول منها قضية السيد موسى الأعرجي المحامي الذي قام بقتل أحد القضاة في الحلة الذي تجاوز على شقيقه في غرفته بمحكمة الحلة ، وقد حكم عليه بالإعدام ونفذ في مدينة البصرة، والحكاية الثانية الشبيهة بحادثة (أبو طبر) وهي عن سفاح المدحتية الذي سكن هذه المدينة الهادئة وافدا اليها من مدينة أخرى ، واتخذ من محله في الحي الصناعي مكانا لتنفيذ جرائمه حيث كان يغري ضحاياه بمكاسب مادية ثم يقتلهم ويستولي على سياراتهم أو أموالهم وقد بلغ عدد ضحاياه (12) ضحية جلهم م مدن عراقية بعيدة عن المدحتية.
أما قصة ساهر ومنيرة فهي من القصص المثيرة في احداثها ووقائعها، تتحدث عن حبيبين شاء سوء الطالع أن يفترقا لتسفير منيرة إلى ايران وبقاء ساهر في العراق، وشارك ساهر في الحرب العراقية الايرانية وسلم نفسه بعد احدى المعارك واستطاع التخلص من الأسر واللقاء بمنيرة التي ظلت على عهدها له فتزوجها وعاشا ناعمين، وبعد سقوط سلطة البعث عام 2003 لم يعد ساهر الى العراق لزيارة زوجته السابقة وأبناءه منها، التي ظلت وفية له وعنيت بأطفاله، وقام شقيقها بالتوجه إلى ايران طالبا منه العودة للعراق ولكنه رفض العودة ، وبعد محاولات لإقناعه عاد إلى الحلة لزيارة عائلته فيها، ويبدو أن عودته إلى عائلته الأولى أعاد له ذكرياته الجميلة فيها فعاد إلى ايران وأقه زوجته الثانية بالعودة الى العراق والعيش معاً في الحلة، واستطاع اقناعها فقامت ببيع البيت والاثاث وكل ما لديهم هناك، وخرج لجلب سيارة لنقل عائلته الى العراق ، ولكنه ركب السيارة ووصل الى الحدود العراقية تاركا زوجته هناك بعد أن هيمن على كل ما لديها من مال، وحاولت الاتصال به في العراق ولكن دون جدوى فأرسلت شقيقتها التي التقت به فاقنعها بعودة زوجته الى العراق ليعيشا معاً، وعادت زوجته الايرانية واسكنها في بيت مجاور لبيته، ولكن ابناء زوجته الاولى اساءوا اليها ، وقام هو بسرقة عقد الزواج ثم بعث لها بورقة الطلاق، وحاول بعض فاعلي الخير اعادت المياه إلى مجاريها ولكن دون جدوى، مما اضطرها للجوء الى المحاكم وحصلت على بعض حقوقها، وهذا الملمح يمكن لباحث جاد اتخاذه موضوعا لدراسة موسعة عن الحياة الاسرية وما يرافقها من احداث واخفاقات ومشاكل تسهم بعض الشيء في دراسة طبيعة المجتمع .
أما الفصل الخاص برواد التعليم في الحلة فهو موضوع ضيق سلط فيه الضوء على شخصيات تربوية كان لها دورها المميز في النهضة التعليمية في الحلة، وهو دليل عمل لباحث جاد يمك له تغطية هذا الجانب الهام في نشر العلم والمعرفة من قبل هؤلاء الرواد الذين وضعوا اللبنات الاولى لنهضة تعليمية شاملة فيتناول بدايات التعليم وتطوره حتى وقتنا الحاضر.
وتناول في هذا الجانب شخصيات أخرى كان لها أثرها الاجتماعي في مسيرة المجمع الحلي ، فقد تناول شخصيات حلية كان لها دورها المؤثر امثال الحاج حسان مرجان ، هادي الصاحب، اللذان اسهما في عدد من المشاريع الخيرية والخدمية ، وهي لا زالت ماثلة أمام الحليين،
وأشار الى شخصيات كان لها أثرها في جوانب توثيقية ومجتمعية مختلفة امثال الشيخ علي القسام والسيد محمد تقي الجلالي والملا علي الخيري والشيخ حسن الحبيب ولكل من هؤلاء دور بارز في النهوض المجتمعي في مدن المسيب والقاسم والكفل والمدحية حيث سلط الضوء على الجوانب المضيئة في اعمالهم في مجال التطوير العلمي والتعمير والبناء الاجتماعي في هذه المدن وما تركوا من آثار وشواهد لا زالت ماثلة أمام الجميع.
وتطرق في مبحث آخر إلى الصناعيين الرواد في الحلة ممن أسهموا في النهضة الصناعية والعمرانية ، ووضعوا الأسس المتينة لبناء صناعة وطنية أسهمت في انعاش الاقتصاد الوطني ، وتطور الصناعات في بابل، ولكل من هؤلاء شهرته في جانب معين من جوانب الحياة الاقتصادية والصناعية أمثال: ابراهيم البغدادي، خليل اسماعيل عوض، عبد الصاحب الناجي، محمد علي شنطوط، هادي تاج الدين، نوري المرزوك.
ثم تناول خطباء المنبر الحسيني ودورهم في ارشاد الاجتماعي والديني وما لهم من أثر في الثقافة المجتمعية، حيث انماز هؤلاء بالقدرة على الاستحواذ على الباب الجماهير من خلال مواعظهم الهادفة لبناء مجتمع ينعم بالفضيلة منهم: السيد صالح الحلي، تقي الموسوي ، عبد العظيم الصفار، السيد عبد المطلب المرعب، والشيخ سعيد البصام.
هذه الدراسات المتفرقة يصلح كل منها لدراسة موسعة ورسائل جامعية تتناول الجوانب المشعة من تاريخ هذه الشخصيات وتأثيراتها الاجتماعية ، وربما كانت الدافع وراء سلسلة الاصدارات الرائعة للأستاذ جليل الجباوي في موسوعته القيمة (شذرات من سيرة شخصيات حلية) وحبذا لو تقوم جامعة بابل بغربلة تاريخ الحلة وكليف طلبتها بدراسة بعض الشخصيات التي تركت بصمات واضحة في هذه المدينة المعطاء.
وآخر فصل خاص بمحطات من هنا وهناك ، تناول فيه موضوعات لها اهميتها في تاريخ المدينة الاجتماعي ، فتحدث عن عروبة الحلة، وتمسكها بهذا الجانب بعيداً عن التعصب ، ثم تناول المكتبات في الحلة ودورها التنويري في نشر الوعي والثقافة في المجتمع وما لها من تأثير في مسار المدينة الثقافي.
وتحدث عن مسجد الشبيبة ودوره في تمية الروح الوطنية في الجماهير، وعن المقاهي الحلية وـاثيرها المجتمعي والثقافي، وعن الخطاطين في الحلة وابداعاتهم الفنية ، ومتنزهات الحلة وحدائقها وما لها أثر في الانفتاح الاجتماعي والحضاري ، وأشار إلى جسور الحلة الماثلة أو التي طواها النسيان وعن سجن الحلة المركزي وعملية الهروب عام 1967، وتحدث ع طبابة الحلة ودور الدكتور سامي الشيخاني، وعن مشروع المسيب وأثرها في التنمية الزراعية، ودرس في فصل خاص المشاريع التي اندثرت بفعل الزمن وكان لها في حينه أثارها في مجالات التنمية والبناء مثل سكة حديد الكفل التي عفي أثرها ولم يبق منها شيئاً، ومحطة قطار السدة التي طواها النسيان، ومحطة كهرباء سوسة التي انفردت فيها بابل ع غيرها من المحافظات.
وعقد فصل خاص لدراسة الظواهر الاجتماعية التي ضمرت ثم انتعشت بفعل التبدلات المعيشية بعد غزو الكويت مثل العربات والمواد الفخارية وصناعة الأسرة والوشم.
اما مبحث غرفة تجارة بابل فقد تحول الى كتاب شامل اصدره الراحل بعد الطبعة الاولى لهذا الكتاب وهو كتاب قيم تناول فيه تاريخ الغرفة ومن تعاقب على ادارتها وتطورها عبر المراحل التاريخية، وتناول في مبحث آخر بعضا من تاريخ مدينة الكفل، وهذا المبحث كان الاساس لدراسة شاملة مستقلة عن هذه الدينة صدر قبل أعوام.
وافرد صفحات للنشاطات التربوية ، مشيرا إلى دور النشاط المدرسي في تنمية مواهب الطلبة، وجمعية بابل الموسيقية ودورها في اشاعة الثقافة الموسيقية والنهضة الفنية في بابل، في مجال المسرح والتمثيل ومركز الاشغال اليدوية .
ثم تناول شخصيات كان المفروض أن تضاف الى الفصول الخاصة بدراسة الشخصيات الحلية منهم علي الرحيم مختار محلة كريطعة، عيسى العبيدي، مفيد الجوهر ولطيف الياسين وابراهيم عبد الرزاق الملا ابراهيم وعباس عبد علي
بقي أن نشير إلى ملحظ هام أن هاك دراسات مستقلة قد صدرت عن كثير من الشخصيات التي وردت اسماءهم في هذا الكتاب منها ما هو لمؤلف الكتاب أو لغيره، مها كتاب عن الشيخ يوسف كركوش، وعبد العظيم الصفار، والحاج حسان مرجان والسيد صالح الحلي والسيد محمد تقي الجلالي والاستاذ صبري عبد الرزاق وغيرهم وفي الكتاب محطات مهمة يمكن أن تكون مستقبلا نواة لدراسة موسعة لتغطية الجوانب المهمة في تاريخ الحلة ورجالاتها.