“الحفيدة الأميركية” للروائية العراقية إنعام كجه جي
انتماءات على أرجوحة الأصيل والدخيل
قراءة سوسيولوجية
د. سوسان جرجس
“الحفيدة الأميركية” عنوان يفصح عن هويةِ، ويعلن غموضها في الآن عينه، الأميركية المعلنة تستدعي في مخيالنا أصولاً عربية، أو على أقلّ تقدير غير أميركية، فمَا تلك الأصول التي تجعل الإجهار قناعًا يختبئ خلفه الإنكار؟ وهل الأصول ضامنة لاستمرار الهوية ومنظومة القيم في جيل ثالث ينزع نحو التغيير بفعل دينامية الحياة؟
العنوان يكشف عن اضطراب في الهوية الوطنية/ القومية، لكنه، مرفقاً بالغلاف، يبدو شفّافًا واضحًا في طرحه لهوية جندرية (أنثوية) متجليّة بالتاء المربوطة المتربعة على سطح أخضر، تتوسّطه شابّة ذات عينين خضراوين حزينتين بكلّ ما لهذا اللون من دلالات مرتبطة بالنماء والنعيم الآخروي والغضاضة وعدم النضج، فهل ترانا إذاً أمام حفيدة أميركية نزقة؟ أم أنّ حزن عينيها صرخة تكشف عن صراع دامٍ بين هويتين: أصيلة ومكتسبة؟!!
هوية وطنية تائهة
بين الهجرة والهوية حكاية صراع ثقافية يتقاذفها عاملا الزمان والمكان؛ في بداية الهجرة، الناس أشجار تبقي جذورها مغروسة في أرض الوطن، تُسقى فتحيا، لكنها لا تلبث أن تنازع حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة في جيل كفَّ عن الحلم بعطر التراب؛ لا هنا ولا هناك تقف “زينة” بطلة “الحفيدة الأميركية” للروائية العراقية انعام كجه جي، بطلة الرواية شابّة ولدت في بغداد، وعاشت طفولتها في دروبها وأحيائها ومدارسها، ما يعني أنّ في الذاكرة صورًا قادرة على إحياء هوية كامنة، فها نحن نقرأ ص48:
“خرجت صرخة عفوية منّي حين لاحت في الأفق المئذنة الملويّة، تذكّرت تاريخي الخاصّ في هذا المكان، السفرات المدرسية، وبنات السادس الابتدائي بالضفائر والشرائط البيض وحلقات الرقص على أغنية يا يما انطيني الدربين ونظرات ماسور مادلين…..”.
إنّ ما أوردته الكاتبة ليس مجرد كلام أدبي، وإنّما هو إدراك واعٍ إلى أنّ الهوية لا تستمدّ وجودها من رحم الحاضر فحسب، بل هي أيضًا عصارة الماضي بأنساقه وأفعاله وصوره، وتأطيرها يكون من خلال المعاش اليومي المشتمل لتفاصيل الأمور المرتبطة بالتربية الأسرية والمدرسية، باللباس والغناء والرقص والعمران وتحديد المسموح والممنوع وفق منظومة قيم اجتماعية قابلة للتغيير، لكنها ليست قابلة للحذف من المخيال الاجتماعي، سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار المحاولات المستمرّة من قبل الأهالي المهاجرين لتنشئة أبنائهم من خلال مخزون ثقافي سبق أن صاغ نسق تصوراتهم واستعداداتهم الفكرية وحدّد صورة ذاتهم في مقابل صورة الآخر، وفي هذا الإطار نقرأ عن حياة زينة في الولايات المتحدة الأميركية ص23:
“تلتقي عصابتي للعشاء في مطعم عربي، أول سبت من كل شهر، نتحدّث ونضحك ونأكل التبولة والمجدرة والشاورما، ونرقص على إيقاع العود والطبلة، وهو المساء الذي ينتظره كالفن بلهفة ليتحرر مني“.
ما يعني أنّ الهوية الثقافية للمهاجرين ما هي إلا هجين غير واضح بين هوية الموطن الأصلي وهوية الموطن الجديد.
نحن مدركون طبعًا إلى أنّ تشكل صورة الذات وصورة الآخر متلازمان، فإذا ما غرقت صورة الآخر بالضباب، صنعت لها الذات صورة وهمية تخدم أهدافها؛ وهذا ما نلاحظه عندما تتوتّر زينة، وتتصارع في داخلها الهويتان العراقية الأصيلة والأميركية المكتسبة، فكانت في مقابل صورتها كجندية (مترجمة) أميركية تدخل العراق مع جيش الاحتلال، تبتدع للآخر العراقي صورة الديكتاتوري، المتخلّف، الإرهابي، المجرم الذي يسوّغ صورتها كمساعدة للمحتلّ، ما يحيلنا إلى ما بيّنه إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” من اختراع الغرب لصورة شرق وهمي.
وفي خضمّ صراع الذات مع الهوية الوطنية تكتب زينة روايتها/ سيرتها الذاتية، إثر المشاركة في الحرب ضدّ العراق لتمثّل الجدّة رحمة الشخصية المتمسكة بالهوية الوطنية العراقية، فيما تمثّل الحفيدة الشخصية الخائنة لوطنها باعتبارها حاملة للهوية وللانتماء الأميركي، لكن الكاتبة (زينة) ميالة للجدّة، واعية لوهم الصورة الذاتية والآخرية التي أوقعت نفسها، بها فها هي تقول ص150:
“نسمّيهم العصاة أو المتمردين، الإرهابيين، المجرمين، عناصر الشغب، كل الصفات صالحة لكي لا نقول المقاومة“.
وهكذا نرى أنّ الروائية إنعام كجه جي حريصة على إبراز أنّ أبناء المهاجرين، وفي وقت الأزمات الحربية تحديدًا، قد يحملون عن الذات صورةً ونقيضها في الآن عينه، ففي مقابل الاحتلال الأميركي بصورته التدميرية النهبوية المتمثلة بالقتل وسرقة الأموال والآثار ومداهمة البيوت بحضور مباشر لزينة “الأميركية”، تظهر صور متعددة للآخر المقاوم (وضمنه بشكل غير مباشر زينة العراقية)، أبسطها المقاوم الحربي، وأقواها المقاوم الروحي الذي تجلّى عن طريق الحبّ (حب زينة لمهيمن)، (حبّ الجدة لحفيدتها كما لطاووس وأولادها)، وعن طريق نبذ الطائفية التي جعلت من زينة المسيحية وأولاد طاووس المسلمين أخوة بالرضاعة، بكلّ ما لهذا الأخير من تابو يجعل حبّ زينة لمهيمن حبًّا محرّمًا مشلولًا بالخوف الذي يتبدّى – كما تقول Denise Jodelet في دراستها Dynamiques sociales et formes de la peur – حينًا كقلق وجودي، وحيناً آخر كنتاج للمخزون المعرفي ومصادر التأويل المقدمة له من الثقافة والأيديولوجيا التي تحكم حياة الإنسان اجتماعيًا.
هذا وقد أبدعت الكاتبة في إظهار العلاقة بين بروز الهوية الوطنية أو انكماشها من جهة، وبين الظروف المجتمعية (اقتصادية– حربية– أمنية…. الخ) الحاضنة للهوية من جهة أخرى، ما يعني أنّ لمثل هذه الظروف سلطة غامضة تهب الشعور بالكينونة والانتماء والاندماج وانصهار الذات الفردية في “الكل الجماعي”، وعليه نقرأ ص20 مشاعر زينة أمام هول أحداث 11 أيلول، إذ تقول “رأيت طائرة تصطدم ببرج…. بقيت جامدة لا أرمش ولا أتنفس… وبعد أسبوع من الحادث أعلنت “الأف بي آي” عن حاجتها إلى مترجمين عرب… (وسألت نفسي) ماذا في إمكاني أن أقدّم لمساعدة بلدي (أميركا) في هذه المحنة“؟
وبأسلوب هادف، وبعد ثلاث صفحات تمامًا، أي في ص23، تظهر إنعام كجه جي حدّة التوتر والقهر الملتبس الذي أصاب زينة أمام تدمير بغداد، إذ تقول:
“كنت أنكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان بعد الغارات الأميركية، كأنني أرى نفسي وأنا أحرق شعري بولاعة سجائر أمي، أو أخزّ جلدي بمقص أظافري، أو أصفع خدي الأيسر بكفي اليمنى“.
ليتّضح لنا أنّ الهوية، برغم ما تكتسبه من تغيير بالتجاذب والتلاقح الثقافي، صيرورة تاريخية للذات منتِجة ومنتَجة، ولنكون نحن على حدّ تعبير “كوتي أولجيرد” في كتابها la négociation des valeurs “ورثة الماضي”، ولتكون هوية زينة كرة ثلج رمادية بفعل التربية والتجارب والأمكنة والأزمنة والعلاقات الاجتماعية.
الهوية المسيحية العراقية وصورة العلاقة بالآخر المسلم
أمام وجود المسيحيين في العراق كأقلّية “موصومة” على حدّ تعبير Erving Goffman، فقد اعتدنا أن نكون إعلاميًا – تحديدًا بعد احتلال سنة 2003- أمام صورة نمطية تصوّر انحسار الدور التفاعلي لهم اجتماعيًا، متجليًّا بالهجرة في مواجهة أساليب القمع والاضطهاد وممارسات التعسف في القتل والاختطاف والعنف الدموي.
إنّ هذه الصور، وإن كان فيها الكثير من الواقعية، أرادت بها الكاتبة أن تنتشل القارئ من هوس تعميمها لتضعه أمام صورة المسيحي المهاجر والمهجّر، لا كاستبعاد محكوم بمتغير الدين، وإنما كغيره من العراقيين، هربًا من اضطهاد النظام البعثي الديكتاتوري الذي قام بتعذيب والد زينة المذيع صباح بهنام، فقط لأنه احتجّ على طول النشرة، وقال إنّ أخبارها بائتة من نشرة اليوم السابق (ص 81- 83).
إذا ما كان الجوّ العام في العراق قد اتّسم بالاستبداد وقمع الحريات، إلا أنّ كجه جي تحرص على تبيان أنّ الهوية الوطنية العراقية للبطلة أقوى بكثير من أيّ هوية طائفية، لا بل أنّها تبيّن أنّ هويتها الدينية المسيحية بحكم التثاقف المجتمعي ضمن بنية يغلب عليها الطابع الإسلامي، توشّحت بكل بداهة بالانتماء السائد ثقافيًا؛ فعن شغفها وشغف والدها الآشوري باللغة العربية تقول في ص21- 22:
“إنّها اللغة التي انتقلت إليّ عدواها من أبي الآشوري ….. يأتي ببيت شعري ينتهي بحرف النون ويكون عليّ أن أبدأ ببيت يبدأ بالحرف نفسه، وعندما كان الأمر يستعصي عليّ أرتجل بيتاً من عندياتي، فيمدّ أبي يده ويجرّ شحمة أذني وهو يقول (من غشّنا فليس منا)”،
لنقف معًا أمام حديث نبوي ذي أصول فكرية إسلامية، وقد أضحى مع الوقت بدلالاته ورمزيته جزءًا من منظومة ثقافية، ما يعني أنّ الثقافة قادرة على إدماج عناصر متباينة، كما يعني أنّ التثاقف هدّام/ بنّاء للهوية، مما يسهم في إكساب الفرد سلوكيات وقيم جديدة.
وإذا ما كنا نتفق مع إنعام كجه جي بأنّ اللغة العربية تخطّت كونها لغة الدين الإسلامي لتكون لغة المنتمين إلى قومية بعينها (القومية العربية)، فإننا نتابع معها في طرح إشكالية القومية والدين باعتبار الأولى هي الأصل الذي يحتضن كل انتماء آخر، فها نحن نقرأ في ص90:
“- كيف كان جدي قومياً وهو المسيحي الكلداني؟
- ولم لا؟ وهل تمنع الأديان حب الوطن؟“
لتتابع في ص91 كلامها نقلاً عن جدّتها حول مشاركة جدّها في حرب فلسطين ضدّ اليهود إذ تقول:
“كان قد ذهب مع فرقته لفكّ الحصار عن قوة عراقية حوصرت في قلعة المدينة، أنجزوا المهمة وبقوا هناك، أعلنت الهدنة لكن الحرب ظلّت بين العرب واليهود إلى يومنا هذا“.
مؤكّدة في هذا أنّ القوميين العرب يؤمنون بالعروبة كعقيدة ناتجة عن تراث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ المشترك، ولا تتقيد بعرق أو دين.
لا تكتفي الكاتبة بهذا العرض المقتضب لأفكار الدين والقومية والأمة، وإنّما تسعى إلى كشف صورة التعايش والتآخي المسيحي- الإسلامي بين أبناء العراق الواحد من دون أن يعني هذا ذوبان هوية دينية في أخرى، وإنما يبقى للمنتمين إلى كلا الدينين خصوصيتهم الثقافية التي تتكامل فيما بينها لتشكل خصوصية المواطن العراقي (ممثّلا بالجدة رحمة) المتمسك بأرضه، الحريص على الالتزام بمنظومة قيم رموزها التعاضد والشرف والوطنية ورفض الاحتلال تحت أيّ ذريعة كانت، فعن علاقة رحمة بطاووس وأبنائها نقرأ في ص116 هذا الحوار بين الحفيدة وجدتها:
” – هل سرقوا نذور العذراء؟
– لا. أنا بعتها….
– جدتي! بعتِ ذهب العذراء؟!
– وهل كانت العذراء، مبارك اسمها، تحتاج إلى الذهب ونحن في ضائقة الحصار؟ بعت الذهب ودفعت لطاووس أجرة طقم الأسنان“.
لقد تعدّت العلاقة بين المسيحية رحمة من جهة، والمسلمة طاووس وأبنائها من جهة أخرى، كلّ انتماءات الدين التقليدية الضيقة، فحيدر هو من يحاول إسكات نقمة الجدّة على حفيدتها التي تعمل مع الاحتلال مسوّغًا لها ذلك بفعل التنشئة الاجتماعية والعيش في أميركا (ص 76-77)، كما أنّ مهيمن المنتمي إلى جيش المهدي (جيش طائفي من حيث المبدأ)، هو من يتولّى دوما تأمين حماية الجدة في العراق (ص118) ونقلها إلى الأردن لإجراء عملية جراحية (125)، ليمثل بذلك العراقي الذي تغلب هويته القومية الراسخة في جذورها على هويته الطائفية العابرة بمقتضى الظروف المجتمعية.
وإذا ما كان التآخي الديني وليد العواطف الوجدانية والمشاركة الحياتية، فإنّ احترام الآخر بمعتقداته وطقوسه وشعاراته هو نتاج تنشئة اجتماعية لم تعط الكثير من الأهمية للمتغير الطائفي، وعليه رأينا ردّة فعل زينة الغاضبة على الاستهزاء الذي أبداه المجندون الأميركيون تجاه طقس عاشوراء (119- 122)، مبيّنة أنّ لكل منّا طقوسه التي تستدعي دهشة الآخر، وأنّ الإيمان الحقيقي بعقيدة أو فكرة (بصرف النظر عن محتواها وصحتها) إنما له آثار سيكولوجية إيجابية في حياة المؤمن بها، وفي هذا الصدد تحكي زينة قصة عمتها جوزة التي نذرت أن تزحف من ساحة الخلاني إلى كنيسة “مسكنتا”، لعلّ العذراء تشفق عليها وتشفع لابنها المصاب بشلل الأطفال، وإذ وصلت إلى الكنيسة بساقين مسلوختين فقد كانت مستبشرة وهي تترك نفسها لطقوس العجوز مانوش (ص120- 121)، إنّ مثل هذا الإيمان هو ما يصفه “هيربيرت بينسون” Herbert Benson في كتابه “الشفاء بالإيمان” بالكيفية التي يمكن أن ينشأ فيها الشعور “الروحي” بالطاقة والأمان والارتباط مع قوة أو طاقة “عليا”.
وبوعي أدبي اجتماعي هادف، تمرّر إنعام كجه جي رسالتها النقدية لبروز الأحزاب الطائفية في الساحة العراقية، كاشفة عن صورة المسلم المتخبّط بين المسموح والممنوع (المباح والمحرّم) اجتماعيًا ودينيًا، إنّ مهيمن المتحوّل من الفكر الشيوعي إلى الفكر الإسلامي بعد سجنه لأعوام متعدّدة في إيران يعتبر حبّ زينة، وفق الشريعة الإسلامية، محرّما عليه بفعل الأخوّة بالرضاعة، لكنّه لا يمانع بزواجها من أخيه حيدر بعقد شكلي لتمكنّه من السفر معها إلى أميركا وإبعاده عن الجوّ الأمني المضطرب المهدّد لحياته في العراق (ص147)، إنّنا بهذا الصدد لن نتكلم عن نفاق ديني وهو أمر محتمل، وإنما نرى في ذلك تقديمًا للروابط العائلية على الأعراف الدينية لاعتبار الأولى على حدّ تعبير حليم بركات في كتابه “المجتمع العربي المعاصر” تتّسم بالأسبقية التاريخية والرسوخ الاجتماعي الأعمق جذوراً في حياة الفرد.
الاختلافات الجندرية في البيئة الثقافية للرواية
الرواية مرآة الواقع، انعكاس للحياة بكلّ غموضها وتعقيدها وتشابك علاقاتها، معبّرة هي عن عواطف الناس، عن أفكارهم، عن مخيالهم وعن رؤاهم للحياة بكل تفاصيلها الدقيقة؛ ما يعني أنّ روائية قديرة مثل إنعام كجه جي ستكون حريصة على نقل صورة الواقع الاجتماعي بكلّ مكوناته وتقسيماته وأنساق تصوراته التي تبلوّر سلوكيات الناس وأجسادها وعلاقاتها ونظرتها إلى ذاتها كما للآخر.
لمّا كان المجال المكاني لرواية “الحفيدة الأميركية” هو العراق ببنيته الاجتماعية التقليدية البطريركية فقد كان من البديهي أن نلاحظ الاختلافات الثنائية مرسومة على أساس جندري، سواءٌ في التعاطي مع المجال، أو التقسيم الجنسي للعمل، أو الجسد والصفات والطباع؛ ولا يختلف هذا الأمر كثيرًا في أحياء المهاجرين العرب في أميركا وذلك لسببين:
أولًا: إنّ المهاجرين لا يهاجرون بأجسادهم فقط، وإنّما يحملون معهم بناهم الثقافية ومنظوماتهم القيمية وعاداتهم وتقاليدهم.
ثانياً: إنّ التقسيم الثنائي الجندري ليس خاصًّا بعالمٍ أو بلدٍ دون غيره، إنّما هو على حدّ تعبير العالم الأنتربولوجي شرّي أورتنر sherry ortner حالة تثاقفية تمّ تبادلها بين مختلف الحضارات.
بناءً عليه تفسح تجربة النزول الى الميدان العسكري والحرب والطائرات في رواية كجه جي مجالاً أمام رؤية الهوية الجندرية للمكان، فالطائرة الحربية التي نقلت زينة من أميركا إلى العراق كان فيها خمس نساء مقابل أربع وعشرين رجلًا (ص39)، وحتى عندما بدأت زينة عملها كمترجمة (لا كجندية) في تكريت، فإنهم احتاروا في تأمين غرفة تنام فيها وحدها لظنّهم المسبق أن من سيأتيهم مترجم رجل، ليخْلُصوا في النهاية إلى إعطائها المطبخ كغرفة خاصّة لها، يحمل هذا التقسيم دلالات تشير إلى سجن المرأة رمزياً ضمن إطار الملكات التعبيرية والعمل المنزلي والمطبخي من أجل الآخرين.
تجدر الإشارة إلى أنّ اعتماد مبدأ الاختلاط ممزوجًا بذهنية الفصل بين الجنسين في ميدان الحرب لا يحول فقط دون الاستعمال المفيد للأمكنة، بل يقوم بشكل لافت بكبت جسد المرأة في الفضاء؛ وعليه نقرأ ص110:
“… حتى حاجتي كنت أحبسها ولا أعرف كيف أقضيها مثل الخلق…. (كنت أستعمل لذلك كيسا من البلاستيك)…. وفي غيرها من أوقات أزاحم الجنود على بيوت راحتهم…. وهناك دائما من يقف لك في الخارج ويتلصص عليك من الشقوق أو يتطفل بسؤال خبيث“.
لا تتوقف الرؤية الجندرية في الرواية على دلالاتها في تقسيم المجال فقط، وإنما تتجلّى بأوضح صورها في علاقة زينة مع الآخر (الرجل)، إنّ الفتاة التي اعتادت في أميركا على أن تكون القائد بين أصدقائها والند في علاقتها مع صديقها كالفن (ص135)، تجد نفسها في العراق، وضمن علاقتها مع مهيمن الذي أغرمت به، تستبطن هابيتوس habitus تنشّأت عليه وصاغ نسق تصوراتها حيال ذاتها كأنثى، تستخدم للإيقاع بالآخر أسلحة نمطية تتمحور حول الجسد الأنثوي، بما هو رمز للشيطنة والغواية والكيد والرذيلة، ولا تكتفي بذلك، إنّما تستبطن أيضاً صورتها كتابع في مقابل صورة الرجل السيد المسيطر الذي يقدم للمرأة الحماية والرعاية العاجزة شخصيًا عن تأمينها لذاتها، لتهدف إنعام كجه جي بذلك إلى تبيان أنّ المرأة هي شرطي النظام الذكوري وهي الموكلة بالحفاظ على منظومة قيمه.
فها نحن نقرأ ص134:
“أقول له بدلال شيطاني لم أعهده في نفسي من قبل:
- أتمنى لو يتزوجني رجل هنا، وأبقى في بغداد قطة أنيسة تحت قدميه؟
- أنت؟ قطة أنيسة؟
- حتى لو كان زواج متعة
- عيب ما تقولين يا زينة”
لتتابع ص135 استبطان صورتها كأنثى لا تتبلور كينونتها إلا بذكرٍ يحميها ويصونها، فتقول:
“وأنا هنا بمعية رجل، يتقدمني في السير ويختار الطاولة ويجلس على الكرسي المواجه للناس تاركا لي الكرسي الذي يواجه الحائط…. وأنا لا أعترض بل أتمتع بأن هناك من يتولى عني كل شيء“.
أما في ص136 فتعود لتتكلم عن أهمية المجال وجندرته فتقول:
“أهمس ويبتسم طائعاً، ويشعرني الهمس بالحميمية بيننا“.
لنكون هنا بصدد ما أسماه مارك – أوجي “اللا مكان” non place وهي مساحات غير قابلة للتغيير، للإنتماء، أو للمصادرة، ما يولّد نقصًا بإحساس الأمان، وجوًّا يقوّي ويدعّم ديناميات القوة الموجودة فتنتج عن ذلك طبيعة بطريركية للمكان.
وتجدر الإشارة إلى براعة الكاتبة في الكشف عن خوف الرجل في المجتمع البطريركي من المرأة ومن ضعفه تجاهها، فهو حينًا يتمسّك بالحرص على عدم الخلوة المكانية، وحينًا آخر يخلق من مفرداته حجابًا رمزيًا يمنع أي علاقة جنسية بينه وبين المرأة، وهذا ما كان يعتمده مهيمن في استخدامه المستمر لعبارة “أختي الفاضلة“، كأنّما يسعى من خلالها إلى إخضاع الجسد الأنثوي لمنطق الشرع والورع، ذلك إنّ “الأنثى حسب الذهنية الذكورية، وعلى حد تعبير فاطمة المرنيسي، فتنة، إنّها مثالٌ لما يتعذّر ضبطه، وهي ممثِلٌ حيٌّ لأخطار النشاط الجنسي وقوته الكاسحة الممزّقة.
ولما كانت هذه الذهنية التي تحرك زينة في علاقتها مع الرجل ليست وليدة البنية الاجتماعية الأميركية التي تتيح للمرأة هامشًا مقبولًا من الحرية ومن التمتّع بالمساواة الجندرية، فإنّ انعام كجه جي كانت حريصة على أن تبيّن لنا المخزون الثقافي الذي يمدّ زينة بذكرياته وصوره التي تصنّف حتى الخصائص والصفات على أساس جندري، ففي كلامها عن طاووس وأعمالها المتعدّدة وخروجها ودخولها تصفها بنصف مسترجلة (ص50)، وفي كلامها عن زوجة عمّها التي واجهت البعثيين تقول:
“وهي أشجع زلم البيت” (ص 52).
حتى إنّ صورتها لذاتها خارج إطار حبها لمهيمن، كانت تبدو لها امرأة بخصيتين وذلك بفعل قدرتها على التخطيط والتنفيذ وعدم الاستعانة بالآخرين (ص77).
بناء عليه نبدو إزاء ذهنية ذكورية تجندر الجسد والطباع والصفات والأفعال وترسخ تنميطاً جندريًا ينهل من معين البنية الثقافية متضمنة مؤسسات التنشئة الاجتماعية عمومًا، والايديولوجيا الدينية خصوصًا.