أثر السجن في رواية
“الجهة السابعة”
كميل ابو حنيش
جميل أن يكتب المناضل سيرته أو جزءا منها، فهو ـ بالكتابة ـ يؤثق لمرحلة ستكون مرجعا تاريخيا في المستقبل، وبما أن الأدب أكثر ديمومة وقراءة من التاريخ المجرد، فإن هذا يضيف ميزة أخرى تحسب لأدب السيرة.
من هنا تكمن رواية “الجهة السابعة”، ـ التي باعتقادي ـ تعد تكملة لرواية “الخرزة” لمنذر خلف، وذلك لأنهما تحدثا عن عين المرحلة والمكان والاشخاص، وهذا يضيف قيمة أخرى للرواية، ويؤكد على صدق/دقة الأحداث في الروايتين.
لن أدخل في المقارنة/التمايز بينهما، لكن أحب التنويه إلى أن الأول استخدم الخرزة كمعبر/كمفتاح أدبي يضفي لسمة جمالية على السيرة، والثاني أستخدم الجهة السابعة بعين الطريقة، لتكون أحد الجماليات التي تخفف من قسوة الأحداث الدامية في الرواية.
من هنا سأتحدث عن العنوان “الجهة السبعة” وعن تقسيم الرواية إلى ثلاثة أبواب، الحب، الحلم، الموت، فرقم سبعة ورقم ثلاثة يحملا معنى المقدس/الاستمرار/التكرار وهذا يؤكد على أن السارد أراد التأكيد على نهجه، على تاريخيه، على ما قام به، وعلى قدسة فعله، فهو من خلال العنوان وأبواب السيرة الثلاث أكد على استمرار وقدسة سيرته، واستمرار قدسة الرواية/السيرة ككتاب، وهو بهذا يقدمنا من محلمة البعل الذي ما أن يغيب/يموت حتى يعود إلى الحياة من جديد.
فمضمون الاستمرار/القدسية لا يقتصرا على الفكرة فحسب، بل على العمل الأدبي/الروائي/السيري الذي يقدمه أيضا، وهذا يشير إلى أهمية الرواية/السيرة “الجهة السابعة، التي كتب عن منعاناة، ومن معاناة، فلا يجوز أن تقرأ ككتاب للتسلية، أو ككتاب عادي، لما فيه من قيمة معرفية، ولما فيه من حقيقة، وللألم الكامن في الأحداث، ولأن كاتبه ما زال يتألم.
السجن
للمكان أثره على الإنسان، وبما أن كاتب السيرة يقبع في سجون الاحتلال، ومحكوم بتسعة مؤبدات، فإن للسجن حضور وأثر في السيرة الروائية، وهذا الحضور كان لافتا، فهو موجود في كل أبواب الرواية وأحداثها، من مظاهر هذه الحضور: “إنما أنت إنسانٌ عاديٌ أضناه الانفصال عن الحياة الطبيعية” نلاحظ الالم الذي يمر به السارد، وهو بهذا يؤكد على إنسانيته، بمعى أنه ليس بإنسان خارق، كما يحب البعض أن يصف به الأسرى، فالحديث عن ألمه الشخصي، يشير إلى المعاناة التي يتعرض لها بين جدران السجن.
من هنا كان لا بد من وجود/خلق شيء يخفف عليه معاناته، فكان الحب/الحبيبة هي المخلص: “في السجن يغدو الحب الها تعبده الافئدة” فعندما وصف الحب بالإله أكد على قوته وأثره على التخلص من واقع الأسر.
يحاول السارد تبربر تمرده على المقدس “الحب إلها تعبده الأفئدة” من خلال إيضاح واقع الأسير في السجن: “في السجن الابدي يتوقف الزمن لا يحس الأسير بتوالي السنين يتوقف عمره عند اللحظة الي ولجت فيها قدمية بوابة السجن اما الحبيبات فتتوقف اعمارهن ايصا في الذاكرة” نلاحظ اللغلة (العادية) في هذه المقطع، وكأن السارد يعي أنه تحدث بشيء أزعج القارئ، فحاول أن يبسط ما تحدث به، فكانت هذه الفقرة (كتبرير) لما أقدم عليه من تمرد على المقدس، فحالة الحصار، وموت الوقت، الذي يعد أحد أهم المسائل التي تؤرقه وتؤلمه، فكان لا بد من إيجاد شيء يساعده على التخلص مما هو فيه، كان الحب/الحبيبات.
إذن الأسير استطاع أن يتحرر من واقع السجن، وثقل الوقت/الزمن من خلال (التخيل)/الحلم، وبه استطاع أن يكتب سيرته بصيغة أدبية مقنعة للقارئ، يوضح لنا هذا الأمر بقوله: “في السجن تقع تحت سطوة غواية الأحلام فترتقي بك عن الواقع وعن عالمك المحاصر. يغدو الماضي والآتي المادة الدسمة التي تتغذى عليها الاحلام، أما الحاصر فهو حالة مقتظة بالهواجس فتحاول الفرار منه إلى عالم آخر. إعبر للجهة السابعة. تلج البوابة الثانية وهنالك حيث العالم الفنتازي والسريالي عالم الحلم والخيال الشاسع الذي يغدو هو العالم الحقيقي ولا عالم حقيقي سواه” الجميل في هذا المقطع أنه يكشف طبيعة الرواية/السيرة، وكيف أنها تهرب من الواقع إلى الخيال/الفانتازيا، فالسارد بهذا (الهروب) يؤكد على حاجته للحياة السورية، ويؤكد على قسوة السجن والسجان، ويخدم أدبية الرواية/السيرة “الجهة السابعة” التي يقدمها لنا.
واللافت في هذه المقطع والغالبية المقاطع التي تحدث عن السجن، وحتى في فاتحة الرواية التي بدأت: بقوله: “أتروي لهم حكايتك كما هو مألوف. أو كما درجت عليه عادتهم في الاستماع أو المشاهدة أو القراءة، أم ترويها لهم على نحوٍ مغايرٍ؟” استخدام السارد لصيغة تداعي ضمير المخاطب، وكأنه به يريد الهروب/الابتعاد عن واقعه، من خلال إيجاد متحدث/سارد آخر يخاطبه ويخاطب القارئ معا، فاستخدام هذه الصيغة في سيرة ذاته، من المفترض أن تروى بيصغة أنا المتكلم، يشير إلى أكثر من مسألة، منها تعب السارد من الحديث عن الألم، فأراد أن يكون له مساعد له، يخفف عنه هذا الحديث، لأن الحديث عن الألم، يعد ألم آخر يضاف إلى ما يعانيه المتحدث/المتكلم.
وبما أن هذه المشاركة أدبية، بمعنى أنه تجعل صاحبها ذو مكانة عالية، فإن هذا يعكس ما يحمله السارد “كميل أبو حنيش” في العقل الباطن من أهمية العمل الجماعي، وبأهمة مشاركة الآخرين في أنجاز أشياء/أعمال مهمة، وهو يؤكد على الفعل الجماعي من خلال الجمالية التي أحدثتها صيغة تداعي ضمير المخاطب على السيرة/على الرواية، حيث أعطتها لمسة جمالية من خلال تعدد الرواه، حيث يشعر القارئ بوجود أكثر من سارد، وهذا يؤكد على صدق ودقة الأحداث التي تروى في الجهة السابعة.
الباعث/المحفز على وجود هذه السيرة هو السجن، فهو الذي أسهم في (خلق) كميل السارد/الروائي، فهو من خلال كتابته للسيرة أراد هزم السجن والسجان، يحدثنا بوضوح عن هذا التحدي بقوله: “في السجن ثمة نزيف لسنوات العمر وشعور عميق بالخسارة . تستيقظ الرغبات الوجودية من مراقدها.
فالسجن يسعى لترويضك ، ابقائك في قلب معركة متواصلة مع الذات ومع الآخرين ومع السجان تقاوم محاولات طمس روحك الإنسانية تتسلح بالحلم تتشبث بالايمان بالقضية التي ناضلت في سبيلها، بالقيم التي لا زلت تؤمن بها.” السارد بهذه الفقرة يؤكد على القيمة الإنسانية الحاضرة في السيرة، ويشير إلى الطاقة الهائلة التي أستخدمها لإخراجها للحياة، ولتكون ككتاب يقرأ من قبل القراء، وأيضا يؤكد على استمرارية مقاومة المحتل، الذي أراد قتل إنسانية كميل، وتحويله إلى مجرد آلة/ماكنة صماء، لا تصلح إلا لتنفيذ ما يطلب منها، لكنه من خلال “الجهة السابعة” يؤكد على مقاومته وعلى تألقه في هذه المقاومة، فعندما يتحول المقاتل الشرس، الذي يستخدم العنف كأداة /كوسيلة في حربه، ثم ينتقل/يتحول إلى أديب/كاتب/شاعر، يستخدم الورقة والقلم في حربه، فهذا يعد (خلق) جديد له، وهنا تضاف قيمة أخرى لسيرة “الجهة السابعة” ولكاتبها “كميل أبو حنيش”.
أثر السجن في رواية -الجهة السابعة- كميل ابو حنيش
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا