التعدد والوحدة في رواية
“وشهقت القرية بالسر”
تبارك الياسين
أن تأتي رواية لتحدثنا عن ثلاثة مسارات متوازية، فهذا هو الابداع بعينه، وأن تتراوح لغة السرد بين ما هو شعبي، وتراثي، وواقعي، فهذا أيضا يعد أمرا حداثيا في الرواية العربية والفلسطينية، من هنا أقول أن رواية “وشهقت القرية بالسر” تعد من الأعمال الروائية المتميزة في فلسطين، لما أضافته الرواية من تجديد وحداثة، فمن خلال شكل التقديم، ومن خلال اللغة التراثية والأسطورية والواقعية، ويضاف إلى ما سبق تكامل وترابط الشخصيات وعلاقتها بالمكان “الشقلوب”، فرغم أن هناك أكثر من مسرب في الرواية إلا أنها تتوحد في خدمة الفكرة، فكرة علاقة الإنسان بالمكان، وانتصار المظلوم على الظالم، وانجلاء الغمة عن الأبطال الشعبيين “سلمى، رجب، بشير” والأبطال الأسطوريين “لايلا، أيبو، راع أيل”، وهذه النهايات السعيدة تتوافق مع نهاية الحكاية الشعبية والملحمة الأسطورية.
مدخل الرواية
وبما أن الرواية يتداخل فيها الواقع والتراثي والأسطوري فكان لا بد من إيجاد مدخل منطقي لهذه العوالم المتباعدة، من هنا أوجدت الساردة “أوراق اشترتها بطلة الرواية “رنا” من أحد الأشخاص: “لا أعلم أي حماقة ارتكبت، حملت الكتاب وأنا أتخيل وجه والدتي عندما تعلم أن المال قد أنفقته على مجموعة أوراق قديمة بدلا من شراء حذاء مناسب للثوب الذي اشترته لي لحضور زفاف ابنة خالتي” ص8، فهذا المدخل كان مقدمة للحديث عن بطلات الرواية “رنا، سلمى، لايلا” اللواتي (تصارعن) مع فكرة الزواج، ف”رنا” كان هاجس والدتها أن تزوجها بعد أن تجاوزت سن الخامسة والعشرين، و”لايلا” التي أحبت “أيبو” وضعت حبها جانبا، وفضلت أن يكون زواجها في مصلحة وطنها “شكيم” حينما وافقت على الزواج من ريحو بعد أن يتم الانتصار على العبرانيين، و”سلمى” التي أحبت “بشير” تكلل حبهما بالزواج بعد أن ىكشف “رجب” تآمر خالها “عاطف وزوجته عليها ليرثاها بعد أن ألصق بها تهمة الشرف.
الجميل في الرواية التكامل والتواصل بين ما جاء في فاتحتها ومتنها وخاتمتها، فالساردة عرفت قيمة الأوراق أدبيا، وجيرتها لخدمة الرواية وإضفاء لمسة ناعمة على السرد الروائي: “كنت سعيدة جدا بالفكرة ومستعدة لتطبيقها، ولكن علي في المقابل أن أخفي هذا الكتاب عن الجميع، فلا لأحد أن يعلم من أين يأتي كل هذا التدفق الروائي وكل تلك الأخبار، سيكون الكتاب سري الخاص، وأنا التي أهوى اللعب بالأسرار: ص30، وهذا ما كشفته لنا في نهاية الرواية ، سر الفراج، سر محاولة قتل “عاطف” خال لسلمى، سر هروب “لايلا” ومن ثم قبولها الزواج من ملك ريحو”.
فالكتاب ليس كتابا عاديا، بل هو أحد ابطال الرواية، رغم أنه مجرد (ناقل) لما فيه، فبعد أن تكتمل الأحداث وتنكشف الأسرار يدو الحوار بين الساردة الواقعية “رنا” والبطل الشعبي وبطل الكتاب “رجب”:
“…وما أن جلست حتى قال:
ـ “إنه الكتاب! جئت من أجل الكتاب!
ـ لم أفهم!
ـ لقد فتحت بابا لتخرج منه الحياة، حياة قرية الشقلوب، أنها تعود من جديد، كلما قرأ صفحة منه، يعودون وهم يحملون آمالهم وأحلامهم بين أكفهم، …يتلبسك الكتاب ويمتلكك وكأنه سحر أو لعنة من لعنات القرية … الكتاب اختارك كما اختار غيرك/ والذين ستلاقيهم صدفة هنا أو هناك.. وهو من يختار قارئه!” ص126 و127، هذا ما جاء في نهاية الرواية، وكأن الساردة تعمدت أن تكون الخاتمة متطابقة ومتماثلة مع فاتحة الرواية من خلال الحديث عن الكتاب.
أثناء قراءت “رنا” الأوراق تكشف ما فيها من أحداث وشخصيات، ومن خلالها يحدثنا “رجب” عن القصص الأسطورية التي كان يسردها عليه الأستاذ “صلاح كنعان”، متناولا علاقة “راع أيل بابنته “لايلا” وعلاقتها بحبيبها الفارس الشجاع “أيبو” ومن خلال الشخصيات تأخذنا إلى المكان، “”شكيم، عجلون، أريحا” فالبعد الأسطوري رافقه الحديث عن مكان تاريخي، وهذه اشارة ـ غير مباشرة ـ إلى علاقة الأسطورة بالمكان، بمعنى أنها انتجت منه وفيه، لهذا هي جزء من المكان ومن الناس/المجتمع الذي تكون وتشكل في المكان.
أسماء الشخصيات ودلالاتها:
الساردة الرئيسية هي “رنا” ومن معاني الأسم: “النظر بتمعن، الإصغاء بعناية” وهذا يخدم الدور الذي لعبته “رنا” بعد أن بدأت في قرأت الكتاب علينا، أما البطل الكتاب “رجب” فهو أحد الشهور القمرية العربية، بمعنى أنه يأخذ صفة الزمن، وهذا ما قام به “رجب” بعد أن حدثنا بما قاله المعلم “صلاح الكنعاني” من أحداث عن راع أيل ولايلا وأيبو، ومن ثم محادثته للساردة “رنا” بمعنى أنه كان عابر للزمن، فقد نقل لنا أخبار غارقة في القدم، وأخرى قريبة منا لكنها انتهت “سلمى والشيخ فراج وعاطف والبئر والقبر”، وأيضا تحدث مع “رنا” المعاصرة لنا.
أما سلمى الفتاة العاشقة، فهي تتماثل مع ليلى وبثينة في الحب، وعندما أنهت الساردة حكايتها بزواجها من “بشير” أكدت على الفكرة التراثية التي تنتهي بالفرح والسعادة.
و”الشيخ فراج” يأخذنا إلى المعنى السلبي “للشيخ” الذي يدجل ويكذب على الناس، والإيجابي ل”فراج” الذي يفرجها على الناس سيفرحهم، وهذه كانت طبيعة الشيخ فراج، فهو مارس الدجل والكذب على الناس، وساهم في فرج كربة “سلمى وبشير” بعد أن نبهه “رجب” إلى أن “عاطف” عمل على إلقاء سلمى في البئر ليتورثها.
أما “صلاح الكنعاني” فهو يأخذنا إلى المكان التاريخي والشخصيات التاريخية، من هنا كان اهتمامه منصبا على ال(“كراكيب”) الكنعانية، فقد تناول قصة “راع أيل” مستخدما البعد الديني لفكرة الخصب والموت التي حملها الفينيقي قديما، فجاءت فكرة الموت والحياة تتماثل تماما مع ما جاء في الملاحم والأساطير السورية القديمة، الحياة تنبق/تخرج من الموت، والموت يتبعه/يعقبه حياة.
من هنا نقول أن اسماء شخصيات الرواية كانت موفقة ومنسجمة مع طبيعة الدور الذي تقوم به والفكرة المراد تقديمها.
لغة الشخوص
ما يحسب للرواية حيادية السرد فيها، فالشخصيات تحدثت بحرية مطلقة ودون تدخل من الساردة، ولتوضح ذلك نأخذ ما تحدثت به “رنا” عن الزواج والزوج: “لم يستطع خيالي أن ينسج لي كيف سنتقاسم أنا وهو السرير، وكيف تتعرى الروح ويتعرى الجسد أمام غريب طرق الباب يوما، … لم أستطع أن أنجب منه في الخيال طفلا لأعيش الأمومة ولو كذبا” ص37، نلاحظ أن المشهد جاء بصوت أنثى تحدثنا عن مشاعرها وما تفكر فيه، فهو صوت امرأة مطلقة، لا لبس قيه.
في المقابل عندما يرى “رجب” “سلمى” وهي تستحم يصفها لنا قائلا: “…لم يشبه جسدها جسد أي امرأة عرفت، لا جسد أمي ولا خالتي التي كانت تخرج ثديها المترهل أمامي لترضع وليدها، ولا حتى جسد أخت سعيد الذي كان أقرب إلينا من قربه إلى جسد أنثى، كان جسدها العاري يتلألأ تحت قطرات الماء، وكأن نجوم السماء التي اختفت الليلة تجمعت جميعها جميعها لتلمس عنقها المشدود إلى الخلف، نهدان متصلبان كحبتي دراق شهي، رغبة ملحة انتابتني، نار ألهبت أذني، تحولت عيناي لجمرتين ترميان شرارات لو سقطت على الأرض لا حرقت الأخضر واليابس، اختبأت خلف الصخور لاهثا، لا أعلم ما وصلت إليه وتركت جسدي يعلمني طقسا من طقوسه التي أجعلها، استسلمت له ونفذت ما يمليه علي، دقائق معدودة شعرت بعدها بالراحة وغسلت يدي مما انسكب عليها من رجولتي” ص77و78، فهنا المتحدث كان مراهقا يشاهد لأول مرة أثنى حقيقة، لهذا تحدث باسهاب عن تجربته الأولى كذكر، مفصلا الحدث بدقة متناهية، وهذا ما يجعل الشخصيات مقنعة للمتلقي، وأنها حرة فيما تقوله، فلم تمارس الساردة (سطوتها) الروائية على الشخصيات، فكانت الحرية هي السمة البارزة لشخصيات الرواية.
المرأة
هناك ثلاثة نسوة في الرواية” رنا، سلمى، لايلا” وكلهن تعرضن لفكرة الزواج، “رنا” فتاة معاصرة لواقعنا، ترفض أن تخضع لفكرة والدتها عن الزواج، رغم أنها تطيعها فيما تطلبه منها من تزين وابداء جمالها في الأعراس والحفلات.
أما سلمى البطلة الشعبية فهي تميل إلى “بشير” لكنها أبقت على عذرية العلاقة معه، فكان (ميلها) محتشما: “أقسم أنه لم يمسني قط، ولم نلتقي إلا صدفة، مرة في زريبتنا وكان بحضور خالي عندما ناولته كوبا من الحليب، ومرة عندما أعاد لنا شاتنا المجروحة …لا أنكر أن قلبي سقط بين كفي عند رؤيته/ ومن هول سقوطه سقطت في حبه، لكن، والله يشهد، أني لم أرتكب أثما أو ذنبا” ص78، وهذه العذرية تتماثل مع تلك التي تجيء في الحكايات الشعبية، حتى أننا نجد “سلمى” تتحدث بعين اللغة الشعبية التراثية، وهذا يخدم فكرة لغة الشخصيات ، وعلى أنها متحررة من هيمنة الساردة وسطوتها.
أما “لايلا” ابنة “راع أيل” الأسطورية فتفر من الهودج لتلتحق بحبيبها “أيبو” تذهب إلى كاهنة المعبد ويجري بينهما هذا الحوار:
“ـ …ما العمل؟ هل أذهب إلى الإله عجالين أطلب موافقته أم اتوجه إلى عشتار؟
ـ لا أحد، لن يسمعك أحد يا لا يلا، نحن الآن في حرب، وأنت جزء من شكيم، وقد باركت الآلهة زواجك من ريحو لإنقاذ شكيم من العرانيين/ عليك أن تختاري يا صغيرتي، قلبك أو مدينتك،” أعلم أن الاختيار صعب، ولكن أيبو نفسه سيفضل وطنه، فهو ولد محاربا لهذه المدينة وسيبقى . اختار أن يكون اليوم عند الأسوار الحالية” ص116، وهذا ما يجعل الرواية موحدة الفكرة، الزواج وما تتعرض له الفتيات قُبيل الزفاف من ضغوطات أو مرغبات، لكن اللافت في ؤالرواية أن الفتيات الثلاث كن متمردات على واقعهن، “رنا ولايلا” بصورة مباشرة وواضحة، بينما “سلمى” ولأنها (حكاية شعبية) جعلت القدر يتدخل من خلال “رجب” ليخلصها من محتنها ويعيدها سالمة غانمة إلى حبيبها “بشير”، وهذا يأخذنا إلى فكرة المجتمع الذكوري وطريقة تعامله مع الأنثى التي يريدها أن تكون خاضعة له ومطيعة، بحيث لا تبدي أي معارضة/ممانعة عما يصدر لها من أوامر ورغبات.
تشابك أحداث الرواية وتوحدها مع المكان
رغم أن الزمن والشخصيات والمسارت في الرواية مختلفة إلا أن هناك جامع لها، فالشخصيات كانت تتأثر ببعضها وبما تقراءه أو تسمعه من أحداث، “رجب” بكل الحكاية الشعبية يتأثر بما سمعه من “صلاح الكنعاني” عن “راع أيل” الأسطوري: “…قادتني قدماي لطريق آخر لم أقصده يوما، الطريق يشبع ذلك الذي ضهب إليه راع أيل الكنعاني” ص50، وهذا يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى ارتباط أبطال الرواية مع المكان وتواصلهم فيه وتكاملهم، فهم يسيرون بنفس المكان ويخطون فيه، ويتأثرون ببعضهم، ف”رجب” الشعبي يتأثر بالأسطوري “راع أيل”، فالثقافة القديمة ما زالت حاضرة في المكان من خلال تتابع “رجب” لرحلة “راع أيل”.
نجد هذا الأثر في موقع آخر: ” … وكأنني مثل راع أيل بقوته، والفراج هو الكاهن الشرير” ففي هذه الفقرة يؤكد “رجب” على التواصل والتكامل بين الأحداث والشخصيات، فهو “راع أيل” والشيخ الفراج/رجل الدين السلبي يتماثل الكاهن الشرير.
ونجده متأثر بصورة ؟لايلا” محاولا أن يسقطها على “سلمى”: ” حاولت كثيرا فض صورة سلمى من عقلي وإحلال صورة رابعة التي بدت جميلة ومختلفة ذاك اليوم في العرس لكنني فشلت، حتى أنني بدأت أنسج صورة لا يلا في رأسي، أخبرت الكناعني ذات مرة “أرى شبها كبيرا بين لايلا وبين سلمى” ص114و 115، وهذا ما يأخذنا إلى وحدة موضوع الرواية ووحدة الشخصيات وتماثلها.
ونجد “رنا” تعاني كما عانى “رجب”: “..أحاول عبثا أن أخرج من تلك القرية… يبدو أنني أصبحت مثل رجب عاجزة عن إغماض عيني، …اتقلب من جديد يمينا وشمالا، أسحب الغطاء على وجهي حتى يختفي الحر ثم انزعه، أعود وأتأمل السقف. .. لعلي أخدع الليل وأنام، ولكن رجب في رأسي يركض في السهل يتخطى الشوك، أحاول أن ألمح وجه سلمى أقاربه بما وصفه رجب بتلك الصورة الذائبة في القدم” ص52، “رنا” تتأثر بما تقرأه عن رجب وسلمى كما تأثر بجب بما سمعه عن راع أيل، ونلاحظ تركيزها على حالة النوم تماما كحال “رجب” بعد أن أخذ يفكر كيف يخلص “سلمى” ممن الحق بها من أذيه وظلم.
وهناك تماثل آخر لم تفصح عنه الساردة مباشرة، فجاء من خلال سرد الأحداث، فهناك تماثل بين حالة “سلمى” التي وقعت في حب “بشير” وحالة “لايلا” وحبها ل “أيبو”: “وأدركت أن قلبها لم يعد ملكا لها، وما عليه فعله هو إعطاء قلبها وقلبه فرصة للتلاقي بعيدا عن البقية، وأن تشعره بالأمان” ص81، وهناك تلاقي بين تجهز “لايلا” ل “ريحو” وتجهيز بنة خالة “رنا” لعريسها، مع تجهيز “سلمى لبشير”: “… كنت أرى النساء يتوافدن إلى بيتنا لتجهيز العروس، منهن من يحملن الحناء ومنهن من يحملن الأقمشة والصغيرات حملن الصابون” ص104و105، فبدا هذا المشهد وكأنه (نسخة) مكررة عن الأعداد العروس لعريسها.
والتداخل الآخر نجد في نهاية الرواية، عندما أخرجت “رنا” شخصيات الكتاب إلى الحياة مباشرة وأصبحت جزئا من الواقع المعاصر: “يصرخ فتى من بعيد:
ـ سعيد انتظرني!
أنظر إلى صاحب الصوت، فتى لا يتعدى الرابعة عشرة من عمره، …ينظر إلي بعينين يملأهما الذكاء، ثم يفر هاربا من أمامي لأتبعه” ص125. فالنهاية وحدت الشخصيات ووحدت المكان حتى بدت وكأنها تقوم بعين الفعل وفي ذات المكان.
الرواية من منشرات وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2021.