مع عام 1963 وحملة التصفية التي تعرض لها حزب ارض السواد الشيوعي العراقي، بدات عملية تأسيس أخرى، ومختلفه كليا لاعلاقة لها بالاولى واشتراطاتها المتصلة بمناهضة الدولة المفبركة من قبل الاستعمار الإنكليزي، وقاعدة ارتكازها “تغيير نمط ملكية الأرض”، وليس من باب الصدفة العارضة ان يكون “فهد” و “سلام عادل”، الأول المنتفكي، والثاني النجفي، بالضبط كما هو مسار الطورين التشكليين : القبلي، والديني الانتظاري الحديثان العراقيان، وانهما قد تم اعدامهما، بينما يستمر “القادة الاكراد”، وعلى راسهم “عزيز محمد” يعيشون الى مابعد التسعينات من أعمارهم، من دون حالة استثناء، كدلالة اساسيه على تغير الاشتراطات والمحركات الفعليه، ضمن تدرجات الاستقطابيه الدولية، وصولا الى المؤتمر الرابع للحزب عام 1980 حين تمت تصفيه وطرد كل، واخر من يذكّر او يمكن ان يتصل بتاريخ الحزب الأول، حزب ماقبل ثورة 14 تموز 1958 وارض السواد (1).
ليس للحزب الثاني “حزب عزيز محمد الكردي الشيوعي العراقي”، سوى تبرير ومحرك وحيد، هو الإيحاء بلعب دور متلائم مع مقتضيات اشكال ماعرف بالحكومات “الوطنيه” وعلاقتها بالمنطقة الكردية، وصولا الى سياسة “بعثيو الجبال” التي تحولت الى ممارسة ثابته مع مجيء البعث عام 1968 الى الحكم. ولا نعثر هنا على ماقد برر قيام نظام البعث وقتها على المستوى “الدولي” ضمن اشتراطات القطبيه الدولية، والحساسية الاستثنائية التي يحتلها العراق تكوينا مجتمعيا وجغرافيا، تزايدت خطورتها مع استثنائية خطورة طبيعة المجتمع العراقي “العصيانيه”، مع النفط وخزائنه الواقعة تحت اقدام العراق، وبمحاذاته، خصوصا بعد تجربة ثورة تموز و “المد الأحمر”، فالوثائق السرية لهذه الناحية خارج التداول، ومن غير المتاح الوقوع عليها، ناهيك عن كونها خارج الانشغالات والاهتمام حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مع ان سياقية مابعد تموز 1958 وصولا الى تموز 1968، تشير بوضوح الى نوع تدبيريه جديدة لاحقة على الأولى 1921/1958 موضوعه لغرض بعينه، متفق مع الاشتراطات القطبيه الروسية/ الامريكية، منها وتتضمن، مجموعه من الأدوار والمواقف، وفعل الشخصيات التي لم يحدث ان حوكمت بناء على ماننوه به من اشتراطات.
وليس للامر علاقة هنا ب “نظرية المؤامرة”، بل بسياقات وترتيبات مايعرف بالنظام الدولي ومقتضياته، فسياسة التحاق الحزب الشيوعي بماسمي وقتها بالنظم الوطنيه بعد عام 1964 حين تم تنصيب “عزيز محمد” بالسطو، من قبل السوفييت، امينا عاما للحزب، هي استهلال سابق لحدث “الجبهة الوطنية والقومية التقدميه” لعام 1973 ،فالحزب لوح قبل ذلك بالانتماء الى “الاتحاد الاشتراكي العربي” أيام حكم عبدالسلام عارف، ومايعرف بنظرية “التطور اللاراسمالي” ومحايثها المعروف بخط اب، الذي اكتسب شهرة من حيث كونه حالة انعطاف غير مسبوقة في تاريخ حزب، أسس وبني على قواعد ومزاج لادولة، وناف للدولة بحكم المناخات الانتظارية الاستشهادية الغالبة، والراسخه مجتمعيا جنوبا، في الموضع الذي تسنى له ان يتاسس في رحابه في الثلاثينات من القرن الفائت.
والخطاب الالتحاقي بنوع التدبيرية الجديده على مستوى الدولة، مجسدا سلوكا ومواقف بارزه، فالحزب الجديد الموصول بالشيوعيه عبر الانتماء لاحد طرفي القطبيه الدولية، اعلن جهارا بمناسبة بارزة، وقوفه ضد تبلورات المعارضة الشعبيه العائدة الى محاولة التبلور على قاعدة الاشتراطات التاريخيه التقليديه، باسم الفرز بين المعسكرين، “التقدمي” الذي تقف سلطة البعث على راسه، والرجعي وقد تجلى وقتها كابتداء بانتفاضة صفر/خان النص في النصف الثاني من السبعينات (2) حيث تبدا من يومها عمليه فرز جديده، طرفاها الحكم والقوى الدولوية الايديلوجية، مقابل إعادة صياغة التمخضات المستجده انطلاقا من موضع الفعالية المتوقف، العائد الى الطور التشكلي الحديث الثاني، الانتظاري، مع بديات اشكال من العمليه التمخضية الكبرى المنتقله من يومها الى خارج العراق، بمايعيد للحضور التفاعلية الاقليميه، محضرا شكلا من الاليات النفطية المتعدية للعراق بذاته، وصولا بعد ثلاثة عقود الى الحضور الدولي الاحتلالي المباشر، ابتداء من الثورة الايرانيه وخلفياتها العراقية، واختلال توازن النظام الريعي تحت طائلة الحرب العراقية الايرانيه 1980/ 1988 وماتبعها من اضطرار النظام تحت وطاة فقدان امتيازات الريع، وماتوفره من استقلالية للحكم عن المجتمع، بفعل الحرب، الى الخروج على المسموح به دوليا وامريكيا، باحتلاله الكويت عام 1990 ـ ومارافق ذلك من متغير كبير، تمثل بسقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد الولايات المتحدة بصفتها القوة الكبرى على مستوى المعمورة.
يخرج الحزب الشيوعي العراقي بطبعته الثانيه الكردية المرتكز والمحركات، من التماس مطردا مع معسكر قوى الصعود التشكلي العراقي الحديث، مثله مثل بقية القوى الايديلوجية التي وجدت قبل ثورة 14 تموز 1958، بينما تدخل البلاد منذ الثمانينات حالة افتقاد للتعبير الوطني، بمقابل غلبة اليات الطور الأخير من اطوار واشتراطات “العيش على حافة الفناء”، التي لن تتوقف ابتداء من الحرب العراقية الايرانيه 1980 / 1988 وماتبعهما من حربين كونيتين، وصولا الى العام الأسود 2006/2007 ، وحرب المفخخات، وداعش، وصولا لحلول عراق مابعد النهرين مكان عراق مابين النهرين التاريخي.
مع متوالية الدمار على مدى يقارب النصف قرن، تحتل ناحية أساسية موضع الظاهرة الاحتلاليه الأعظم، تتقارب معها حال العراق مع شكل من اشكال الانقطاعية التاريخيه التي ميزت تاريخه ابان دوراته الماضية، الأولى والثانية، ومااعقبهما وفصل بينهما من غياب وتوقف الديناميات التاريخيه الصعودية، ومايرافقها ويتولد عنها وينتج من غياب العراق، الامر الذي هو من خاصيات الازدواج المجتمعي لهذا الموضع من المعموره وقد تجدد اليوم ضمن اشتراطات مختلفه، تذكر بالقاعدة التناوبيه التاريخيه، من دون ان تطابقها لا من حيث الاليات، ولا التعاقبات المالوفة، بينما يلح على العقل الاشتراط المعجز عقليا، ولايعود من الممكن للعراق ان يستمر موجودا وهو ينظر الى ذاته بعين غيره كما كان عليه الحال ابان الدورتين، الاولى السومرية البابلية الابراهيميه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية. ومع حصول المتغير النوعي الأكبر على مستوى المعمورة بالانتقال انتاجيا الى “الالة”، وانعكاسات مارافقها وتولد عنها من نموذجية غربية ناهضة حداثية، ماقد احل على العالم والمجتمعية البشرية، وعلى العراق بالخصوص، نوع اليات واشكال تفاعليه، وصنف تحد غير مسبوق ولا مثيل له، الفترة الايديلوجيه احدى مظاهرة العابره، وصولا لاشتراطات الانقلابيه التحولية المنتظرة منذ سبعة الاف عام، حيث تتبدل القاعدة كليا، وبدل ان يظل العراق مجبرا لاسباب تاريخيه موضوعيه، على النظر لذاته بعين غيره، تحل لحظة نطق ارض مابين النهرين المتاخر، ليعم المعمورة ويصير هو المنظور الانتقالي العالمي الشامل المعتمد لدى عموم المجتمعات البشرية.
كيف يوصف وماهي علامات ومعطيات الانتقالية التحولية العراقية الحديثة خارج المنظورين، الأول الاستعاري الذاتي المتولد عن العجز والقصور العقلي التاريخي إزاء الظاهرة المجتمعية وصيغتها الأعلى الرافدينيه الازدواجية التحولية، والثاني بما هو شكل انعكاس الظاهرة التوهميه الغربية الحديثة، ومانتج عنها من تعبيرات ايديلوجيه اعترضت طريق وصادفت عملية التشكل التاريخي الثالثة الراهنه.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) استبعد في المؤتمر الرابع، عشرون عضوا من اعضاء اللجنة المركزية ال 44 وقد”افرزت النتائج التي اسفر عنها المؤتمر الوطني الرابع الذي يعتبر من اهم المؤتمرات التي عقدها الحزب الشيوعي العراقي جملة متغيرات تركزت بالدرجة الأساس في تغيير تركيبة القيادة حيث فقد اكثر من ثلثي أعضاء اللجنة المركزية السابقة مراكزهم الحزبيه لسبب او لاخر وتعزز دور الكادر الكردي في الحزب، وقد حاولت بعض العناصر المستبعدة اتباع أساليب اعلاميه تهدف التاثير على القاعدة الحزبيه فصدرت العديد من النشرات الحزبيه المعبرة عن راي المعارضة” صفحات من تاريخ العراق السياسي الحديث : الحركات الماركسية 1920 ـ 1990/ صلاح الخرسان، مؤسسة التعارف للمطبوعات/ ص 293.
ويمثل الحدث المذكور الجانب الانقلابي المباشر العملي للشيوعية الثانيه الكردية، استوجبته وقتها تازمات التيار المذكور القصوى، وماتسببت به سياستها من فشل ومطبات كبرى، أهمها عقد “الجبهة” عام 1973 وماترتب على نهج الالتحلق بالحكم والوقوف الى جانبه ضد الحركة الشعبيه واشكال تبلورها المستجدة منذ السبعينات.
(2) في التقرير الصادر عن المؤتمر الوطني الثالث للحزب الشيوعي العراقي المنعقد في 1976 ورد نصا التالي: “ان الشيوعيين العراقيين لاينظرون الى إمكانية تطوير علاقتهم مع حزب البعث العربي الاشتراكي باعتبارها محصورة بحدود العلاقة التحالفية الحاليه ومهمة انجاز ميثاق العمل الوطني، على عظم هذه المهمه، بل انهم بؤمنون بان هذه العلاقة يمكن ان تتطور وتتعمق وتصل بالبعثيين والشيوعيين، بحزبينا المتحالفين في الجبهة الوطنيه والقومية التقدمية سوية، الى بناء الاشتراكية”/ نفس المصدر ص 150 .
(3) كتبت جريدة ” طريق الشعب” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في عددها ليوم 27/2/1977 مقالا افتتاحيا تعقيبا على انتفاضة صفر النجفيه عام 1977 مجارية بيان اللجنه المركزية للحزب الصادر في 18/2/ 1977 تقول فيه نصا: ” وعلى هذا الأساس الذي رسمه بيان اللجنة المركزية، فاننا ننظر الى الإجراءات الرادعة التي اتخذت بحق العناصر البارزه التي ساهمت في اعمال التخريب والتآمر باعتبارها حقا من حقوق الثورة في الدفاع عن المنجزات التقدميه والمسيرة الثورية التي اختطتها قيادة السلطة الوطنيه، وايدتها واسهمت في تحقيقها جماهير الشعب وقواه الوطنيه” المصدر المذكور/ ص 160، ولا داعي للتعليق على ماهو وارد من حيث دلالته على الانحطاط المبدئي والقيمي الأخلاقي، خصوصا حين تصير الدكتاتورية لاحقا جريمه قصوى.