عندما تجتمع ألفاظ متناقضة المعني في قصيدة فهذه اشارة إلى حالة الاضطراب/الصراع الذي يعانياه/يمر به الشاعر، وعندما تكون الألفاظ متباعدة المعنى والدلالة، فسكون هناك حالة من (الجنون) يمر بها الشاعر، فالواقع المجنون/غير المنطقي، يحتاج إلى عين الرد/الشكل، ليتناسب معه، فيكون موازيا له، وكما يقولون: “يجب الرد على الفلسفة بفلسفة، وعلى المنطق بالمنطق، وعلى الجنون بالجنون”، لكن في الأدب، لا يوجب أدب مجنون، بل أدب العبث، أدب اللامعقول، أدب الفانتازيا، هذا ما نجده في قصيدة ” حائكة من طراز خاص للشاعر “علاء حامد”: القصيدة تتكون من اربعة مقاطع، جاء في فاتحتها
“……….
الحائكة :
أرعبتني العصافيرُ
عندما بحثتُ
عن أسباب حياكة ضلوعي…”
لفظ :”الحائكة” ليس له أي علاقة بما تلاه، “أرعبتني العصافيرُ” كما أن هناك عدم (تناسق عقلي/منطقي فيه) لأن العصافير لا تكون مرعبة، وعندما قدم الشاعر فعل “أرعبتني” لم يأتي من عقله الواعي، بل من خلال العقل الباطن، فحالة (الرعب) التي يعيشها، حولت/بدلت الأشياء/الكائنات الجميلة (العصافير) إلى متوحشة ومرعبة، وهذا بحد ذاته يعطي دلالة إلى طبيعة تركيب القصيدة والمعنى الذي تحمله.
من ناحية منطقية كان من المفترض أن يقدم المقطع بهذا الشكل:
“”……….
الحائكة :
عندما بحثتُ
عن أسباب حياكة ضلوعي…
أرعبتني العصافيرُ ”
فهنا يمكننا أن نجد شيء من المنطق يربط المقطع، فهو أقرب إلى التسلسل والسلاسة، فالمعنى يأتي بهذا الشكل: هناك من يبحث عن أساب الحائكة، فسمع زقزقة العصافير فارتعب، ـ رغم أن الزقزقة لا يمكن أن تُحدث الرعب ـ ومع هذا سنقبل بهذا المنطق.
لكن حتى عندما نتوقف عن الألفاظ المجردة لا نجد (تناسق/تكامل) بين الحائكة والعصافير، حيث أن معنى الألفاظ “الحائكة، بحثت، حائكة، ضلوعي” متكاملة ومتناسقة، والقارئ يمكنه أن يصل إلى المعنى من خلال توقفه عند الألفاظ المجردة، لكن العصافير كانت (دخيلة) على المقطع، وهذا ما يثير التساؤل ويجعل المتلقي يتوقف متفكرا في الأسباب الحقيقية وراء استخدام الشاعر ل(أرعبتني)، والتي ستوصله إلى ما هو ابعد من الفانتازيا.
“…
لا أرى بوجهي
سوى وجهها
وحائكة
تلتقط نظراتي
بمعولها الرهيب ..”
المقطع الثاني جاء أكثر توغلا وابتعادا عن العقل والمنطق، فالشاعر يفتتحه بحرف النفي “لا” وهذا أيضا يخدم فكرة الاحتقان التي يمر بها، كما أن المعنى لا يتوافق والحقيقة/الواقع، فالإنسان لا يرى بوجهه بل بعينيه، وهناك لفظ “الرهيب” قريب المعنى من “أرعبتني” ومتعلق به، فالمقطع يحمل فكرة الرعب كحال سابقه، وهو أيضا يحمل الفاظا متناسقة ومتكاملة: “أرى، وجهها، نظراتي” وأخرى بعيدا جدا مثل “وحائكة، بمعولها، الرهيب” ونجد أن هناك تساوي في عددها، (ثلاث كلمات) متناسقة وأخرى متباعدة، وهذا بحد ذاته يخدم فكرة الصراع التي يمر بها الشاعر، فهو يمر بحالة غير منطقة لكنه ما زال محتفظا بالعقل ومسيطرا على (السرد) المنطقي.
“…
كيف تخيط وجهي الممزّقَ
بخيطانٍ
مقطّعة ؟!”
المقطع الثالث، رغم أن الألفاظ فيه متناسقة: ” تخيط، الممزّقَ، بخيطانٍ، مقطّعة” إذا ما استثنينا لفظ “وجهي” إلا أن المعنى غير منطقي، لأنها الخياطة متعلقة بوجه الشاعر “وجهي”، وهذا ما يجعل المشهد غارق في فانتازيا عميقة، فحتى فكرة الخياطة قدمت مشكل غير منطقي، خياطة بخيطان مقطعة، وهذا يؤكد فكرة العبث ويرسخها أكثر.
“…
كلّما بعثتْ لي زهرة
أسكرُ ..
في آخر الليل
تلملمني بفمها المضموم
كي
لا
أتبعثرُ ..”
المقطع الرابع الأقرب للفرح، وهذا يعود لحضور المرأة، أحد أهم عناصر الفرح/التخفيف “الطبيعة، الكتابة، التمرد” فقد اقرنها الشاعر بالطبيعة من خلال :”زهرة” من هنا نجد لفظ يخدم فكرة الحب “تلملمني” فتماثل وتلاصق حرفي الملم والالم يعطي اشارة إلى حالة الهيام التي يمر بها الشاعر.
لكن إذا ما توقفنا عند المقطع الرابع، يبدو للوهلة الأولى (خارج سياق القصيدة) فبدا وكأنه (دخيل) عليها، وغير متعلق بها، وهذا الأمر يمكن أن يؤخذ به إذا ما توقفنا عند فكرة الفانتازيا/العبث التي يمر به الشاعر، لكن إذا ما ربطنا المقاطع الأربعة معا، سنجد أن الشاعر من خلال المقاطع الثلاثة (فرغ) ما فيه من غضب، وأخذ يشعر بالراحة بعد أن حدثنا عن همومه ما يشغله، فكانت الخاتمة (بيضاء) وناعمة، من هنا كان المقطع الرابط أكثر المقاطع تناسقا وتكاملا ومنطقيا: “بعثت/زهرة، أسكر/آخر الليل، تلملمني/اتبعثر”.
علاء حامد وشكل تقديم الومضة
“وضعوا دبّوسا في حنجرتي
لكنّ البلبلَ الواعي
ظلّ ينقرُ
وينقر
إلى أن أزالَ الحنجرة كلّها
وبنى عشّه ونقل أولاده
لبيتهِ الجديد..”
إذا ما توقفنا عند الألفاظ المستخدمة نجد هناك تعارض في معنى وتركيب الألفاظ، فهناك “دبوسا” كان من المفترض أن يكون متعلق بالملابس/بالورق، وليس بالحنجرة، التي يكررها الشاعر “حنجرتي، الحنجرة” فكانت شيء خارج سياق المعنى، ومتمردة على سياق الألفاظ الأخرى: ” البلبلَ، ينقرُ (مكررة)، ويني، عشه، ونقل، أولاده، لبيته”، فألفاظ الومضة بغالبيتها تتحدث عن “البلبل وعشه، وهذا ما (يحير) القارئ ويثيره، متسائلا، كيف يربط “حنجرتي” ب”دبوسا”، وكيف يلصقهما ب”البلبل”؟
لن اتحدث عن المعنى الذي تحمله الومضة وسأكتفي بالحديث عن الألفاظ المكررة: “حنجرتي/حنجرة، ينقر/وينقر” وفهما يكشفان المعنى الذي أراد تقديمه، الحنجرة المغلقة بالدبوس، تم أزالتها وازالت الدبوس معها.
ومن يشير إلى انتصار الخير “البلبل” أن فعل القسوة “وضعوا” جاء بصيغة الماضي، بينما فعل الازالة جاء بصيغة المضارع “ينقر/ وينقر” فكانت النتيجة/الخاتمة بيضاء “بنى، ونقل، بيته الجديد” فالسواد الذي افتتحت به الومضة “دبوسا في حنجرتي” تم محوه في خاتمتها من خلال البياض والفرح.
وقبل أن نغادر ننوه إلى أن الشاعر متعلق بالطيور من هنا نجده يتحدث عن العصافير والبلبل، كما تحدث في قصائد أخرى عن الصقر والنسر:
” رأيتُ صقراً/ يبني عشّه، سقط نسرٌ عن السطح” وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن، وإلى تعلق الشاعر بالطبيعة وبالأفق، فرغم أنه يتحدث أحيانا عن الطيور بحالة انكسار/قسوة، إلا أن هذا يحمل بين ثناياه حالة الفرح التي ينشدها، فذكر أحد عناصر الفرح “الطبيعة/الطيور” كافا ليأخذنا إلى البياض الذي يحمله الشاعر في داخله.
القصيدة والومضة منشورة على صفحة الشاعر.