عندما يعزف العرّاف على مقام الوقت
رؤية في ديوان (من مقام الوقت )للشاعر محمد الفهد الصادر عن الهيئة السورية للكتاب …
في العنونة (من مقام الوقت ) جاء الشاعر بالخبر بعد أن أودع المبتدأ طي الكتمان والتقدير (الترنيمات ) وبهذا يكون الشاعر قد أضاف إلى عالم الموسيقا مقاما جديدا ,حين جعل للوقت مقاما كمقام (الصبا والنهوند)وإذا كان الحزن أهم تجليات مقام الصبا فإن القلق والخوف والترقب والتوجس هي أوتار ديوان مقام الوقت .
يبدأ الديوان بجزء (كمان الخريف )والكمان آلة منكوبة بوجعها كما هو معروف.والخريف دال يشي بالنهايات وتيبس شرايين الحياة .حيث اصفرار أوراق العمر وبروز الزمن كسيف ديموقليس المسلط على روح الشاعر الذي لا يني يميط بيد الحرف الستائر عن رهبة الزمن وعقرب الوقت هو المؤشر ومن خلاله يمررالشاعر ما يثقل كاهله ,حيث ينظر إلى الساعة كل صباح كي يحدد وقت حزنه (لكنّ زمانا جاء صارت كل لحظاته حزنا ودموعا ..)وقلما تمر عبارة إلّا وكان الزمن هيكلها فالزمن هو( البارو متر) الذي على سلم درجاته يقيم الشاعر أود توجسه ,فهو جرس التنبيه(ونحاس يصرخ في جرس الوقت ..) والوقت لدى شاعرنا هو الامتداد الأبدي للزمن (وأنا لا أعرف غير صليب يحملني طول الوقت ) كما أنّه الوجه الآخر المترجم للمشاعر ,لذا فالوقت يتلون بتغير المشاعر (ويفتّح لون الوقت صباح مساء )ويبدو أفق الشعر محمولا بالأوهام وجواده تائها في وهاد الزمن ( وتنقّي ما أبقى الوقت بروحي من أوهام )وحروف الديوان تشي بأنّ الشاعر قدّ من وجع وترقب لذا تجده أمام هيولية المعالم يحن لوقت يقطر فرحا (ما يكسرني في هذي اللحظة ذاك الدمع ..امنحني وقتا لا يأخذ وجعا من روحي ..)قصائد الديوان مسقوفة بالزمن وبالكثير من الحزن والذكريات .ومع الحزن يبدو الزمن أضيق من مساحة قبلة (لكنّ الوقت يحاصرني )(ويكون بقرب الإنسان يواسي جرح الوقت ..ما صار بقلب اللحظة من درب وجروح )
والزمان لدى الشاعر ليس فقط مشجبا يعلق عيه أحزانه بل له ذاك العمق الفلسفي إنه البعد الرابع للمكان لذا فهو يتوكأ عليه ( وحين ينام عجوزا ينسى دائرة يتوكأ عليها فوق زمان)وبعمق رؤاه يدرك أنّ نمو الحياة لا يمكن أن يتمرد على سلطان الوقت (كي تهمس لصغار أنّ الوقت هنا ينمو أنفاسا لتعود ربيعا آخر )..إلّا أنّ الزمن الأكثرمرارة هو ذاك الذي تتطايرفيه وريقات العمر الصفراء لذا كان الزمن هو الوجه الآخر للوجع فتحت لحاء الوقت تتفجر ألغام التفجع (صارت الأوقات نارا تلسع الآفاق فينا )(وفجاءة صرنا دموع الوقت نرقب موتنا )فيغدو الوقت لديه مشنقة العمر وبين شوطي الحياة (ولادة ورحيل )يعزف شاعرنا على مقام الوقت ألحان الألم (هذا الوقت بكاء مثل زمان يمضي أو ياتي )(يمضي الوقت بلون سواد ) وهاجس الرحيل يسكن روح الشاعر وترتعد له فرائصه فحين تصوّح أورق الجسد وتشتعل اصفرارا فهذا يعني أنّ المشوار اقترب من نهايته (حين تودع أوراق صفر مرايا الغصن مساء )وكأن أعماق روحه تصرخ مع فيروز (تعا …تعا ..نتخبا من درب الأعمار )يقول (حاولت طويلا أن أخفي صوت خريف …أن أخفي دفع غروب …) وعندما يهرب من هاجس الشيخوخة إلى الطبيعة علّه يهدهد أوجاعه يفاجأ أن الشيخوخة تكمن له في ثنايا الحياة وفي ثياب الطبيعة (ذات صباح راقبت الغيم الهارب من درب الريح إلى أيلول )
فيستكين إلى أنّ العمر إنّما هو شمعة تذوب شيئا فشيئا (لكنّ الأيام تتالت كي أبصر أنّي شمع يتلظّى قرب القنديل )وليس له إلّا أن يتأقلم مع وجعه (فأماشي وجع اللحظة ) وكم يتمنى لو أنّه يعض بالنواجز على حبل الوقت كي لا تنفلت منه لحظة واحدة بل كم يتوق لأن يعيد ترتيب دبلوماسية الفصول .وبروتوكول حركتها فيعيد دولاب العمر …(ولذا مازلت أفيق سرابا بين الساعة والأخرى علّي أمسك بالوقت ..أعيد تراتيل الأم مساء فهو متألم حتى النخاع من تسرب اللحظات من بين أصابعه حتى لنكاد نسمع صهيل النبضات في شرايينه (كم أشتهي لو كنت من حين لأرجع للنوافذ زهرة الأيام ..أغصان الشباب )كم من تألم لقطار العمر المنطلق نحو الخلف دون فرصة للالتفات نحو الأمام .
الديوان بالكامل يقوم على حاملي الوقت والأسى ويحيل الشاعر ذاته ثالثة الأثافي المتخمة بالانكسارات الرازحة تحت ظلال السؤال ..(ما معنى أن تختار الروح عوالم بعد وتفيء بظل خريف )هو السؤال الذي يؤرق ذات الشاعر الذي وقع بين فكي الحيرة فغدا مجرة من كل خلية في الخيبات …لماذا تجوب الروح عوالم وعوالم على شراع اليفاعة والنضارة ثم تؤوب إلى خريف العمر ..؟؟؟
لذا ظلت تدمي فؤاده أشواك الترقب ..ترقب الوصول إلى مرفأ الأفول ..وبات الزمن لديه على شاكلة قيد منسوب إلى عالم الخريف ..إلى ماتحت خط الشهقة الأخيرة (وريقات صفراء ترمي في رحلتها صوت حفيف )ولعل اكثر مايؤرق روحه معرفته بقانون الحياة القائم على دورة الأشياء ..هو يعلم أنّ الكائنات راحلة في مداراتها ..وبعد شمس ونصف قمر ستكمل دورتها حتما لذا فإنّ كلمة دورة تؤرقه وتقضّ مضجعه ولا يني يرددها في مساحات وعيه ولا وعيه (يشعل دورة الأزمان في الأفق الجميل )
والوقت لديه ليس مجرد لحظات من الزمن حيادية صارمة
بل هو حالة من حياة , لون من مشاعر ..فالمساء هو آخر سطر في يومه نهاية صفحة من كتاب حياته (أتشهى أن أجلس قرب البحر مساء والشمس تودع آخر صوت في درب الفتنة )بينما يكون الصبح لونا لأي حركة فعل تداعب فكر الشاعر فيبدو كشراع تائه يزاحم النوارس على شطآنها (لأرى وجهي فوق الماء يطوّف مثل النورس صبحا ..)
والصبح كذلك هو نبع الأمنيات والأمل (كم يحزنني حين أسائل صبحا أن يمنحني دفئا )
والزمن أخيرا هو ذاك الغامض الذي لم يقو على فك طلاسم لحظاته (لكني لم أفلح حتى الساعة في أن أتهجى درس الوقت )..وحين تطير اللحظة بجناحي فراشة وتعبر فإنها ترش كحل أجنحتها على الوجدان وتلونها العاطفة بأطياف قوس قزح .(تتسابق الذكرى إلى روحي وأبقى صامتا كالدمعة الملأى بآلاف السؤال )وتبقى عينه مشدودة إلى الماضي وكأنه في قلب بؤرة تلعب به لعبة شد الحبل بين الماضي والقادم هو مسافر( زاده الخيال بين ماض من الزمان وآت ) (كي يهمس الوقت المسافر في الترقب أننا كنّا كتابا حاضرا ) والماضي لديه معبأ بقارورةالذاكرة التي
لايفتأ يعزف على جدرانها .(فيمسي الوقت ذاكرة تضيء بصوتها أفق المعاني )وتبدو ذات الشاعر وقد زنرها الوقت حتى لنكاد نسمع ضجيج الثواني داخل شرايينه وليس له إلّا أن يرشق زوادة العمر على أوتار نبضه المنساب شعرا رخيما وفي كل مرّة يقذف في وجهنا حقيقتنا المرّة التي وضعناها في حقيبة التناسي (قصب يئن ورحلة تجتاحنا نحو المنافي ) الوقت لديه هو طين الحياة على خارطة تضاريسه تدب الأوجاع ..هذه الأوجاع التي تشكل رقما صعبا لا يقبل القسمة فيبدو الديوان مغسولا من الفرح .إلّا ما رحم ربيّ .حتى لأكاد أجزم أنّ الزمن هو التفعيلة التي بها يرتحل على شراعه عبر مساحات الشعروالألم .واللحظة لديه ليست مجرد ذرة في نهر الزمن بل هي كينونة هائلة وهائجة هكذا تتبدى لشاعر نتف ريش حزنه الكثّ عندما تطامت أحزان البلاد (كي يكسرني وقتي كزجاج يتناثر )وهكذا يبدو عرافنا وكأنّه جلس على مصطبة الذاكرة يهز إلينا بجذع الزمن فتتساقط الذكريات ومن بين فجواتها تتسلل دقائق الوقت معجونة بالحنين والمرايا والحكايا يعرض علينا بوحه بحروف مليئة بالطراوة واللوحات ونداوة الجملة الشعرية التي تنبع من عالم داخلي لشاعر يمتلك الخصوبة والغنى الفني لذا فهو يطل على قارئه من المدى الواسع يطرح عليه لآلئ شعره المخبوء في أسرار خوابيه ..دون أن يطعم متلقيه الفكرة كاملة بل يستدرجه إلى ظلال من الشفافية المحببة والغموض المستفز فتبدو حروفه شهيقا مثقلا برذاذ النشوة
وبمعان عالية الدسم بعيدا عن الاستعراض المجاني بعد أن وظف خبرته الثقافية وحدسه الشعري المرتفع الوتيرة
بلغة مشبعة بماء العاطفة ..وهو إذ يرش فتنة نوره على الزوايا النائية في أعماقنا يدل على اختمار (طويل النفس ) وتراكمية محرضة على عيش الطقس بعيدا عن التكلف والزيف وذلك من وراء غابة معششة بألف عنكبوت من الحزن والتوجس فتتعمشق كلماته حوف القلب كشجرة لبلاب شقية ….لحروفك التي وجدت لها متسعا في واحة الشعر ألف تحية ….ولروحك الطاهرة الرحمة والخلود .