رائد محمد الحواري:
رواية عش الدّبابير والرّهان على النّاشئة
صدرت رواية “عشّ الدّبابير” للأديب جميل السلحوت عام 2007 من منشورات دار الهدى للطباعة والنشر كريم2001.م.ض.
رواية تجمع الحاضر بالماضي، تبيّن طريقة تفكير الأجداد وطريقة تفكير الأحفاد، وبما أنها موجهة للفتيات والفتيان، فقد تم استخدام لغة سلسة وسهلة تمتّع القارئ، كما تمّ سرد الأحداث بطريقة مشوّقة، أحيانا يتمّ تركيزها على رباب، ومرّة على فراس، ومرّة على الأب “مازن” وأخرى على الجدّة عائشة، ومرّة يتمّ الحديث عن الماضي الذي يتناول الحياة الرّيفّة البسيطة، وطريقة تعامل المجتمع الرّيفيّ مع المكان، والطّريقة التي يتمّ تداول القصص والأحداث فيها، مرّة يسلّط الضّوء على الاحتلال وقمعه للفلسطينيين، ممّا يجعلنا أمام عمل روائيّ ممتع ومتميّز لعدّة أسباب منها: أنّه موجه للفتيان، ولأنّه جمع التّراث/الماضي والحاضر معا، ولأنّه بيّن أنّ الأطفال يمتلكون قدرات أكبر ممّا يعتقد الآباء، ولأنّهم يمثّلون المستقبل، وبما أنّ الأحداث تجري في القدس وضواحيها، فإنّ هذا يضيف ميّزة أخرى للرّواية التي تؤكّد على فلسطينية المكان والإنسان، كلّ هذا نجده في رواية “عشّ الدبابير”.
رغم أنّ العنوان “عشّ الدّبابير” يحمل شيئا من القسوة، إلا أنّ أحداث الرّواية فيها العديد من المواقف الجميلة والنّاعمة، فقد قسّم الرّواية إلى مجموعة فصول تبدأ ب”رحلة مدرسيّة”، التي تتحدّث عن رحلة رباب لحديقة الحيوانات، والتي تخاطب فيها الحيوانات وتتحدّث مع بعضها مثل الببّغاء، الثّعلب، الأسد، الحمار الوحشيّ، القرد، وبما أن الحديث كان متعلّقا بتفتيش “رباب” فإنّ هذا يأخذ إلى (رمزيّة) الحدث، ورفض الأطفال لواقع التفتيش الذي يمارسه الاحتلال، ونجد في “رحلة مدرسيّة” قصّة حرق الغابة من قبل النّبيّ سليمان، وكيف طلب من الحيوانات كافّة أن تغادر الغابة لأنّه سيحرقها، لكنّه يتفاجأ بوجود بقايا جسد ثعبان محترق، فيدعو الله أن يعيده للحياة، ليسأله لماذا لم يغادر الغابة كبقيّة الحيوانات؟ فاستجاب الله دعاءه، فيجيب الثّعبان على سؤاله: “أنّ حرق الأبدان أهون من ترك الأوطان” ص9، وهذه إشارة رمزيّة ترمي إلى علاقة الفلسطينيّ بالوطن، لهذا نقول أنّ السارد نجح في ربط طلب التّفتيش من قبل الحيوانات لرباب بواقع الاحتلال.
الفصل الثّاني “المعلمة تخطئ ورباب ترفض الإعتذار”، فبعد أن قامت المعلّمة بضرب “مروان” زميل “رباب” في المدرسة، معتقدة أنّه هو من قام بالضّحك، ولم تسمع لرباب فذهبت إلى مديرة المدرسة، وأخبرتها بأنّ المعلمة قد قامت بفعل غير سوي “ضرب”، ورغم اعتذار المعلمة والمديرة، إلا أنّ رباب تصرّ على الانتقال إلى الشّعبة الثّانية، وهذا الإصرار من “رباب” يشير إلى أنّ الجيل الجديد أكثر صلابة منّا نحن “الشّيوخ”، ولا يتنازل عن حقوقه.
وفي “وليمة” يتحدّث السّارد عن منطق الطفل “يزيد”، والطريقة التي يفكر بها، فالأسئلة التي يطرحها مشروعة، وتبين أنّ الحوار مع الأطفال ممتع ومهم لهم.
“في زيارة المسجد الأقصى” يحدثنا عن المعيقات التي يضعها الاحتلال أمام المصلّين الفلسطينيّين، ويبيّن السّارد النّهج الذي استخدمه الاحتلال في التّفريق بين المواطنين:
” ـ لماذا لا يذهب جدي وجدتي لأمّي للصّلاة في المسجد الأقصى يا أبي؟
ـ لأنّهم لا يحملون هوية القدس.
ـ ولماذا لا يحملون هوية القدس؟
ـ لأنّهم يسكنون في السّواحرة الشّرقيّة.
ـ لكن السّواحرة الشّرقيّة ليست بعيدة عن القدس، بإمكانهم أن يصلوا إلى المسجد الأقصى مشيا على الأقدام دون عناء.
ـ لكن الجنود لا يسمحون لهم بالدّخول” ص23و24، فهذا الحوار بين “فراس ومازن” يبين مشكلة الفلسطيني مع الاحتلال، وقد جاء بطريقة بسيطة وسهلة، لكنّها توصل الفكرة للمتلقّي، وتكشف حقيقة الاحتلال في منع النّاس حتّى من أبسط حقوقهم، الصّلاة.
وفي “بين المقاثي” يأتي السّارد بذكر عنوان الرّواية “عش الدبابير” وكيف أن “فراس وإسماعيل” يقومان بنبش العشّ ويستلقيان أرضا ليقوما بالانقضاض عليها ومهاجمتها من أسفل، وبقية زملائهم من أعلى، لكنّهما يتعرّضان للسع الدّبابير، ممّا يستدعي ذهابهما إلى “مستشفى المقاصد في قمّة جبل الزيتون” ص33.
وفي “الحسد هو السّبب” يحدثنا عن الجدّة “عائشة”، وكيف أنّها نسبت ما جرى “لفراس” إلى الحسد، حتّى أنّ السّارد يعيدنا إلى طريقة العلاج من الحسد من خلال: ملأت يدها اليمنى بالملح، وأخذت تحرّكها بشكل دائريّ على صورة فراس التي وضعتها أمامها، وشرعت تردّد بعد أن بسملت… محمد اترقى واسترقى
من كل عين برقا
ومن كلّ سن فرقا
اترقىّ للصّبيان من عثرات الزّمان
واترقّى في ظلام الليل” ص35و36، وكيف أنّها اعتقدت أن (تريقاها) هو سبب شفاء “فراس” وليس الأطبّاء.
وفي “الأفاعي” يتحدّث عن “الجدّة” والأفعى التي تشارك النّاس المشرب والمنام وحتّى أنّها تلعب مع الاطفال دون أن تؤذيهم: ” …كانت الأفعى تلاعب أمينة، تقترب منها، ترفع رأسها إلى حضنها، …حقا أن الأفاعي لا تؤذي جيرانها” ص45، وهذا يعكس العقليّة السّاذجة والتي يتعامل بها البعض مع الزّواحف الخطرة.
في “مفاخرة” يحدّثنا عن عيادة “فراس” في مرضه، وما جلبه الزّائرون إليه من هدايا، ويركّز السّارد على ذكر هديّة استثنائيّة: “واحد فقط من الزّائرين شذّ عن القاعدة، إنّها معلّمته، لقد أحضرت له باقة زهور جميلة ورواية “أنا وجمانة” للأديب محمود شقير” ص49، وهذا التّميّز أراد به السّارد أن يؤكّد على أهمّيّة الجمال في الورد والرّمزية التي يحملها، وأيضا على مكانة الكتاب ودوره في حياتنا، فراس فرح بهديّة المعلمة، لأنّ فيها غذاء للعقل، بينما بقيّة الهدايا من فاكهة وسكاكر لم تثر انتباهه.
وفي “الكهوف المسكونة” يحدّثنا عن أيّام الحصاد، وكيف أنّ النّساء أكثر إنتاجيّة من الرّجال: “بعض الرّجال يتهرّب من مواصلة العمل بالابتعاد قليلا، فينبطح على الأرض متّكئا على أحد جانبيه…أمّا النّساء فلا خيار أمامهنّ سوى الاستمرار في العمل” ص53و54، وأيضا يخبرنا أنّ الأطفال تجاوزوا الشّيوخ في سلوكهم، وإقدامهم على الذّهاب إلى اماكن محظورة وخطرة، “فراس ورفاقه” يذهبون إلى كهف واد الدّكاكين الذي يعتقد أنّه مسكون بالجنّ: “نحن الذين أضأنا الكهف، ونحن الذين أشعلنا النّيران وشوينا العصافير” ص57، وهذا إشارة أخرى من السّارد إلى أنّ المستقبل للأجيال الصّاعدة، وليس للشّيوخ.
وفي “تجربة فاشلة” يحدّثنا عن رباب التي لم تجب بصورة صحيحة على اسئلة الحساب؛ لتتساوي مع زملائها الذي يفشلون في الامتحان، حتى أنّها تخاطب المعلّمة بمنطق العقل: “كان الأولى بلك يا معلمتي أن تعيدي الامتحان للطّلبة غير المجتهدين حتّى يحسّنوا علاماتهم، أمّا أنا فقد حسبت تجربتي بطريقة صحيحة لن أخسر فيها شيئا، وهي أنّه لو كانت علامتي في هذا الامتحان صفرا، فسأبقى الأولى على الصّفّ في جميع الموادّ بما فيها الرّياضيّات” ص63، فهذا التّماهي مع المجموع والإنتماء له يعدُ فضيلة يجب التّقدّم بها قدر المستطاع، فنحن في زمن نفتقد فيه مثل هذا التّفاني في العطاء والانحياز للمجموع.
وفي “التّجريب” يقدم فراس الطّفل على تصحيح الغسّالة، مستخدما ملاحظاته على مكان العطل: “..إنّها “الجلدة” التي هنا، وّشار إلى مكان في الغسّالة…قامت بتشغيل الغسالة ووجدتها صالحة للعمل، فقد توقّف اندلاق الماء منها” ص66و67، وهذا يخدم فكرة إعطاء الفتيان فرصة المبادرة؛ لأنّهم يمتلكون قدرات نحن لا نعرف حجمها ومقدراها.
في “دار الظالمين خراب” يحدّثنا عن استيلاء جنود الاحتلال على سيّارة “مازن” بحجّة عدم دفعه ضريبة التّلفزيون، والتي تقدّر بستة آلاف شاقل، ثم ينقلنا إلى الظلم الذي تعرّض له النّاس أيّام الظاهر عمر حيث توقّف بناء قلعته عند “قمط الشّبابيك”.
وفي “الحواجز” يتناول إجراءات الاحتلال التي تحول دون وصول الفلسطينيّ للمكان الذي يقصده، ويكشف الممارسات القمعيّة لجنود الاحتلال: “لم يستطع مازن أن ينظر باتّجاه ابنه، كان يتمزق ألما وحسرة، لبنه يضرب ويهان عل مرآة ومسمع منه، ولا يقوى على عمل أيّ شيء” ص 77، وهذا أثّر على “فراس” بحيث “فقد شهيّته للطّعام، كما أنّه لم يستطع أن يطالع دروسه، ..فذهب إلى فراشه يتقلب فيه قلقا متعبا حائرا لعدّة ساعات” ص80.
“في “القضاء والقدر” يحدّثنا عن عملية الدّهس التي تعرّضت لها الجدّة، وكيف أنّ العادات والتّقاليد التي لا تحاسب الجاني تسهم في استهتار آخرين، وهذا الاستنتاج لم يأتِ من (الرّاشدين) بل من فراس: ” ألا ترون أنّكم تشجّعون الجريمة بتسامحكم هذا؟” ص89، وهذا تأكيد آخر من السّارد على أن عصر الشّيوخ بائد، وأنّ المستقبل للجيل النّاشئ.
13 اكتوبر 2020
رواية عش الدّبابير والرّهان على النّاشئة لجميل السلحوت
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا