لا يجلسُ عملاقٌ إلا أمام عملاقٍ مثله. الكبارُ لا يسمحون إلا بمجالسة الكبار. لهذا، فحين يرتدي عظيمٌ اسمه “طه حسين” بذلته الرسمية، ثم يتوكأ على عصاه ويقطع مسافةً طويلة من بيته “رامتان” بحي الهرم، حتى شارع “فؤاد”، ويدخلُ بنايةً يتحسَّسُ فيها طريقَه إلى أستوديو فوتوغرافي، ثم يجلسُ بين يديّ مُصوِّر، ويسمحُ له بأن يلمس بأصابعه وجهه، لكي يرفع ذقنَه للأعلى قليلا، ويدير عنقه لليسار قليلا، ثم يُطلَبُ إليه أن يثبتَ على تلك الوضعية ساكنًا دون حراك، حتى ينصتَ إلى صوت انغلاق بؤبؤ العدسة: “تشيك تشيك”، فهذا يعني الكثير. لن يقتصَّ عملاقٌ مثل “طه حسين” من وقته يجلسَ أمام شخص، جِلسةً لا يكون فيها المُعلِّمُ والأستاذ، إلا إذا كان من يجلسُ إليه عملاقًا مثله. وبالفعل، لم يجلس عملاقُ الأدب إلا أمام عملاق الفوتوغرافيا المصري الأرمني العالمي “ڤان ليو”، ليلتقط له لقطة عبقرية خُلِّدت في أشهر صورة لعميد الأدب العربي. حيث نِصفُ وجهه في النور والنصفُ الآخر في الظلال. لكن المصور العظيم الذي “رسم” تلك الصورة الخالدة، سيظلُّ حزينًا مدى عمره، لأن الوسيمَ الكفيفَ لن يرى أبدًا تلك الصورة الفاتنة، الممهورة في ركنها الأسفل بتلك الحروف الخالدة Van Leo.
وأنا طفلة، كنت أرى تلك الحروف محفورةً على صور أمي وأبي المعلّقة على جدران غرفة الصالون. توقيعُ فنّانٍ يجيد الرسم بالقلم وتطويع الخطوط بالفرشاة مثلما هو عبقري في ضبط زوايا العدسة والتحكم في درجات الضوء والظلال، لتخرج من بين يديه صورٌ نادرة لمشاهير مصر والعالم. كانت تلك الحروف الستّة معلّقة في إطارات خشبية أنيقة تنتثرُ على جدران بيتنا. أكتبُ لكم هذه الكلمات وأنا أنظرُ إلى صورة أمي بعدسة “ڤان ليو” في فستان زفافها الأبيض إلى جوار أبي في بذلته السوداء، يتماوجان تحت طبقات الظلال، وومضات الضوء تتلألأ كما يتماوجُ نثارُ الشمس على صفحة النهر وقت الأصيل.
كلُّ من عاش فترةَ الستينيات وما قبلها في مصر، من الطبقة البرجوازية، يعرف هذا الأستوديو الثريّ الشهير في وسط البلد. ولا شك يعرفون ذاك الفنان البوهيميّ الموهوب الذي أبدع باللونين الأسود والأبيض وما بينهما من ملايين الدرجات الرمادية ليرسم تابلوهاته بعدسته السحرية وعينيه الباحثتين عن الجمال. أقول “يرسم” ولا أقول “يُصوِّر” لأن الفوتوغرافيا التي تخرج من معمله بعدما تلتقطها عدستُه، من الظلم أن نسميها “فوتوغرافيا”، إذْ تبدو لوحاتٍ مرسومةً بقلم الفحم الأسود، الذي يُخبئ السحرَ بين خلايا كربونه.
ولد قبل مائة عام في تركيا في نوفمبر 1921. وفي ذروة مذابح الأرمن التي ارتكبها العثمانيون، فرّ مع أسرته إلى القاهرة وهو طفلٌ في الرابعة. وصارت مصرُ وطنَه الذي لا يعرف وطنًا سواه، حتى رحل عن دنيانا في مثل هذه الأيام من عام 2002. بومضات النور والظلال كان “ڤان ليو” يُطوّع “ريشة عدسته” لتفارق الواقع بحثًا عن اللامعقول. قيل إنه سوف يصعدُ إلى القمر، وسوف يتزوج من نجمة مشهورة، لم يحددوا اسمها أبدًا. لكنه عاش وحيدًا دون زواج. عاش وسط وجوه جميلات العالم اللواتي كنّ يتوافدن إلى معمله كي تُخلّد وجوههن المليحة في تصاويره. من تلك الجميلات اللواتي حظين بتوقيع “ڤان ليو” على صورهن: فاتن حمامة، زبيدة ثروت، داليدا، برلنتي عبد الحميد، مريم فخر الدين، الملكة ناريمان، ليلى مراد، ماجدة الخطيب، سامية جمال، درية شفيق، شيريهان في طفولتها، ميرفت أمين، نيللي مظلوم، وبالطبع أمي الجميلة “سهير”. وبالإضافة إلى العظيم طه حسين، كان من بين الوسيمين الذين حظوا بصورة لهم بتوقيع “ڤان ليو”: محمد عبد الوهاب، الملك فاروق، محمد نجيب، جمال عبد الناصر، يوسف السباعي، فريد الأطرش، عمر الشريف، أنور وجدي، عبد السلام النابلسي، شادي عبد السلام، رشدي أباظة، وبالطبع أبي الوسيم الذي أنظر الآن إلى صوره مع أمي يوم الزفاف وفي مناسبات تالية لزفافهما، مُزيَّلة بإشراقة توقيع ذلك الفنان الفريد. وبالطبع لم ينس الفنانُ أن يصور نفسه وقال في هذا: “كنت أقتني مجلات وصورًا لممثلي هوليود، لكي أدرس فيها تقنيات الإضاءة وزوايا التصوير، ثم أنظر في المرآة وأصور نفسى على سجيتي.”
لكن عدسة “ڤان ليو” العبقرية لم تقتصر على قنص ملاحة الجميلات، ووسامة الرجال، بل امتدت لتُخلّد ملاحة مصر الجميلة، فالتقط صورًا ساحرة لنهر النيل وأهرامات الجيزة وغيرها من معالم مصر الآسرة. كثيرٌ من تراث هذا الفنان المصري الأرمني العالمي، موجودٌ اليومَ في “مكتبة الجامعة الأمريكية”. ابحثوا عن أعماله وافخروا بأحد أبناء مصر بالتبني. “الدينُ لله، والوطنُ لعظماء الوطن.”
***