شكل يحيى حقي ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب العربي الحديث، بأسلوبه الذي يتسم بالتركيز والتصوير، من خلال وصفه للحياة الحسية والطقوس الشعبية، وفي محاضرة ألقاها في دمشق عام 1959 قال: «لن نصل إلى إنتاج أدب، نجد فيه أنفسنا أولا، أدب مقنع لنا، ثم يصلح ثانيا للترجمة والنقل، إلا إذا تخلصنا مما أحس به في أساليبنا من عيبين كبيرين: الميوعة والسطحية، لنعتنق بدلا منهما التحديد أو الحتمية والعمق، أما اشتراط صفة الصدق فهو أمر مسلم به».
ترك لنا يحيى حقي ميراثا من القصص والروايات والنقد والمتابعات في الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى والعمارة والتاريخ والحضارة، إضافة إلى ترجمتهن كتبا متنوعة.
يذكر الكاتب الصحفي عزمي عبدالوهاب في جريدة الأهرام، أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتابا لم ينشر من قبل الناقد الراحل رجاء النقاش بعنوان «يحيى حقي الفنان والانسان والمحنة»، وكان الناقد الراحل قد جمع فصول هذا الكتاب في ملف خاص، تمهيدا لنشرها في كتاب، لكن القدر لم يمهله لتقديم هذا الكتاب عن أديب كبير، تعرف عليه منذ أن كان طالبا في المدرسة الثانوية حين قرأ رواية «قنديل أم هاشم».
يقول النقاش عن يحيى حقي إنه متواضع كبير، لو أخذته بالمظهر أنه رجل بلا عبقرية لا نبوغ، لكن المظهر خادع، ولا يدل على أعماق الرجل، وهي أعماق تغلي كالبركان بالفكر والفن، وهو محب للإنسان المجهول، متعاطف معه، قادر على فهمه، وهو يبحث عن الأشياء الأساسية في الفن والحياة، ولا يهتم بالأشياء الثانوية، لذلك لم يدخل معارك أدبية، ولم يشتبك في مناقشات حادة، وهو لا يهتم بالسياسة، وإنما يهتم بالحضارة، كما إنه مجدد أصيل بمعنى أن التجديد عنده إضافة وليس هدما وتدميرا.
يواجه الباحث في أعماق يحيى حقي مشكلة كبرى، اعترف بها هو نفسه، فقد كان كثيرا ما يوقع مقالاته وكتاباته بأسماء مستعارة فمرة يوقع باسم «بيب» أو «قصير» أو «عبدالرحمن بن حسن» أو «عابر سبيل»، وعلى الباحث أن يلهث وراء هذه الأسماء في العديد من الدوريات.
لكن لماذا هذه الرموز؟ يجيب يحيى حقي قائلا: «فعلت هذا لأنني كنت أؤمن في تلك العهود بان الكاتب يكفيه أن يقحم رأيه على قرائه، وأن يقحم نفسه عليه فوق البيعة، أو لعلي توهمت أن وراء التستر حرية تتيح لي أن أخوض كما اشاء في سيرة أصدقائي، أو أنبش عش زنابير، دون أن يسيح دمها، سمها إن شئت تواضعا وحكمة أو قلة وثوق في النفس»، يضيف محمود في كتابه «يحيى حقي.. الأعمال المجهولة والمنسية» إلى هذه الأسباب، أسبابا أخرى، منها أنه كان يخشى على نفسه من الاهتمام بأنه «أصاب الأدب» وهي مهنة من لا مهنة له، وذلك على حساب مستقبله كمحام، أو لم يسبق لمحمد حسنين هيكل أن وقع روايته «زينب» باسم «فلاح مصري» وربما كان هذا أحد دوافعه في أن يسجل خواطره بعد أن صار للأديب مكانته في المجتمع، خصوصا أن تجارب جيله من رواد القصة القصيرة لا نعرف عنها الكثير.
أول هذه الأعمال المنسية رواية «العفريت»، وهي رواية مترجمة أنجزها يحيى حقي في سن السابعة عشرة قبل التحاقه بمدرسة الحقوق.
عنوان الرواية يعيد إلينا ذكريات طفولة يحيى حقي نفسه عن حكايات العفاريت والست عزيزة، وما كانت تثير في نفسه من تساؤلات فلسفية وعلمية بعد ذلك، وفي مقالته «هذا العالم الخفي المجهول» نراه يفصح عن هذه المخاوف والدهشة إزاء عالم الجن والعفاريت.
مع نهاية العشرينيات من القرن الفائت كان يحيى حقي يشتغل بالمحاماة في الإسكندرية، ونشر سلسلة مقالات «في المحكمة» وهي المقالات الوحيدة آنذاك التي وقعها باسمه الحقيقي هو يحيى حقي المحامي، وتمثل هذه المقالات خبرته الأولى كمحام شاب، المحكمة بالنسبة له تختصر العالم، بما فيه من ضروب المنازعات واصطدام الاهواء المختلفة.
كيف عرف يحيى حقي طريقه إلى الصحافة لنشر سلسلة مقالاته في المحكمة، يقول في كتابه: «خليها على الله» كان من بين الخطط الاستراتيجية التي وضعتها بحنكة غير المجرب أن أراسل الصحيفة الوحيدة التي تصدر في مدينة الإسكندرية وهي صحيفة وادي النيل.
استمر يحيى حقي (1905–1992) مخلصا للكتابة في كل شيء تقريبا، ذلك بحكم اتساع ثقافته وتنوعها وتعدد مصادرها، هكذا يبدأ سامي فريد – أحد تلاميذ يحيى حقي – كتابه الصادر بعنوان «على شواطئ يحيى حقي» يرصد من خلاله مواقف عديدة كشفت جوهر شخصية الكاتب الكبير، فقد ظل سامي فريد قريبا من حقي لسنوات طويلة منذ أن بدأ العمل معه سكرتيرا لتحرير مجلة «المجلة» إلى أن أغلقت عشر مجلات مصرية في أعقاب نكسة 67 وتم تقليص عدد صفحات ما لم تطله يد الإغلاق.
كتب حقي في مجلة «الفجر» ثم توالت كتاباته في صحف ومجلات مثل «المساء الهلال – التعاون»، ومنذ هذا التاريخ وهو لا يقف إلا في صف «الغلابة» يدافع عنهم وينتصر لهم لأنه قريب منهم، يحس بهم، وهذا – كما يقال – ما دفعه لرفض عرض يوسف السباعي عليه، أن يكتب مقالا أسبوعيا في صحيفة «الأهرام» مع تحديد المقابل المادي الذي يريده.
يريد أن حكايات يحيى حقي كثيرة نقرأ منها جانبا في هذا الكتاب، ورغم ذلك لم يستطع إنسان أن يصل إلى شواطئ تلك الفترة الفكرية والثقافية والأدبية والدبلوماسية الشمولية التي أسميها أنا قارة يحيى حقي، كثيرة هي الكتابات عن يحيى حقي، لكن كل مردودها أو محصولها، أو قدرتها على الإحاطة بكل ما غمض قليل، فيصبح يحيى حقي حتى الآن لم يكتشف بشكل كامل، ونصبح نحن في حاجة شديدة إلى جهد جديد وجاد وعلمي وبحثي، لنعيد اكتشافه مرة أخرى.
في هذا الكتاب ترى حقي الإنسان، العالم المتواضع، هامس الصوت، ويكتب فريد عن القامات الكبيرة من كتاب مصر ومفكريها وعلمائها، كل في ميدانه، حين كانوا يجلسون أمامه في مقر «المجلة» في مقاعد التلاميذ، أضف إلى هذا دفاعه الذي لم يتوقف عن أجيال الشباب من الأدباء والمثقفين والعلماء والشعراء، لانهم كما رآهم كانوا هم المستقبل.
يعرض فريد ليحيى حقي، الإنسان الذي عاش بجواره 29 عاما، منذ أن التقى به في 1963، حتى أغلقت «المجلة» خلال حرب الاستنزاف التزاما بضغط النفقات وتقليل عدد الصفحات، وانتقال رئاسة تحريرها إلى عبدالقادر القط، ولم تنقطع هذه العلاقة بينهما، واستمرت حتى اليوم الأخير، قبل دخول يحيى حقي المستشفى، ثم وفاته.
في المجال الأدبي، نشر يحيى حقي أربع مجموعات من القصص القصيرة، ومن أشهر أعماله رواية قنديل أم هشام، وهي رائعة من روائع حقي التي تجسد الصراع بين العلم والخرافة، أي بين العلم الحديث والمعتقدات الموروثة، حولت إلى فلم عرض عام 1968.