ومضات ناهض الخياط
في” أيها البرق …أنت أنا”
محمد علي محيي الدين
عن دار تموز في دمشق بالتعاون مع المركز الثقافي للطباعة والنشر، صدر للشاعر ناهض الخياط مجموعته الشعرية الخامسة” ايها البرق …أنت أنا” وسبق للشاعر ان اصدر مجموعاته “تقول الوردة أنظروا هذه انا” و “ولدي يا براءة الياسمين” والوردة فوق صدري” و”وملكة الليل” و”حينما يرتقي الضحى نوافذي” إضافة لمسرحيات ومجاميع شعرية للأطفال صدرت عن دور نشر عراقية وعربية.
في مجموعته الشعرية الجديدة إشارات غير مرئية لمجموعاته السابقة، وهي تراتبية غير محسوسة في ارتباطات عناوين مجاميع الشاعر فمجاميعه أخذت الورد عنوانا والأنا ميسما، وهي ظاهرة بشكل محسوس في عنوانين آخرين، أضافة لتركيزه على الورد والانا في مسارب قصائده،وهذا الترابط الخارجي انعكاس لترابط داخلي يظهر نافرا في مجاميعه الشعرية ويتجلى بشكل أوضح في مجموعته موضوع العرض، رغم أنها ومضات تعبر عن حالات آنية وجد فيها الشاعر انطلاقته في عالم غير محسوس، الا انها تنعكس بشكل جلي على الترابط الحسي في المفردات والمعاني.
من الملامح الطاغية على هذه المجموعة انغمار الشاعر في مناجاة غير ظاهرة لملامح حياتية أفرزتها أعوامه الثمانين، فهي تجليات شيخ أخذت منه السنون مأخذها، وتركت الأحداث أثرها في مستويات تفكيره ونظرته للحياة، فهو يتحرك وفق مداليل ثابتة، لم تغيرها الايام أو تبدلها الظروف،يعيش في عالم صنعه لنفسه لا يرتضي عنه بديلا، وما يجده في ملازمات حياته أنعكس في هذه الومضات بصورة ظاهرة قد تتكرر عشرات المرات، وفي كل مرة يظهر ملمحا جديدا له انعكاساته المساوقة لمرحلة آنية وجد فيها الشاعر ما يختلف عن سابقها، لذلك تترادف الصور للشيء الواحد في أشكال شتى لو جمعت لكانت لوحة سريالية جامحة بصور وأشكال تنمو وتتراكض عبر صوره المجترة من واقعه المعاش.
فالسيكارة بحجمها الصغير وضررها الكبير تأخذ أشكال مختلفة، وترمز لأشياء كثيرة في مخيال الشاعر:
“في الليل
أراهم يرنون
لضوء في نهاية النفق الطويل
وأنا لجمرة سيجارتي”
فهو يرى من خلال جمرتها خلاصة ما يراه الغارق في لجة، من أمل في خلاص،هذه الجمرة التي كثيرا ما يحجبها الرماد لا تغير في خياله شيئا من وهج يجد فيه ما يجعله واثقا من عبور لعالم آخر قد يجده من يشكوا مرارة الليل وقسوته في ومضة نور تتراءى في نهاية النفق، أنه شيء من الاجترار الذاتي والنزوع النفسي لمواجهة الأزمة الحادة التي تأخذ بخناقه في جمرة يحسبها الآخرون آيلة للتلاشي والضياع.
وسيكارة “الخياط ” العجيبة محاور ناجح، وجمرتها محركة لتفكيره، فهو يحاورها ويستمد منها ما يجعله غير عابئ بما كان وسيكون، وهذا الترابط الروحي جعله قادر على الوقوف دون الاضطرار للانحناء في مواجهة العاصفة:
“نحن هنا..
هذا ما تقول سيكارتي
وهي تحاور الظلام..
بجمرتها المتقدة”.
والصور شتى في سيكارة الخياط واستطاع توظيفها بشكل معبر عن ولع عجيب بهذا السم القاتل الذي يجد فيه الخياط ما لا يجده غيره في هذه اللفافة، يستنبط منها ما يعينه على قراءة الواقع وتوظيفه بشكل حداثوي:
“انتهى المبدعون بيننا
كالسيكاره من الشفاه الى المنفضة”
والخياط شاعر الورد بلا منازع، ولا تخلوا قصيدة من قصائده أو عنوانا من عناوينه من ذكر للورد والزهر والعطور، فهو عائم بها يرسمها بأشكال شتى متناغمة مع ما في داخله من مشاعر وأحاسيس تجعله غارقا في أصص الورد، يتنشق عبيرها، ويغرق تائها متأملا بما يحمل الورد من صور ورؤى لا يستطيع الإحساس بها، والشعور بوجودها الا من يعرف ما في الورد من تجليات يستطيع خيال الشاعر ان يخلق منها أشكال مزوقة قد تضاهيها ولكنها لا تملك ما في الورد من أسرار:
“ايتها الوردة
كلمي الجميلة عني
او: الجميلة قربت الوردة منها
ثم ابتسمت”
وملهمة الخياط التي الهمته الشعر تشبه الوردة في نقائها وعطرها وصمتها ورقتها ومن الورد استشف الخياط مكامن الجمال في المرأة التي يحب ولم يجد شبيها يمكن له مقاربتها غير الوردة بسجاياها التي نتلمسها في ومضاته:
“باقة الورد الورقية
تعبق بروحك
حين تحملينها بين يديك
او: جميلتي اعتذارك لي
هو نسمة
تمنحني عطر وردة
وتعود
او: بصمتك… أعرف لغة الورد”
والخياط عاشق الليل، وسمير الغناء، يجد فيه ما يخرجه من رتابة الحياة المملة، فينطلق في تلك الأجواء مستلهما ما يديم صلته بالحياة، فيتيه حالما في أجواء يضفي عليها من نفسه ما يجعلها في صورة تتمادى وتستطيل لتأخذ مداها في رؤيته للأشياء:
“الليل هناك
يذكر الناس بالأغاني
وهنا يمسح ذاكرتهم منها”.
ورغم جمال الأغاني وما تثير في النفس من أحاسيس تختلف من شخص عنه في آخر، وما تضفي من ظلال عامرة بالدفء، فهي تثير في نفسه أحزان شتى كانت دون شك غائمة في عقله الباطن أو في نوازع تفكيره:
” الأغاني الجميلة التي
اسمعها في الظلام
تثير أحزاننا”.
وتتعدد مسارب الجمال، وتختلف الرؤى والأفكار في ماهية الليل وما تومئ إليه ظلمته، والشاعر ينظرها بمنظور جمالي يحيل تلك العتمة الى لغة ناطقة ترتسم من خلالها صور متعددة يقرأها ويسبر أغوارها ليستجلي منها مواطن الحب والجمال:
” هناك في الليل الجميل
لكل نافذة لغتها”.
والشاعر في صيرورته وما يحتجن في داخله من صور متداخلة تتباين في أوجهها، وتختلف في مداليلها، يرى في أجنحة الظلام المنسدلة خيوطا من أمل باهت، يتضخم في ذاته ليأخذ شكلا جديدا يعبر عن رؤية شفافة تلتقط ما تناثر من ألوان:
ورأيت الليل
كيف يتعرى
حين ينزل في النهر
بين مصابيح ظلاله”.
والشاعر يمتلك أحاسيس مختلفة، ورؤى متباينة، وأفكار أخذت في قراره مكانها الواضح، لذلك تنعكس رؤيته ضمن أطره الفكرية لتأخذ أبعادها في نظرته للأشياء، فيحيل صورها الباهتة الى لوحات ناطقة لها القها وبريقها الذي ينعكس ضمن إطار الرؤيا وسياقها في قراءة المرئي والمتخيل:
الشاعر
يفوق الطائر كثيرا
بتحليقه
وبحذره من الشباك”.
والشاعر-أي شاعر- نرجسي بتفكيره وتصرفاته ونظرته للأشياء وحتى في قراءة الواقع، ولا يستطيع الخلاص من هذه النرجسية، فهي جزء من تكوينه الفكري، وصورة راسخة في عقله الباطن، لذلك تأخذ هذه النرجسية صور شتى، وتبرز ملامحها واضحة فيما يترشح من مفردات تبدوا نافرة بارزة بين طيات قصائده:
“أحساس الشاعر أبدا
في انتظار شيء مجهول”
أو :
“جلس الشاعر طويلا بين الورود
ثم قال:
لن أنهض
حتى أحملها في داخلي”
وهو لا يستطيع أن يكون غير ما هو عليه، ولا يستطيع الخروج من كينونته، أو يتخلى عن صيرورته، أو يبتعد عن طبيعته في رؤية الأشياء بمنظور جمالي يضفي عليها من جماله ما يجعله صورة بعيدة عن المتخيل، ولا يمكن له أن يتقمص ما ليس فيه:
“حاول الشاعر
أن يتقمص دور القاتل
فما أستطاع”.
ويرى في سمو الشاعر منطلق لأفاق أوسع، فهو في صعود مستمر، لا يرتضي واطئ الأمكنة أو ضآلة الوجود، فهو يرتقي ما يعلوا ليستمد منه مدادا لقصائده:
” يصعد الشاعر الى القمر
وينزل منه
بكلمتين”.
ولا يمكن لشاعر الرقة والجمال أن ينسلخ عن ذاته ليبدوا بصورة غير ما هو عليها ولا يمكن له أن يفعل ما هو بعيد عنه ليكون كالآخرين يحمل معولا بدلا من قلمه الذي يرسم له نهايات الكون:
“الشاعر الوديع
بدا لي غير صادق بحديثه
العنيف
كطفل يحمل سكينا”.
ناهض الخياط
الأديب اللامع المقتدر محمد علي محيي الدين ! أعرف عنك أنك كاتب شامل يلم أطراف الحقيقة بأحضانه بحمية وصدق ، والآن تفاجئني بما لا يقدر عليه إلاّ النقاد المقتدرون في حقول الفنون ، لقد نفذت إلى أعماقي بضوء فكرك وإحساسك المرهف الذي تحايث بقوة مع ما كتبت ! أستطيع القول بصراحة صائتة : أنك ناقد أدبي مبدع ، من حقنا عليك أن نقول لك برجائنا : أنزل إلى ساحة النقد الأدبي .. لأن الأدب والنقد بحاجة إليك … !