وكر السلمان رواية شلال عنوز..القانون في مواجهة الجريمة
قراءة ممتعة أتمناها لكم معها :
وكر السلمان رواية شلال عنوز..القانون في مواجهة الجريمة
كتابة / أحمد فاضل
مع اقتراب عام 2020 كانت المكتبة العراقية على موعد مع صدور رواية بوليسية عراقية بامتياز ، افتقـد القارئ موضوعها طيلة عقـود إن لم تخنا الذاكـرة ،
وحان الوقت للعـودة لعالم الجريمة والغموض والخيال ، وهذا يشكل في حد ذاته تمريناً حقيقياً لمعرفة الضرر الذي تلحقه الجريمة .
ورواية “ وكر السلمان “ التي كتبـها شلال عنوز ، هو في الأصل محامي سبق وأن درس الحيثيات التي تقـوم عليها الجريمة ودوافعها ، وعندما نحدد خياراتنا وهي جديرة بالملاحظة في الارتفاع الملحوظ في عالم الجريمة ، نتيجة الحروب التي شهدها العراق منذ عام 1980 ، وما بعـده من غزو تعرضت أراضيه من قبل أميركا و 20 دولة متحالفـة معها ، وما خلفـته من آثار نفسية واقتصادية واجتمـاعية على الأفـراد ، سوف نتوقف عند شخصيتها الرئيسة نعمان الذي كان أحـد ضحاياها ، هنا يجب الاعتراف بأن الأذى غالباً ما يتربص بالمجتمعات فيحرمها من أمنها ، ويجعل فيها أمراضاً كثيرة ليس آخرها العامل النفسي الذي تربص بهم ، وشغل العدد الكبير من رجال الشرطة والمحترفين بحل ألغاز مثل هذه الجرائم .
الرواية يمكن التعرف على شخوصها من خلال صوت مؤلفها الذي سيتردّد منـذ بدايتها حتى النهاية ، عاكفاً على ترتيب أمكنتها وزمانها وأحداثها المؤلمة التي وضعنا أمامها ، فكثير من الناس لديهم افتتان مظلم ومروع بالجريمة الحقيقية والأشخاص الذين يقفون وراء هذه الأعمال المروعة غالباً ما ينبع هذا الفضول من أسئلة يصعب الإجابة عليها : كيف يصبح الشخص مجرماً ؟ هل يولد المجرمون أم يُصنعّون ؟ وهل بإمكان أي شخص أن يصبح مجرما ؟ يستخدم المحللون الجنائيون علم النفس والطب الشرعي وعلم الأعصاب لمحاولة الإجابة على هذه الأسئلة ، فيستخدمون هذه المعرفة نفسها للقبض على المجرمين ، الأمل هو أنه من خلال الفهم ، يمكننا منع الجرائم وتحقيق العدالة الجنائية بشكل أكثر فعالية ، من خلال معـرفة المزيد عن حياة وجرائم المجرمين البارزين ، الذين قد نلاحظ بعض الأنماط والسمات المشتركة بينهم ، فمـن المـفيد أيضاً دراسة التصوير العصبي والعلوم السلوكية لمعـرفة المـزيد حول ما يحفز شخصاً ما على ارتكاب أكبر الجرائم .
فنعمان الذي عركته سني حرب ضروس استمرت ثمانية سنوات استمرأ القتـل نتيجة لرؤيته الدماء وهي تنزفها ضحاياها ، كما نزيفه الذي لن يتوقف إلا بشراهة رؤيته ضحاياه ، فكان أول مـن تمكنت سكينته الـتي حملها معه إلى ذلك الكهف أو الوكر السلماني ، كما أشار له المؤلف كونه يقع في مدينة السماوة مسقط رأس نعمان وحاضرته ، التي احتضنت ذلك السجن الرهيب ، صدر صديقه ناظم فشعر بالذنب بعد فوات الآوان :
“ كان يتمزق في أعماقه صارخاً : أيها الحقد الأسود البغيض ، لماذا غزوتني بكـل هذا الجبروت ؟ يا أيها الناس اقتلوني ، دكوا رأسي باحذيتـكم ، لا ترحموني أبداً ، فأنا لم أرحم من قتلتهم بيديَّ هاتين ، فهذه رائحة الدم تضج منهما ، أنا لا أستحق الحياة فأنا جندي تطوع في معونة ملك الموت وأدمنت على اقتناص الأرواح ، أنا صنيعة الشيطان ، لا أغفو إلا على حمرة الدم ، اذهبوا معي إلى هناك ، في نفق الموت سترون حقيقتي السوداء ووجهي المرعب الآخر “ .
لكن ذنبه سرعان ما تلاشى في أعماق روحه تاركاً له وساوسه الشيطانية تعيث فساداً في الأرض ، وعاد يطرق باب كهفه وهو ينحـر في ضحاياه ، سناء زميلته في الكلية وحبيبته ، فهل ستهـدأ روحـه الإجراميـة وتكتفي بالضحيتين ، أم هو في طريقـه لجرائم أخرى ، هذه الأفكار صاحبته وهو في طريقه للبيت في بغداد حـي العامـل الذي شهـد طفولته وصباه وشبابه ، “ وهو يستمع إلى البيـان الذي أذيع حول العمليات العسكرية في القواطـع الساخنة ، أثار فيـه موجات من الألم والشجون لأن الحرب هي التي كبلته بقيود الوجع فعطلت الحياة وشيطنت الفطرة ، حوّلت الإنسان من كائـن وديع إلى كائن مفترس ، جردته من ثوب إنسانيته “ ، وبحنكة وعمل المؤلف – محـامي درس القانون ، الجنائي منه خاصة – كشف لنا أن نعمان كـان يعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع ، هذا جعـله فعلياً غير مبـالٍ بمعاناة الآخرين ، تجمّع لديه خـزين شخصي من السلوك المعـادي للجميع وحدد لنا ملامح
شخصية مرتبطة بفظائع الحرب ، إنه يثير تساؤلاً حول ما إذا كـان بإمكان المؤسسات العسكرية أن تهتم أكثر عند تجنيد الأشخاص ، حيث تشير أكثر الدراسات إلى وجود صلة بين سمات الشخصية المعادية للمجتمع وانتهاكات للأخلاق .
نعمان وهو يقود حبيبته “ سناء “ بعد إيهامها بمشاهدتها اللقى والتحف الآثارية الموجودة في كهفه السري ، نحو مصيرها المجهول فارتابت منه ، غير أنها طردت كل وساوسها وارتمت في احضانه ، التي أبعدها عنه صارخاً بها أن لا فائدة منه لأنه فاقداً لرجولته ، وكشف عن عورته ، “لم يكن هنالك عضو ذكري ، رأت مجرد فتحة في موضع مشوّه ، فأصيبت بالفزع واجتاحتها موجات من الهوس مصحوبة بنوبات بكاء عارم ، واقتربت منه كلبوة هائجة وضربته على صدره صارخة به وهي تقول :
“ لماذا أخفيت عني كل ذلك ؟ لماذا لم تخبرني أيها المنافق ؟ لماذا كذبت ؟ أحببتك بكل جوارحي ووهبتك كل حبي وكنت صادقة مخلصة معك ، فلماذا لم تقل لي ؟ “ فاشتد بها الغليان وتملكها الرعب فصرخت به بفزع وثارت هائجة متوثبة من شدة النار التي تضج فـي أعماقها ، ولم تتمالك نفسها فانفلتت يدها ووجهت له صفعة قوية على وجهه قائلة له : هذا هو الرد المناسب على حقارتك “ .
“ أمسكها من رقبتها بشدة وجذبها إليه ، ثم امتشق سكينه لينهي آخر فصل من هذه التراجيديا المأساوية ، وكلما فكر بالتراجع عن قرار قتلها يضج فيه صوت نصفه الوحشي صارخاً : هيا اقتلها لا تدعها تخرج فإن خرجت من هنا سالمة لا تعود إليك ، سترحل عنك للأبد وستذهب لحضن رجل آخر غيرك “ .
الوكر لم يغلق بقتل “ سناء “ ، فها هو نعمان يفتحه لقتل صديقه المقرب “ ناصر “ بنفس تلك الروحية التي جُبلت على السادية ، هذه الـروح الشريرة لم تسلم من العقاب فقد شارفت على الوقوع في قبضة القانون بعد أن حامت حولها الشبهات ، نعمان اختفى مخلفاً جريمـة أخيرة فقد فجر وكره الشيطاني بعد دخول الشرطة إليه للقبض عليه :
“ ، وقد لمح الرعاة شبحاً على أطراف المدينة ، يركض صوب الصحراء ، ولم يفقهوا سره ، راح يختفي عن البصر ، تلاشى بين الكثبان “ .
“ وكر السلمان “ ، رواية تخلّلها عنصر الخيال بصورة أقرب للواقع ، والراوي / الصوت السردي الوحيد المهيمن منذ بدايتها حتى نهايتها ، في خط زمني مؤامراتي تألف من سلسلة
من الأحداث والأفعال ، أما هيكل حبكتها فقد قام على دعائم الصراع – الاحتكاك – بين شخصياتها ، بحركات لم تعقد أو تثير المتلقي بفعلها المتصاعد المحرض على الأحداث اللاحقة المرتبطة بترتيبات مختلفة ، على سبيل المثال :
ترتيب زمني ، يبدأ في الحاضر والعودة إلى الماضي ، ثم العودة ثانية للحاضر ، أما أبرز عناصرها السردية كان – الإنذار – أو التلميح بنتيجة الصراع من خلال أفعال شخصيات الرواية أو رموزها .