الدكتور زاحم محمد الشهيلي
يعد الايمان بالوطنية والدفاع عن الوطن وحب الارض من اخلاقيات الشعوب الحية على مر التاريخ وياتي في المرتبة الاولى بعد (العرض، والدين)، وبر الاوطان كبر الوالدين في الطاعة والاخلاص والتضحية، وكان آخر ما يفكر به الانسان الماديات على حساب الوطن، وهذا الامر مرتبط بالتربية الاجتماعية وما يتعلق بالحقوق والواجبات التي يكفلها الدستور والقانون في تلك الرقعة الجغرافية وفي اطار المساواة في مجتمع متعدد الاثنيات والاعراق، ونتيجة لذلك برزت ثقافات وديانات وعادات وتقاليد تختلف الى حد ما بين هذا الشعب وتلك الامة.
لكن القيم الوطنية بدات تتعرض الى هزات قوية وتحد كبير في العصر الحديث من قبل ثقافة الراسمالية العالمية المسماة بالعولمة الاقتصادية والثقافية المرتبطة بتقنية المعلومات التي لا تؤمن بالوطن والوطنية والاخلاق العامة والحدود المصطنعة بين البلدان، وانما تنتهج المنهج المادي وتنظر الى العالم على انه قرية صغيرة تسخر جميع مواردها الاقتصادية والبشرية لمصلحتها لتتكدس الثروة في بنوك اناس معينين غير سواهم.
لم تكتف العولمة بالهيمنة المادية على اقتصاديات العالم ورفض كلمة وطن والحدود المصطنعة، وانما عملت جاهدة على تحويل فكر الدول السياسي والاقتصادي والثقافي والديني والحضاري الى فكر مادي عولمي، بحيث اصبحت الثقافة، سواء كانت دينية او مدنية، عابرة للقارات لا تحدها حدود لكي يتم توضيفها في نهاية المطاف لخدمة مصالح العولمة في اثارة النعرات وخلق الازمات والصراعات بين الشعوب الامنة بهدف خلق الاسواق العالمية الملتهبة لتصدير السلاح الذي يعتبر السلعة ذات المردود المالي الاكبر.
لذا يتفق الباحثون على انه ليس للعولمة وطن تحده حدود وانما وطنها عالم واسع يضيع فيه الانسان بين الاستقرار العائلي والخوف من الواقع الذي يعيشه والمجهول الذي ينتظره، وطموح الاستقرار بالمستقبل في ملاذ آمن … عالم تتحق فيه مصالح العولمة على حساب مصالح الشعوب، وعليه تتم صناعة الانظمة السياسية في القارات المتخلفة وقارات العالم الاول، على اساس هذا الفكر الذي من شروطه عدم الولاء للرقعة الجغرافية التي ينتمي اليها الانسان المسماة بـ(الوطن)، وانما للمكان الذي يعيش فيه الانسان بأمان، أي ان يصبح فكر الانسان مشتتا بين تحقيق المصالح المادية بشتى الطرق والوسائل في مكان ما وطموح العودة الى قارة الاستقرار.
وعليه فان العولمة التي وطنها العالم كله، كما اسلفنا، لا ترحب بالأنظمة الوطنية التي تاتي من رحم المجتمعات في “الشرق الاوسط” خاصة، حتى لا يكون هدفها البناء، وانما تدعم بقوة الانظمة ذات الفكر المادي المزدوج الذي يتارجح بين الايمان والالحاد، والوطنية والقومية، وعولمة الفكر والعولمة الفكرية، والولاء الخارجي المرتبط بالملاذ الآمن الافتراضي بمنعزل عن الانتماء والولاء الوطني.
ونظام العولمة هذا لا يؤمن اطلاقا بالاخلاق والقانون في بناء الدولة السياسي والاقتصادي والثقافي والاستقرار المجتمعي الذي يجب ان يبقى متقهقراً بين الاستقرار والهجرة بسبب ادامة الصراعات في المنطقة التي تؤدي بالنتيجة الى تبذير ثروة الدولة وانعدام الامن المجتمعي، حتى تؤمن الشعوب في نهاية المطاف بوطن العولمة وعولمة الفكر وتودع الى الابد شعار الوطن وحاسة الشعور بالوطنية.