الدكتور عـبدالقـادر حسين ياسين
اتصلت بها يوم أمس لأطمئن عليها …
وجاءني صوتها الـدافئ يختنق ببكائها الذي تحوَّل الى نشيج…
ذلك أنها لم تكن تتوقع أن “أغـلـِّب” حالي وأتصـل…
“الله يرظى عليك يـمـَّـا …دير بالك عـحـالك يا حبيبي… إحـنا بخير… النسوان كبل الزلام بتحارب…وينهم العرب… وين المسلمين … الله ينصر هالشباب وها الصبايا اللي رفعوا روسنا… دير بالك يا حبيبي…الله يرظى عليك..!!”
وضعت سماعة الهاتف…وأمسكت بالقلم لأسـطر هـذه الرسـالة الى الحاجـة سعـدية ، شجرة الزيتون الفلسطينية التي تجاوزت الثمانين من عمرهـا المـديد ، والتي لن أنسى نقاء وجهها، وصفاء عـيونها ما حـيـيـت ، رغم الحـزن الدفـيـن الذي أصبح “ماركة فلسطينية مسجلة”…
فكانت هـذه الكـلـمـات.
ليست هي الحرب الأولى…
ليست هي الحرب الأخيرة…
لم يكن الفلسطيني مقاتلا كما هـو اليوم.
وغـزَّة ليست فقط مدينة في فلسطين.
إنها تسكن الوجدان ومآقي العـيون.
غـزَّة تنثر دمها الفلسطيني على عواصم العرب ومدنهم فتعـطيهم شرف الانتساب إليها.
إنها بمساحة الوطن الفلسطيني كـلـه …
هـذا الـوطن المحاصر بالأطماع والعجز، بكل رجاله ونسائه وأطفاله، بكل انكساراته وتخلفه، بكل ذكريات المواجهة والنصر والمقاومة، بكل البؤس والشقاء، بكل الفقر والقهر.
من يرى نفسه خارج غـزَّة هو خارج الوطن.
في آذار 1950 كان الكاتب الفرنسي أنـدريه مالرو (1901 ـ 1976) ، الذي أصبح ، فيما بعـد، وزير الثقافة ، في زيارة ميدانية لـفـيـتـنـام لتغـطية الحرب الدائرة بين القوات الفرنسية تؤازرها القوات الأمريكية من جهـة وبين ثوار فيتنـام من جهة أخرى .
كانت “ديان بيـان فـو” تعـتـبـر خلال تـلك الحرب من أهـم المراكز الاستراتيجية لدى الجانبين. وكان مـالرو قـد “سـمـع” عن الجنرال فـو نـغـوين جـيـاب ، القـائد الثوري الفيتنامي الذي أصبح فـيـما بـعـد أحـد أهـم قـادة حرب العـصابات في العالم .
ذهب مالرو للـقـاء جـياب ، و”ذُهـل” عندما رآه يرتدي “سروالا من الكـتـَّان وحـذاء من المـطاط ، ويحمل عـتـاده العسكري عـلى ظهره ، شـأنه في ذلك شـان أي جندي عادي” . وفي كتابه “الـمـذكرَّات المـضـادة” Anti-Memories يقول أنـدريه مـالرو أنه سـأل جـياب عـما اذا كان يـعـتـقـد بأن “عـصابات من الفـلاحين الجهـلاء” [ كــذا…!!] قادرة على هـزيمة فرنسـا.
وأجـابـه جـياب والابتسـامة لا تفارق مـُحـيـَّـاه : “لـيـس الـنـصر شـرطاً لدخول المعـركة، يا سـيدي… ولـيس الهـرب من مـيدانها طريقاً إلى النجاة … ليس ثمـة هـزيمـة أكبر من أن تعـلن يأسك من نـفـسك بينما عـدوك خائف منك حتى الموت…”
وطوال الأعوام الأربعـة التي أعـقـبـت ذلك اللقـاء أحـرز الجنرال فـو نـغـوين جياب انتصـارات عسـكرية مؤزَّرة على القـوات الاستعمارية الفرنسية ، وصـارت انتـصـاراتـه تتوالى الى أن تـُوِّجـت في معركة ديان بيان فـو الشهيرة . وفي السابع عشر من أيار 1954 سـقـطـت قـلـعـة ديان بيان فو في أيدي القـوات الوطنية بقيادة الجنرال جياب ، وأصبحت تلك المعركة التاريخيـة درسـاً إلـزاميـاً على الطلاب في المـعـاهـد والأكاديميات الحـربية.
مع كل فجر تتعاظم فلسطين وتتزايد قداسة أرضها ويتعـملق شعـبها، ولو مجروحة ومخذولة،
لا أحد خارج الحصار. كلنا نتفرج على موتنا، وكلنا نحتفل بالقيامة الجديدة.
لا أحد خارج غـزَّة.
إننا فيها.
تلفحنا نيران قذائف الـعـدو…
تهدم طـائراتـه جدران غرف الخوف التي نداري فيها خجلنا من أنفسنا، من أبنائنا وأحفادنا.
تمشي دباباته فوق صدورنا، وتترك جنازيرها آثارها على وجوهـنا.
لكنها حرب خروجهم …
كلما توغـلوا فيها أكثر كانوا يعـودون إلى نقطة البداية.
ماذا لو دمروا كل بيت؟
ماذا لو اعتقلوا ألفا، عشرة آلاف، مائة ألف ؟!
ماذا لو سـحـقـت دباباتهم الورود وبراعـم الشجر؟!
قـدر الفلسطينيين أن عـليهم أن يقـدموا، بدمائهم، البديل… وأن يقـرعـوا ناقوس الخطر لأمــَّة من الخراف…أمـَّة من 350 مليون من طـنـجـة إلى أم الـقـيـويـن..
حملنا قـناديلنا ، وخرجنا نبحث عن شموس ، نلقى أشعـتها في عيون “دليلة” *، فـتـزداد نقاء وصفاء وزرقة ، وعن أقمار نزرعها في ثغـرها ، فـيـزداد تألقاً ودعوة إلى الحب ، وعن فراشات نـنـثـرها في ثـنـايا شعـرها الفلسطيني الأسـود المنسدل شلالا ليلياً ، فـتـزداد فرحة الأطفال ….لكنهم حاولوا منعـنا!
لقد ضبطونا متلبسين بـ “جريرة” التعـبد في محراب الوطن ، لحظة تنفيذها ، وذاك ذنبٌ لو تعلمون عظيم ، في عالمنا العربي، فعـسكر السلطان عيونهم لا تنام ، وهم لا يرحمون هذا النوع من “الانحراف ” .
كنا نحاول أن نحرق نفوسنا بخوراً يفوح عبقه الزكي، ويملأ سماء الوطن الزرقاء شحارير وحساسين وبلابل ، لكنهم لم يتيحوا لنا حريـة الاحتراق … لقد استكثروا علينا أن ننفرد بالنار ، كي لا يقال عـنا ، فيما بعـد، “كانوا يـسـتـحـقـون الوطن …وكان الوطن يـسـتـحـقـهـم !!”
كنا نحاول أن ننتزع السوط من يد الجلاد النازل فينا ضرباً ، كي لا ينزل بغـيرنا ، وبدل إن يقولوا لنا “سـلـمـت زنودكم ” راحوا يـثـبـتـون السوط في يد الجلاد ويمكـنونه من أجسادنا لتتمزق مـعـتـقـدين إنهم بمنأى عـن هذه الهاوية.
تسألين من هم، يا حاجة سـعـدية؟
إنهم “أخـوتنا في العروبـة والاسـلام ” ، يا والـدتي ، وما كان أصـدق المتنبي حين قـال :
“وظـلـم ذوي الـقـربى أشـدّ مـَضـاضـة
عـلى المرء من وقـع الـحـُسام الـمـُهـَـنـَّـد “
السـلطان ، من “أمير المؤمنين” محمـد السـادس في المغرب الى “سليل الـدوحـة الهاشـمية” عبـدالله الثاني في الأردن ، يصر على أنه “ظل الله في الأرض” ، وأنه وحـده ـ بعـد الله ـ الذي “يمنحنا” حق العيش والتنفس … فـلا يجوز لـقـاماتنا أن تنتصب ، ولا لهـاماتنا أن ترتفع …
وُخيـّـل لبعـض “أخـوتنا في العروبة والاسـلام” أن بالامكان أن يتصادق “العـوزي” الإسرائيلي والطـفـل الفلسطيني ، وتوهـَّم البعض أن بالامكان أن يتحالف الصيـَّاد والعـصفور !!
وإذا بهذا البعض يهتدي إلى نورقناديلنا ، فـيـهـتـف بعـسـكر السلطان : “هـا هـم!!” ، وكانت فـرصتهم الـذهبية … أو هـكذا خـُيـِّل اليهم ، فـأخـذونا “أخـذ عـزيز مـقـتدر” ، تزين معاصمنا أوسـمة حـديدية خلفت آثارهـا صمـوداً ، وعـزمـاً ، وإصـراراً.
لم يقف فيها القتل والاغتيال والحرق بآلات الدمار المبتكرة عند حدود المناضلين والمجاهدين والرافضين لمسلسل الذلة والخضوع، فـقـد أصدرت اسرائيل (والولايات المتـحـدة الأمريكية) على هؤلاء حكماً لا تراجع عـنه : إنهم يستحقون الموت لأنهم يرفضون أن يبقوا بلا وطن، ويرفضون أن يوافقوا على أنهم ليسوا من هذه الأرض التي زعـم أساطين الدعاية الصهيونية أنها “أرض بلا شعـب”، وأنها وطن كل صهيوني وأرض ميعاده مهما تنأى به الديار·
لم يقف الأمر عند حد تصفية المقاومين والمجاهدين والرافضين، وإنما امتد ليحصد بشراسة كل أثر للحياة على وجه هذه الأرض دون رقيب أو حسيب، وليس أدل على ذلك من ذلك المشهد الدامي الذي يـشهده العالم بذهول وربما بصمت محايد حين تـقـصـف الطائرات الإسـرائـيـلـيـة غـزَّة وتحرقها حرقا، وتستهدف كل أثر للحياة في الـمـديـنـة الثكلى .
طفلة خيـَّم الموت على أسرتها كلها وهي تبحث عن واحد منهم بين الأحياء، فتعثر على أبيها جثة هامدة تهزه بـعـنـف لعـل فـيه بـقـيـة من حياة، وكأنها ترجوه ألا يموت، فلا قـلـب يـحـنـو عليها بعـده ، ولا حـضـن يؤويها من غـائلات الزمان·
تأملت هذا المشهد الدامي والطفـلة المذعورة تصرخ وتـنـتـحـب وكأني أرى فـلـسطين كلها وحـيدة في العـراء، تـخـلى عـنها العـرب والـمـسـلـمـون وأسلـموها لمصيرها ، وهـم لاهـون غـافـلون ، يـعـو قـادتـهـم الـعـالـم لـدعـم “الحرب على الإرهاب”… ولكنه بالتأكيد ليس إرهاب الصهاينة الذين فاقوا في حـقـدهم وبـطـشـهـم وعـنـصـريـتـهـم ما تعـرض له أي شعـب من الظـلـم والـهـمـجـيـة والعـنصرية على مرّ التاريخ·
الفلسطينون يقفون وحدهـم في العـراء … واخـوتهم في “العروبـة والاسـلام” يـشيحون بوجوههم خـجـلاً، وربما إنكاراً ·
إن المجزرة التي يـتـعـرض لها هؤلاء البسطاء الآمنون من الأطفال والنساء وكبار السن الذين يكـدحون ليل نهار لـتـأمين لـقـمة العـيـش لـتـعـلن لتاريخ زمـن الخـذلان ، وتـحـفـر في أوراق الزمن تاريخ انعطافة خطيرة في السجل العربي لا سبيل إلى تجميلها أو تبريرها… لقد كان هؤلاء البسطاء وسط دائرة الخطر الداهم الذي لا يرحم بين قسوة الشقيق وتنكر الصديق والوقوع بين براثن عدو جبار خسيس لا يرحم ولم يحتكم يوماً إلى مبدأ أو قيمة، يجردهم كل يوم من مقومات الحياة …
يقف شعبنا الـفـلـسـطيني أعـزلا إلا من إرادته وإيمانه بانـتـصـار الحـق والحياة، يحمل على كاهله تاريخـه المجيـد الذي يـمـتـد مئـة عـام من النضـال· وإن كان هذا التاريخ عـبـئاً على الكاهل لا يمكن إزاحـته أو التخلي عنه، فإن هؤلاء الصابرين يعـرفون أن قـدرهم الـتـصـدي في وجه هـذه الغزوة مهما كلف الثمن ومهما غـلـت الـتـضـحـيات . ولعـل مما يحز في النفس أن يـمـتـلـك الـفـلـسـطـيـنـيـون كل إرادة الصمود والعـرب ، كل العرب ، من حـولهم متقاعسون بل إنهم لا يسلمون أحياناً من كيد ذوي القربى… وربما إيقاع الفتنة وإشعال نار الوقيعة بينهم·
لقد تكاثرعليهم الأعـداء وراحوا يـتـربـصون بهم الدوائر ، وكأن أبـا الطيب المتنبي حاضر ينظر في الآفاق ، والحيرة تملأ قـلـبه والـقـلـق يـغـشى عـيـنـيـه الذكـيـتـيـن، وهو ينظر تارة إلى سيف الدولة الحـمـداني الذي تعـلو وجـهه سحابة الهمّ التي تغـشى النبلاء من ذوي الهـمم العالية وطوراً إلى عـرب الروم وقـد شايعـوا كل ناعـق، يقول :
“وسـوى الـرّومِ خـلـف ظـَهـرك رومٌ
فـعـــلى أيّ جـانـبـيـك تـمـيـلُ…؟!”
إن ما يـجـري في غـزَّة صفحة ناصعة جـديدة من صـفـحـات المواجـهة مع الـعـدو التي يخوضها شـعـبنا الفلسطيني ، ولن تـثـنـيه عوائق الطريق ، مهما بلغـت التضحيات .
واصلي تشبثك بتراب الوطن، واقذفي ما استطعت من الحجارة… فـالأرض هي مصدر النصر، والوطن هو الشهادة ، وسوف نلتقي .