وسـائل الاتصـال الجماهيري
والإمبراطورية الأمريكيـة *
الدكتور عـبدالقادرحسين ياسـين
تمثل الدراسة النقدية لوسائل الاتصال في الولايات المتحدة موضوعاً بالغ الأهمية بالنسبة للمجتمع العالمي، بالنظر إلى القضايا الحيوية التي تثيرها طبيعة هذا النظام الإعلامي وآليات أدائه فيما يتعلق بالسيادة الوطنية للشعوب الأخرى. فثقافة أمريكا الشمالية يجري تصديرها عالمياً، وقد أصبحت بالفعل النموذج السائد في أماكن عديدة خارج الولايات المتحدة.
ومن ثم يصبح فهم آليات الصناعة الثقافية الأمريكية، ضرورياً بصورة ملحة… وضمن صفحات هذا الكتاب، يطرح المؤلف رؤية تحليلية ناقدة لآليات السيطرة والتأثير على عمليات جمع ونشر المعلومات في الولايات المتحدة، وطبيعة القوى المهيمنة على وسائل الإعلام في المجتمع الأمريكي، وهو يوضح – من خلال التحليل النقدي المفصل لآليات التوجيه الكامنة في أدوات إعلامية مثل استطلاعات الرأي، والإعلان التلفزيوني، وأفلام ومنشورات والت ديزني… الخ – مدى قوة تأثير وعلو خبرة سائسي “العقول” هؤلاء في تزويج أفكارهم من خلال غمر الأمريكيين بالمعلومات بوصفها “وعياً” جاهزاً عبر وسائل الإعلام.
وفي كانون الثاني الماضي صدر للدكتور هيربرت شـيلر ، أستاذ مادة “وسائل الاتصال الجماهيري” بجامعة كاليفورنيا، كتاب بعنوان : ” Mass Communications and the American Empire (وسـائل الاتصال الجماهيري والامبراطورية الامريكية). وكان الدكتور شـيلرقدعمل قبل ذلك أستاذاً بمعهد “برات” في نيويورك، وبجامعة إلينوي، وجامعة أمستردام. ومن مؤلفاته المهمة كتاب “وسائل الاعلام وآليات السيطرة” المنشور عام1986. ، وأعيدت طباعته مرة ثانية في مارس/ آذار 1999 نظراً لأهميته وقيمة المعلومات والأفكار والتنبؤات الواردة فيه، وقد تحققت معظمها بشكل أو بآخر.
وقد استعان المؤلف بمئات المراجع والمصادر الهامة لبحثه، واستطاع أن يكون مقنعاً بإيراد المبررات والشواهد والأدلة في محاولته تنبيه شعوب العالم (بما في ذلك الشعب الامريكي ) لما يقدم إليهم من مواد إعلامية، تستهدف تضليل العقول، عبر توجيهها، والسيطرة عليها، والتلاعب بأفكارها، ليحقق حفنة ضئيلة من كبريات الشركات العملاقة أهدافاً لا إنسانية.
يتألف الكتاب من ثمانية فصول مع مقدمة وتذييل للهوامش والمراجع .يبدأ المؤلف في شرح الأساطير التي يقوم عليها التضليل الإعلامي والوعي المعلب في الولايات المتحدة، فيرى أن مضمونها خمس أساطير وهي:
1 – أسطورة الفردية والاختيار الشخصي
قامت جهود المهاجرين الأولين إلى الأراضي الجديدة “أمريكا” بترسيخ النزعة الفردية والاختيارات الشخصية. لكن ما حدث أن بعض مالكي الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات، والمسيطرين على شركات للإرسال الإذاعي والتلفزيوني في أمريكا باتوا يبررون سيطرتهم المطلقة على العقول باسم تلك النزعات المضللة.
2 – أسطورة الحياد
لا بد للشعب الذي يجري تضليله بحياد مؤسساته الاجتماعية والرئيسية. أي أن يؤمن الشعب بأن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم بعيدة جميعاً عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة. وتبقى الحكومة. بوصفها ركيزة أسطورة الحياد. فهذه الأسطورة تفترض مسبقاً الاقتناع الكامل باستقامة وعدم تحزب الحكومة بوجه عام، وعناصرها المكونة: الكونجرس، والنظام القضائي، والرئاسة. وينظر إلى وقائع الفساد والغش والاحتيال على أنها نتيجة مترتبة على الضعف الإنساني.
3 – أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة
من المتوقع أن تجد النظرية، التي تؤكد على الجانب العدواني في السلوك الإنساني، وعدم قابلية الطبيعة الإنسانية للتغير، استحساناً وقبولاً في الولايات المتحدة، وأن يتم نشرها في وسائل الإعلام فمن المؤكد أن الاقتصاد المبني على الملكية الخاصة والحيازة الفردية، والمعرض دائماً للصراعات الشخصية، والاجتماعية التي تفرضها هذه الأوضاع، سيسر كثيراً بمثل هذا التفسير الذي يضفي المشروعية على مبادئه الأساسية المؤثرة في الواقع، ومن هنا يجري تبرير برامج التلفزيون من جرائم قتل لا تقل يومياً عن نصف دسته بالقول:”إنهم يقدمون ما يحبه الناس. وأن الطبيعة الإنسانية تتطلب ثماني عشرة ساعة يومياً من الإيذاء والقتل…”[كذا!!].
4 – أسطورة غياب الصراع الاجتماعي
فالصراع، كما تصوره الأجهزة القومية لصنع الأفكار والتوجهات العامة، هو في الأساس مسألة فردية، إذ لا وجود أصلاً للجذور الاجتماعية للصراع في رأي مديري أجهزة الثقافة والإعلام… كما لقي السود، والسمر، والحمر، والصفر، والأقليات العرقية الأمريكية الأخرى، أقل قدر من الاهتمام في الإبداعات الثقافية المصنوعة. ومع ذلك فهي أقليات تم استغلالها من جانب كل قطاعات الغالبية البيضاء بدرجات متفاوتة. ويميل التركيز الإعلامي نحو الفئة البيضاء الميسورة، ومشكلاتها الفردية الخاصة.
5 – أسطورة التعددية الإعلامية
إن معظم الأمريكيين محصورون أساساً، داخل نطاق مرسوم من إعلام لا اختيار فيه… متنوع الآراء فيما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية، أو بالنسبة لشؤون المجتمعات المحلية، لا وجود له في المادة الإعلامية، وهو ما ينتج أساساً من التطابق الكامن للمصالح، المادية والأيديولوجية، لأصحاب الملكية.
تشكل الأساطير التي عرضنا لها مضمون النظام التضليلي المتبع في الولايات المتحدة، ويجري تعليب وعي معظم الناس بصورة محكمة منذ الطفولة فما هو الشكل الذي يتخذه هذا النظام؟
تقنيات تشكيل الوعي:
1 – التجزيئية بوصفها شكلاً للاتصال:
أن التجزيئية أو الحصر داخل بؤر، هو الشكل العام السائد والأوحد لعملية توزيع المعلومات والأخبار في أمريكا الشمالية. فأخبار المذياع والتلفزيون تتسم بطابع التكرار الآلي لموضوعات كثيرة لا رابط بينها.
أما الصحف فهي حشد من الصفحات المحشوة بمواد يتم تدبيجها على نحو جزافي، أو تماشياً مع القواعد الملغزة للصحافة. وتتعمد المجلات تقطيع المقالات ونقل معظم النص في صفحات العدد الداخلية، كذلك يتم قطع برامج الإذاعة والتلفزيون بصفة مستمرة لإذاعة فقرات إعلانية، أي التلاعب بالانتباه وتدجينه وفق خطط مرسومة تخدم أصحاب المؤسسات والشركات التي تحدد متى، وكيف، وأين، ولماذا؟ والهدف من ذلك السيطرة على العقول، وتوجيهها كما يرغبون.
2 – فورية المتابعة الإعلامية:
أي تسجيل الأحداث والتعليق عليها فور وقوعها ولكن النظام التنافسي الأمريكي المعمول به. يحول وقائع الأخبار إلى سلع فعند وقوع أزمة فعلية، ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماماً عن المعقولية.
السلبية: الهدف النهائي لسياسة توجيه العقول:
يكرس الإعلام الأمريكي هذه الأساطير وأدواتها للتضليل. وعندما يجري استخدمها بنجاح، فإن النتيجة تتمثل في السلبية الفردية، أي حالة القصور الذاتي التي تعوق الفعل. وذلك في الواقع، هو الشرط الذي تعمل وسائل الإعلام والنظام ككل بنشاط جم على تحقيقه، من حيث أن السلبية تعزز وتؤكد الإبقاء على الوضع القائم.
وتتغذى السلبية على ذاتها، مدمرة القدرة على الفعل الاجتماعي الذي يمكن أن يغير الظروف التي تحد من الإنجاز الإنساني.
ولكن ما هي صناعة المعرفة؟
وما دور العنصر الحكومي فيها؟
ليس ثمة شـك في إن نوع النشاط الحكومي الإعلامي الذي تجري ممارسته هو الذي يمثل العامل الحاسم فيما يتعلق بمضمون المعلومات الناتجة واستخدامها الاجتماعي. إن ما تفعله الحكومة يحدد نوع المعلومات الذي تتوخاه وتنشره. وما تفعله الحكومة يمكن فهمه على أفضل وجه من خلال التركيز على النظام الاقتصادي الذي تخدمه وتقوم بإدارته الحكومة بوصفها منتجة وجامعة للمعلومات:
إن الحكومة الفيدرالية لم تقم بأي جهد واضح من أجل تطوير سياسة قومية، في مجال إنتاج وتجميع المعارف والمعلومات على الرغم من إنشائها لمجلس يختص ذلك منها تشعب الموضوع والسبب الثاني كون الحكومة تعكس النشاط الاقتصادي الخاص، والسبب الثالث غياب التنسيق، والميل إلى التجزيء، أكثر من الميل للنظام الإعلامي الإجمالي العام.
نشر المعلومات:
إن المصالح المسيطرة لاقتصاد رأسمالية الدولة هي التي تحدد الطابع المميز لعملية تدفق المعلومات، وأشكال الرقابة عليها. ويتضح في المجالات التالية:
أ- الحكومة بوصفها مروجة دعاية
وحيثما يقع أي تغير اجتماعي أو يتوقع حدوثه في أي مكان في العالم، تنهمك أجهزة الإرسال الأمريكية في نشر الشكوك حول الصيغ الاجتماعية الجديدة وتمجيد نظام التملك الاستهلاكي. وقد قدرالدكتور اريك بارنو، أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولومبيا ، تكلفة الأنشطة السرية السابقة للحكومة الأمريكية في مجال الاتصال بحوالي ثلاث مائة مليون دولار سنوياً.
ب – الحكومة بوصفها وكيلاً للعلاقات العامة
عندما تتغاضى الحكومة عن التزاماتها فيما يتعلق برفاهية الشعب ككل، وتعمل وفقاً لمصالح الأقوياء، فسوف ينحو دورها الإعلامي هذا النحو نفسه لا محالة. فالإدارة الموجهة للمعلومات تحل محل المعلومات، ويتعرض الفهم الشعبي للمزيد من الإضعاف والتحجيم.
ج – الحكومة بوصفها أداة توجيه للإعلام
إن الحفاظ على مصالح الاقتصاد القائم على المؤسسات الخاصة الضخمة ذات الطابع الاحتكاري، وعلى إمبراطورية ما وراء البحار، يستلزم بالضرورة هرم توزيع المعلومات بالمقلوب الذي يميز كلاً من وسائل الاتصال الحكومية، وغير الحكومية في الولايات المتحدة.
المعلومات الحكومية بوصفها مصدراً للربح:
إذا قلنا إن أصل المشاركة أو جوهرها يتمثل في المعلومات. فإن التركيبة المكونة من احتكار المؤسسات متعددة الشركات والسرية الحكومية والتضليل الإعلامي، وأخيراً توزيع المعلومات على أساس القدرة على الدفع، تميز نهاية عهد المشاركة بالنسبة لأغلب المواطنين الأمريكيين.
ثم ينتقل الباحث لدراسة صناعة المعرفةThe Knowledge Industry ، فيما يتصل بالمجمع العسكري-الصناعيThe Military-Industrial Complex، فيشير إلى أن التوسع غير محكوم للمجمعات الصناعية الضخمة في القطاع التعليمي- الإعلامي- الثقافي- العسكري يمثل خطراً ظاهراً وقائماً. ولا يمكن لأي دعاوى حول الكفاية الصناعية أن تبلغ تلك الدرجة من الأهمية التي تبرر تعريض مستقبل الأمة للخطر، حين تعمد مجموعات الشركات العاملة في حقل الثقافة إلى نخل المعرفة التي تمر من خلال قنواتها التي تملكها، وتديرها من أجل وضع أسس نظم تعلميه تضفي أهمية أكبر على التدريب دون أن تبدي أي اهتمام حقيقي بالتطور التعليمي، وبالاحتياجات الحقيقية للفرد.
ويذهب المؤلف إلى أن هدف الترفيه والتسليه المتضمن عبر وسائل الإعلام الأمريكية يرمي لتعزيز الوضع الراهن. فهي جميعاً تنطوي على قيم ومسلمات قانعة وراضية بالتدابير الاجتماعية القائمة محلياً وقومياً وعالمياً على نشر الاستهلاك، وحب الكسب، واستهداف النجاح الفردي، والمصلحة الشخصية.
ويناقش المؤلف المسائل المتصلة بصناعة استطلاع الرأي ويتساءل هل ما يجري هو قياس للرأي آم تضييع لـه؟ ويجيب على ذلك بأن استطلاعات الرأي لم تقصر في خدمة أهداف الديمقراطية بل خدمتها بطريقة تؤدي إلى الكارثة. “فقد كرست مظهراً خادعاً من روح الحياد والموضوعية. كما عززت وهم المشاركة الشعبية، وحرية الاختيار من أجل التغطية على جهاز لتوجيه الوعي والسيطرة على العقول يتزايد توسعه وتطوره يوماً بعد يوم.”
ويتمثل التحدي في إيجاد أشكال من الرقابة والإشراف من خلال مؤسسات تؤدي إلى كبح التوجيه المضلل والمشاركة الزائفة، وتعزيز أشكال أصيلة للاتصال ثنائي الاتجاه بين القادة السياسيين والمواطنين وفقاً للمبادئ الديمقراطية. ويبقى ذلك التحدي قضية يتعين مواجهتها والتغلب عليها.
ويعقب السيطرة على عقول الأمريكيين، توجيه وتعليب العقول فيما وراء البحار عبر تصدير تقنيات الاستمالة، وحيث إن عملية نقل البيانات والمعلومات ستصبح أرخص فأرخص، لذا فسوف نشهد استخداماً أوسع لعمليات التحكم المبرمجة بالكومبيوتر، بل سنشهد أيضاً معالجة أكثر من برنامج في نفس الوقت عن طريق الكومبيوتر من مسافات بعيدة بهدف تدعيم أوضاع الشركات متعددة الجنسيات بوصفها أداة لنقل التكنولوجيا.
والواقع أن الزيادة المتحققة في الإنتاج والإنتاجية، نتيجة للتدفق العالمي للمعلومات التجارية والصناعية، يمكن أن توازي كل ما أحرز من تقدم اقتصادي في السوق المشتركة خلال العشرين عاماً الماضية.
لقد تمثلت مصادر القوة التقليدية للاقتصاد الأمريكي القائم على الشركات العملاقة في الإنتاج الاقتصادي، والتفوق التكنولوجي، والقوة العسكرية، واليوم يتزايد الاعتماد على السيطرة الإعلامية.
إن التدفق الإعلامي المعرفي الهائل الذي تنتجه وتدعمه الشركات الأمريكية في الخارج يسهم بقوة في الصيانة الداخلية، والتوسع الكوني للنظام التجاري الصناعي ولقيمه السائدة. ثم يحول توجيه العقول في بعد جديد، من قانون السوق إلى السيطرة السياسية المباشرة. والخشية المتوقعة تتأتى من الرئيس الأمريكي، أو الكونغرس، بما قد يفرضانه من قوانين الطوارئ، أو تعليق الديمقراطية، أو فرض بعض الحالات الاستثنائية، مثل الرقابة الحكومية في حال الحرب الشاملة أو المحددة، التي يصورها الإعلام على أنها معارك وطنية أو قومية أو إنسانية. وتستجيب لها العقول المضللة المعلبة، بكل الحماس والاندفاع، دون أن تعرف الأهداف الحقيقية لوقوعها.
وتحاول التكنولوجيا الإعلامية إظهار نفسها بوصفها قوة مضفية للطابع الديمقراطي، فإن القضايا الأساسية فيما يتعلق بطابع واحتمالات التكنولوجيا الإعلامية الجديدة، تتمثل في معيارها المعتاد والذي يعبر عنه هذا التساؤل: لمصلحة من، وتحت سيطرة من سيجري استخدامها؟
والواقع أن الرأي القائل أن المجتمع الغني بالمعلومات، والمدعوم بعتاده الآلي الحديث سوف يقضي على الأمراض الاجتماعية الراهنة هو رأي جائر ومضلل في آن واحد. فهو جائر يتصور أن أطفال الأقليات سوف يتغلبون بصورة سحرية، عندما يواجهون نضد الكومبيوتر، على سنوات الحرمان المتراكمة عبر الأجيال. وهو مضلل ومخادع حيث يدع الانشغال بالتكنولوجيا والتقنيات الالكترونية يحجب الدعائم المؤسساتية التي تظل مسؤولة عن اتجاه وبؤرة نشاط الاستخدامات الآلية الحديثة.
وختاماً، يعتبر هذا الكتاب مصدراً هاماً في موضوع كثر الجدال حوله خاصة مع قيام النظام العالمي الجديد والتفجر المعرفي الهائل، وثورة الاتصالات والإعلام، التي جعلت من العالم قرية كونية صغيرة.
* Herbert Schiller, Mass Communications and American Empire, New York : Columbia University Press. 480 p.