في مطلع الشهر الحالي غيَّب الموت الشاعر والكاتب المسرحي العراقي الفريد سمعان (1928-2021) عن عمر ناهز الـ 93 عامًا، ينتمي سمعان إلى جيل من المثقفين الذين بدؤوا تجربتهم في الكتابة في عقدي الاربعينيات والخمسينيات، حيث شهد العراق حراكًا سياسيًا مكثفًا قادته تيارات قومية ويسارية انجذب معظمهم إليها.
كان المناضل سمعان كما تشير الأدبيات أحد أبرز الأصوات الأدبية التي انتسبت إلى الحزب الشيوعي العراقي، وسجن أكثر من مرة بين عامي 1948 و1963 آخرها وضع مع خمسمائة من رفاقه داخل ما سمى «قطار الموت»، وكان أحد الناجين منه بعد أن حكم عليه بالسجن عشر سنوات.
الفريد سمعان شاعر من طراز خاص عاصر الكثير من الأسماء الكبيرة في الأدب العراقي كالسياب والبياتي والجواهري ومظفر النواب وغيرهم من الأسماء التي تركت بصماتها على المشهد الثقافي العراقي، اعتقل لأكثر من مرة من خلال قيادة التظاهرات مع السياب ومظفر النواب وأودع سجن نقرة السلمان الشهير الذي احتضن الآلاف من السياسيين والأدباء والمثقفين الثوريين.
الفريد سمعان ساهم في تأسيس اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق وانتخب أمينًا عامًا للاتحاد، كتب الشعر والقصة القصيرة وبرز في الشعر أكثر من القصة.
في حوار أجراه معه مركز النور للدراسات تحدث عن ذكرياته مع الشاعر الكبير مظفر النواب في سجن نقرة السلمان وعن الشعر في المساجلات اليومية، كانت تربطه صداقة مع النواب منذ تأسيس اتحاد الادباء عام 1959، وهنا يروي: كنت أملك سيارة (دوج) قديمة وكثيرًا ما كنت أنقله مع محمد صالح بحر العلوم من اتحاد الأدباء إلى الكاظمية ولا أتركه إلا بعد أن أتأكد انه داخل الدار، وكنت أمر عبر الأعظمية وكانت ساحة خطر لليساريين والمسافة غير قصيرة ولكن المحبة والحرص والتحدي، كان مظفر النواب في بداية رحلته في الشعر الشعبي وفي قصيدة «للريل وحمد» قد أحدثت ضجة كبيرة وكانت لونًا متميزًا استطاع أن يتفوق على الشعر الشعبي المألوف.. اضافة لقصيدة (حمد) وسواها ولم يكن معروفًا كشاعر فصحى ولكنه كان مثقفًا ومتمكنًا وذكيًا ولديه مزاج موسيقي وغنائي خاص. ويضيف: ودارت بنا الأيام وأُلقى القبض على مظفر النواب وجاؤوا به إلى سجن نقرة السلمان ووجد مكانة في القاعة رقم (10) التي كنت مسؤولاً عنها.. كنا نقيم أمسيات ثقافية، وكنا نكلف مظفر بإلقاء قصيدة في المناسبات، وهنا ظهرت موهبته في مجال الشعر الفصيح وكان عنيفًا ومحرضًا من نوع خاص كما كان يهتم بالمطالعة، اضافة إلى اهتمامه بحفلات أم كلثوم التي كانت تقدم شهريًا ونستمع إليها بأجهزة الراديو الصغيرة المتوفرة لدينا.
عرف الفريد سمعان الشاعر بدر شاكر السياب عندما كان طالبًا في دار المعلمين العالية وفي بغداد كان يزوره في الدائرة المعروفة باسم «المستوردة»، وكانت تضم طائفة كبيرة من العناصر اليسارية، وقد تم تعيينهم بتوجيهات من نوري السعيد بالذات باعتبار أن اليساريين يتمسكون بمبادئ الصدق ويرفضون الرشوة وهو يعلم أن التجار الذين يراجعون هذه الدائرة للاستيراد لابد أن يلجأوا لاستخدام (الهدايا) المالية (الرشاوى) لتمشية أعمالهم بأسرع ما يمكن، وكان من بين الموظفين الشاعر كاظم السماوي وبدر السياب، وفي انتفاضة يناير عام 1948 المجيدة ضد القيود الاستعمارية توطدت علاقة سمعان بالسياب.
كانت قافلة الشعر في رأي سمعان تدق أجراسها وهي تحث نحو المستقبل، أسماء ظهرت واستطاعت أن تطرح نفسها على الأفق الأدبي وأن تحتضن بما تملك من طاقات إبداعية متجددة، ومن هؤلاء كان الشاعر عبدالوهاب البياتي الذي عرف الطريق إلى الشهرة لا من خلال عطائه وقصائده بل من بوابة الانتماء.. حيث وجد بدر السياب يحلق ويشتهر مبدعًا وانسانًا وشخصية أدبية على مستوى رفيع فابتعد عن الخط القومي الذي كان قد تبناه في بدء شبابه وانتقل إلى ضفة اليسار وأدرك أن الطريق إلى الشهرة لن يأتي إلا إذا تبنى وجهة النظر التقدمية فكان له ذلك وهو محظوظ أكثر من السياب خلال مسيرته العاطفية، فهو يعرف كيف يعتني بهندامه، وهو متحدث لبق استطاع أن يقنع أكثر من عشرين كاتبًا في لبنان أن يكتبوا عنه شاعرًا وانسانًا ونشر الكتاب في بيروت ودفع بخطاه إلى الأمام، كما أقنع وزير خارجية العراق في عهد عبدالكريم قاسم بأنه غير شيوعي وحصل على موافقة الخارجية لكي يتعين ملحقًا ثقافيًا في السفارة العراقية في موسكو، والتقى هناك بكبار الشعراء ومن بينهم الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الذي سمع عن البياتي بأنه محكوم بالإعدام في العراق وهو لم ينل من الاعتقال إلا بضعة أيام في حياته.. كما أقنع الرئيس جمال عبدالناصر بأنه يقترب من وجهات نظره فكتب له قصيدة ضمَّنها عبارة (لا شرقية ولا غربية) وسمح له بدخول مصر وقبوله لاجئًا سياسيًا، ومع ذلك لا ينفي سمعان بما قدم البياتي للشعر العراقي، فقد كان أحد أعمدة الشعر الحر، وقد حصل على مكانة رفيعة في هذا المجال، كما ترجم شعره إلى أكثر من لغة وتعرف على العديد من رؤساء الدول والشخصيات الأدبية البارزة.
إذا كان النضال كما يقول سمعان كلمة كبيرة مقدسة لا تستهدف الحصول على مكاسب شخصية فهو مرتبط بالفكر والحركة التي ينتمي إليها المناضل، إنها ضرورة إنسانية لا على المستوى السياسي وحسب بل على كل المستويات من أجل أن تنتصر الحقيقة واقتلاع جذور الظلم والاستغلال والبطش، فإنه يعني أن الذين استمتعوا بأموال دول أخرى ساعدته على العيش لتضمن تأييده مستقبلاً هؤلاء مرتزقة جاؤوا ليحصدوا أمجاد سواهم.. والخلاصة فإن النضال الحقيقي أكبر وأسمى من المناصب والأموال وعلى من يقتحم الساحة لهذه الأسباب أن يخجل وينزوي ويحترم نفسه لأنه بالتأكيد سوف يسكن قلوب الناس قبل أن يجلس على كرسي منصب مهم مهما كان هذا المنصب، في حين يأخذه العجب مما كان يشاهده فتوزيع المناصب يتم في إطار المحاصصة السياسية والطائفية والتركيبة السياسية للمؤسسات كمجلس النواب والمحافل الأخرى!.
كانت الحركة الثقافية في العراق بالنسبة لسمعان (أبو شروق) رغم ما تعاني من مصاعب وآلام فإنها تتقدم وتقدم عطاءً ناضجًا وتحتوي أقلامًا نظيفة جديرة بالاحترام وأمامها مستقبل مشرق.. وهذا الأمر في رأيه مرتبط بالوقائع والأحداث التي تمر بها البلاد، فمن المعلول أن معظم إيرادات العراق تذهب لمتابعة الأوضاع الأمنية وبناء الأجهزة التي تستطيع أن توقف العنف وتحدد تحركات العاملين على إفساد الأجواء الديمقراطية التي تسعى إليها وآنذاك يمكن أن تنفتح الأبواب للثقافة أن تدخل وأن تقدم إبداعاتها.
ونقلاً عن جريدة (طريق الشعب) العراقية، كتبت ابنته شروق وهي ترثي والدها: حياتك حافلة بالأحداث فكنت بطل سجن نقرة السلمان وقطار الموت بكل وحشيته ومراراته، وبطل التظاهرات والانتفاضات، كنت لا تخشى رصاص الأوغاد.