وداعا للفنان، الرسام والمسرحي سهيل ابو نوارة
نبيـــل عـــودة
فجعنا يوم السبت (12-03-2016) برحيل الفنان والكاتب المسرحي سهيل ابو نوارة من الناصرة عن عمر (76) سنة. قلائل جدا من ابناء شعبنا عرفوا أعمال سهيل الفنية خاصة، فهو رسام مبدع له عشرات اللوحات، لكن من المؤلم انه كان يعمل بصمت ولا يلتفت لتسويق نفسه، كان أشبه براهب منعزل في سومعطته ويعطي كل طاقته لفنه، ألوانه وكتاباته.
برز المرحوم سهيل ابو نوارة بعمل مسرحي فريد من نوعه، هو مسرحية “زغرودة الأرض”، التي كتبها ونشرها في اواخر سبعينات القرن الماضي نشرت المسرحية في وقته في مجلة “الجديد” ، وقد اعتبرها الشاعر محمود درويش، الذي كان في تلك السنوات محررا لمجلة “الجديد” الثقافية التي كان لها الدور المصيري والبارز في تطوير الثقافية العربية للمواطنين العرب داخل اسرائيل في سنوات الحصار الثقافي والعسكري على المجتمع العربي، بأنها أبرز عمل مسرحي في ثقافتنا المحلية ، واضيف بدون وجل انه لم تكتب حتى اليوم في ثقافتنا المحلية، أي مسرحية بمستوى “زغرودة الأرض”.
سهيل لم يكتب بعدها أي عمل مسرحي جديد، نشر بعض القصص والقصائد والخواطر، وغرق بالرسم الفني ومن المؤسف انه ظل بعيدا عن الأضواء، وقد تعرفت على لوحاته وقدراته في الدمج بين الألوان منذ زمن بعيد جدا.. وكاد يلفه النسيان. من المعروف ايضا ان والدته كانت رسامة موهوبة ترسم لنفسها وكأني بسهيل قد ورث انعزاله الفني عن والدته.
اليوم نودع هذا الانسان الذي فضل الانعزال والتواضع بدون ان يقلق لمكانته الفنية ، وهو أمر بالغ فيه لدرجة ان معظم الفنانين أيضا بالكاد يعرفون عن إبداعاته الفنية.. وآمل من مؤسسات شعبنا ان تهتم بالكشف عن كنوزه الفنية وإعطائه الاعتبار الفني الذي يستحقه.
سهيل ترك لنا واجبا ، ان نعمل على كشف أعماله الفنية أمام الجمهور، وهي مهمة سأحاول ان أنجزها بالتعاون مع اهل بيته ومؤسسات الناصرة المختصة بالثقافة والفن. وانا على ثقة ان بلدية الناصرة ستعرف كيف تكرم هذا الفنان “الصامت”!!
حين نشر سهيل مسرحيتة “زغرودة الأرض” اثارت موجه واسعة من الاهتمام، وقد أُخرجت المسرحية بعد نشرها (سبعينات القرن الماضي) ولاقت نجاحا منقطع النظير.. وقد كتبت عرضا عن هذا العمل الفني الكبير. وها انا اعيد نشر القسم الأهم عن المسرحية لتذكير ابناء جيلي وابناء الأجيال الجديدة عن ابداعات مهدت الطريق لتطوير ثقافتنا وتعزيز مكانتها على خارطة الثقافة العربية بشكل عام.
ملاحظة: تعرض الكاتب المسرحي والرسام سهيل ابو نوارة، في نيسان (2010) إلى اعتداء آثم، في منزله في الناصرة، من ملثمان بلا أخلاق طعنوه بمختلف أنحاء جسمة طعنات صعبة جدا كان يمكن ان تكون قاتلة وظل يعاني من آثار تلك الطعنات حتى آخر ايامه.
وصف سهيل ابو نوارة الاعتداء عليه بقوله: “كنت اجلس لوحدي في البيت أمارس هوايتي في القراءة. تفاجأت بدخول شابين الى الغرفة احدهما دخل من الشباك والثاني قام بخلع الباب، وقاما بطعني ما أدى الى اختراق احد السكاكين لرئتي اليسرى. “واضاف :”انا شخصيا لا يوجد لدي أي اعداء ولا اشك او اشتبه بأي احد اعرفه. حقيقة ان الحادث غريب ولا اعرف خلفيته وسببه”.
من المؤسف ان الشرطة لم تنجح بالوصول الى المعتديان ولا يوجد بعد أي تفسير لهذا الاعتداء الاجرامي على فنان مسن لم يؤذ بحياته أي شخص!!
زغرودة الأرض- صرخة شعب على المسرح
تمهيد: شهد مجتمعنا العربي نشاطات مسرحية مباركة في سبعينات القرن الماضي ،حيث تشكلت ونشطت فرق مسرحية عديدة، حولت الحياة المسرحية والفنية الى ظاهرة تثقيفية نشيطة ومؤثرة، في الناصرة برزت اعمال “المسرح الناهض” الذي أنشأه المخرج والممثل صبحي داموني وقدم اعمالا مسرحية متنوعة ومختلفة من المسرح الاغريقي والفرنسي والعربي ..ولا يمكن ان انسى اعمال الموسيقار المرحوم مارون أشقر ومسرحياته الغنائية الرائعة القريبة من أسلوب المسرح الغنائي الرحباني ، مارون أشقر كتب نص المسرحيات والأغاني ولحنها واليوم تلف أعماله النسيان. علمت من أقرباء المرحوم ان له الحان مختلفة لأغاني ومسرحية غنائية ملحنة لم تقدم حتى اليوم. وقدم المخرج رياض مصاروة عدد من المسرحيات خاصة المقتبسة من روايات غسان كنفاني، في حيفا برز “المسرح الحر” الى جانب اعمال فنية مسرحية مختلفة وهناك نشاطات أخرى عديدة تحتاج الى جانب ما ذكرته الى دراسة توثيقية”.
مسرحية المرحوم سهيل ابو نوارة، زغرودة الأرض، قدمها “المسرح الحر” بالتعاون مع “المسرح الشعبي” على مسرح قاعة “فرانك سيناترا” (الهستدروت) قي الناصرة وذلك في سبعينيات القرن الماضي. جرى اخراج جديد للمسرحية قبل عدة سنوات ، سبب مواجهة قضائية بين مؤلفها سهيل ابو نوارة و”مسرح الميدان” الذي قدمها عام 2001، اذ ادعي المرحوم سهيل ابو نوارة أن توجيهاته و ملاحظاته المتكررة لطاقم مسرح الميدان جرى تجاهلها وأضرت بالعمل ومؤلفه وتسيء إلى سمعته ككاتب ومؤلف وفنان…
اذكر ان مسرحية قدمت في أواسط السبعينات من القرن الماضي، وها انا انقل بإيجاز للقراء نص ما كتبته وقتها عن هذا العمل المسرحي المميز.
******
لم أكن انتظر عندما ذهبت لمشاهدة مسرحية زغرودة الأرض أن أكون أمام عمل أقل ما يقال عنه انه قنبلة..استطاعت هذه المسرحية ان تحصل على عواصف من التصفيق المتواصل، انها في الواقع أول عمل مسرحي يعالج حياتنا وواقعنا اليومي، وهذا هو “السر” الأول في نجاحها الكبير.
سهيل في مسرحيته ليس مقلدا، بل هو مجدد، قد تبدو المسرحية لمن يقرأها على انها رمزية، لكن الرمز فوق المسرح يتحول الى سكين يفتح جراحنا ومآسينا، رمز يسلط الضوء عليها ليستفزنا ويثير مسؤوليتنا.
الرمز في زغرودة الأرض ليس فكرة ولكنه إطار شفاف، شاعري، يقودنا الى عقدتنا. سهيل نجح بالتكتيك الذي اتبعه في إبراز فكرته وتسليط الضوء عليها في جميع مواقف المسرحية.
استطاع المخرج أنطوان صالح ان ينقل الفكرة بقوتها الكاملة على خشبة المسرح. مشاهد المسرحية يعيش الفكرة بحواسه ويقاسم أبطالها مشاعرهم. صمم الديكور الفنان عبد عابدي وأعطى للمسرحية خلفية مطابقة لروح النص وأجواء الموضوع الذي تطرحه.
تتكون المسرحية من ثماني شخصيات، لكن لو تعمقنا أكثر لوجدنا الشخصية التاسعة وهي الأرض.ان الأرض لا تتكلم لكن لها من يتكلم عنها، الأرض لا تتحرك فوق المسرح لكن لها من يتحرك عنها، الأرض لا تثور لكن لها من يثور عنها، الأرض لا تشيخ بل هي الشباب المتجدد.. هي الحياة، هي الحب الذي يربط الناس مع بعضهم، هي الماضي والحاضر والمستقبل، هي السعادة وهي الشر، اذا لم نعرف كيف نصنع السعادة منها.هي الكلمة وهي الصمت، هي الرمز وهي الحقيقة، هي الدم وهي القلب. الذي يستطيع ان يسلبك أرضك حتى لو لم تزرعها انت، يستطيع ان يسلبك كل شيء، ان لم تستطع الحفاظ بثبات على أرضك، حتى لو كانت تقيد لك أحلامك وتعيق لك مصيرك، فستفقد الحق حتى بالتشرد، يبقى ضياعك عارا وغربتك مذلة ، كما قال الأب: الأرض هي الزغرودة، هي الكرامة والحرية،.. “يبقى الإنسان حرا كريما ما دام له بيت يحق لع الرجوع إليه، ما دامت بقيت له أرض يزرعها ان أراد”.
شخصية الأب (الممثل يوسف فرح)هي الشخصية الأساسية في المسرحية، هو الأرض نفسها، هو الناطق بلسانها، الأرض لا تعطي من يهملها، دور الأب مليء “بالتناقض” ان صح التعبير، مليء بالمواقف المتغيرة بين لحظة وأخرى، هو الأرض وهو الأب، استطاع يوسف فرح ان يتقمص دوره بشكل مدهش. كانت شخصيته مسيطرة على خشبة المسرح، بحث أصبح نجاحه بدوره هو نجاح المسرحية والعكس صحيح. كان بارعا لدرجة السيطرة الكاملة على جميع مشاهد المسرحية.
مشكلة الأب هي ابنه عزيز (الممثل جورج ناصر) الذي علمه وأصبح أستاذا في المدينة ، يتنكر للأرض، للقيم النابعة عنها، يحاول إقناع والده ان يترك الأرض وينتقل للسكن مع العائلة في المدينة.
دفع الأب أولاده لكي يتعلموا.التراب هو الذي علمهم..الأرض هي التي علمتهم..أرادهم ان يعودوا اليها بعلمهم، لكنهم بدلا من ذلك يريدون إنتزاعه منها، ليبقى بلا جذرو، بلا كرامة، بلا حرية، الأرض هي التاريخ،هي تكاتف الناس وتعاضدهم في أفراحهم وأحزانهم، أولاده لا يعرفون الحب الذي تمنحه الأرض، لقد تكسرت أحلام الأب عندما رأى ان أولاده لم يعودوا قطعة من الأرض، لم يعد لهم الحق في التشرد.
من الواضح هنا ان الرمز الأب – الأرض على أنه الوطن… يستصرخ أبنائه ان لا يغادروه، فهو بحاجة الى سواعدهم والى علمهم. السعادة يجدونها إذا أرادوا ذلك، تلك هي المسألة وليس الهرب من الواقع. لذلك ينفجر غضب الأب عندما يجيء عزيز لأخذ أصغر إخوته – آخر أمل للأب بتحقيق حلمه بأن يبقى أحد أولاده مخلصا للأرض، لكي يبقى التجدد…لكنه لا يستطيع ان يفعل شيئا، هكذا الأرض أيضا، الخيار بيد الإنسان، هذا المخلوق الذي يستطيع ان يتجرد من كل القيم، من الماضي، من الروابط، من العلاقات، من المستقبل المرئي، ليتعلق بحبال المستقبل الخيالي، البعيد عن جذور الأرض، الجذور هي الكرامة، هي الحرية، الأب يتحدث بالنيابة عن الأرض، انه لا يستطيع ان يمنع اولاده ولا يستطيع ان يوافق، يحاول أن يقنع أبنائه بأفضلية أرضهم.”فهنا اذا قلت “أخ” يهرع إليك الجميع، اذا زغردت تجد الكل حولك، فما هي قيمة الحياة اذا تجرد الإنسان عن الأقارب والأصدقاء والمعارف .. اذا تجرد من الأرض؟!
ان الأرض ، رغم ان ابنائها يغادرونها تحبهم، فها هو الأب يقول لزوجته (الممثلة بشرى قرمان)ان تزغرد عندما يرقص أولادها في الفرح، لعل المؤلف يريد ان يقول لنا هنا بأن هذه الزغرودة هي زغرودة الوداع الأخير، كالزغرودة للميت مثلا؟ّ!
ان الأرض لن تبقى خالية، سيخرج جيل آخر وآخر.. الذي يترك أرضه (وطنه) لا يخسر الا نفسه ولو ربح مال الدنيا كله.. ها هو الأب يوافق أخيرا على اقتراح زوجة ابنه خليل (بدور الزوجة غادة وهبة وبدور خليل مصلح فرح)بان تجيء بأولادها للسكن معهم- الارتباط بالأرض… والزغرودة هنا تزدوج، فهي تنطلق ترحيبا بالجيل الجديد، ووداعا أخيرا للجاحدين للأرض.
ملاحظة: اسقطت الحديث عن التمثيل وسائر تفاصيل الاخراج . المادة نشرت في كتابي “بين نقد الفكر وفكر النقد”(صفحة 175) الصادر عن دائرة الثقافة العربية – حزيران 2001 !!