الدكتور زاحم محمد الشهيلي
ان ولادة الدولة وصيرورتها وبلورة شخصيتها القانونية وتكوين هويتها “القومية” و”الوطنية” تمر بتحديات تشبه إلى حد ما مخاض ولادة الانسان وصيرورته التي تبدا بشهادة ميلاد يثبت فيها اسمه واصله ومكان ولادته وتاريخ ميلاده الذي يعتز به ويحتفل سنويا، وتشتق منها هوية الأحوال المدنية التي تحمل تفاصيل شخصيته القانونية. وهكذا هي الدولة حين تولد على مساحة من الارض محاطة بحدود دولية قانونية، يقطنها شعب له تاريخ مشترك وتراث مشترك ولغة مشتركة ونظام سياسي “وطني” مستقل لإدارة شؤونها، حيث تحدد، بموجب دستور البلاد، “هويتها القومية” التي تشتق منها “هويتها الوطنية” ويثبت بقانون “عيدها الوطني” الذي يحتفل ويتغنى به ابناؤها سنويا. وتحدد “الهوية القومية” على أساس الوفرة التاريخية للموروث الثقافي والعلمي الإنساني للشعب واللغة المشتركة التي كتب بها على مر التاريخ، والذي يعرف هويتها القومية حسب الحقب الزمنية للموروث الحضاري الذي يحمل حقائق تكوين الاقليم ومن ثم ولادة الدولة وصيرورتها القانونية.
ويلعب تعدد العرقيات والقوميات الكبيرة والصغيرة والأديان والمذاهب ذات التاريخ المشترك واللغة المشتركة داخل اقليم الدولة دورا بارزا في تشكيل “الهوية الوطنية” للدولة العصرية، التي تنمي لدى الأفراد الروح الوطنية وتقوي الولاء الوطني والالتزام القانوني والأخلاقي بالنظام العام، وتحول دون التمرد على النظام السياسي “الوطني” للدولة، وتحد من الانقسامات الداخلية بين المكونات، خاصة حين توضع مصلحة الدولة فوق كل المصالح الفئوية والعرقية والطائفية والقومية بالنسبة للدولة التي يتكون شعبها من اطياف متعددة منصهرة تاريخيا، رضت لنفسها ان تعيش بسلام مع بعضها منذ آلاف السنين وبنت حضارة ذات قواسم مشتركة وعمق تاريخي وإنساني عريق، ولم يحدث بين مكوناتها ما يشوه صورة كيان الدولة القانوني والتعايش السلمي على مر التاريخ، إلا ما كان مبيتا لزعزعة أمن الدولة واستقرارها، بعد ان باتت المكونات مؤمنة ورضت عن قناعة بالتكامل السياسي والاقتصادي والثقافي والحضاري والديني فيما بينها، ورأت ان قوتها في تلاحمها المصيري وليس بتشتتها وتشرذمها السياسي والفكري الذي يجعلها صيدا سهلا للأطماع الخارجية والعابثين والمتربصين بمصائر الشعوب.
لذلك فان اكبر خطر يهدد “الهوية الوطنية” بالضياع حين تطمس “الهوية القومية” للدولة نتيجة للخلافات الفكرية والصراعات السياسية والأزمات والحروب والتدخلات الخارجية التي تضرب في جسد الدولة، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى ارباك العمل الاداري للنظام السياسي “الوطني” واضعاف القانون والنظام الذي يذهب هيبة الدولة ويغيب كيانها في عقول الناس وتفكيرهم بعد غياب الامن والمؤسساتية في تنظيم الحقوق والواجبات لتنمية الروح الوطنية في الذات الإنسانية، حين يتم تغليب المصالح العرقية والقومية والدينية والطائفية والمصالح الشخصية على المصلحة العامة للشعب والوطن، الامر الذي يجعل العرقيات الصغيرة ومتوسطة الحجم المكونة للنسيج الاجتماعي للدولة تنطوي على نفسها وتداعي باستغلال قومياتها العرقية والدينية نتيجة للخوف من المستقبل المجهول الذي ينتظر مصير الدولة ذات النظام السياسي غير المستقر، مما يجعلها تشكل تنظيمات ذات ارتباطات خارجية لكي تداعي بحقوقها، وترسم لها حدود حماية صغيرة داخل كيان الدولة الكبير حتى لا تفترس من قبل العرقيات والقوميات الكبيرة على أساس لعبة (ان السمكة الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة).
واستنادا لهذا التوصيف، تعد مرحلة تفكك نسيج الدولة الاجتماعي ومنظومتها الامنية والإدارية المؤسساتية وذهاب هيبتها من اخطر تحديات المراحل التاريخية في حياة الفرد والمجتمع عموما، لأنها ستؤدي بالنتيجة إلى طمس “الهوية الوطنية” و”القومية” معا وتهددهما بالضياع، (وكل حزب بما لديهم فرحون)، لان في تلك الحالة يصبح معيار الولاء الوطني للفرد والجماعة على أساس مدى الفائدة المادية والمعنوية من الدولة وليس على أساس الولاء الوطني للهوية الوطنية والقومية والانتماء التاريخي للأرض التي تربى عليها آباءه وأجداده، ويصبح هذا النهج ثقافة مجتمعية مناطقية تشكل نقطة الضعف الأساسية في خاصرة الدولة، رغم ان الجميع يعلم ان اي خرق يحصل في المصلحة الوطنية سيكون له مردودا سلبيا على مصلحة جميع المكونات وتهددها بالضياع، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان قوة المكونات الوطنية للدولة تكمن في وحدتها وتآلفها وليس في تشرذمها وولاءاتها القومية والعرقية والدينية وتبعيتها الخارجية .
لذلك نلاحظ ان اغلب الدول في العالم، والتي يصل تعدادها إلى اكثر من (١٩0) دولة، تولي اهتماما كبيرا بإحياء المناسبات الوطنية وتعتبرها “مقدسة” و”خطوط حمراء” في حياة المجتمع، وخاصة “العيد الوطني” للدولة الذي يعد رمزاً لصيرورة الدولة وتكوين هويتها القانونية “الوطنية والقومية”، ومن شأنه تقوية اواصر المحبة والروح الوطنية والولاء الوطني للدولة في ذات وضمير مواطنيها، ويعطي انطباعا إيجابيا للدول الصديقة والشقيقة عن الولاء الوطني والتلاحم المصيري السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري بين مكونات الدولة العصرية التي تسعى لحماية نسيجها الاجتماعي والمحافظة على هويتها “الوطنية” و”القومية” من التفكك والتشرذم والضياع الذي لا يخدم الجميع بأية حال من الاحوال.