د. محمود عباس
قرفنا، من كثرة تداول التهم بين فصائل الحركة الكردية السياسية، والبخل في مواجهة الأعداء، اشمأزت نفوسنا من تصاعد الصراع بيننا الأكثر عنفا مما بيننا ومحلتينا، يدهشنا عندما نلاحظ، خبرة الأطراف الكردية بنهش بعضها، وبالمقابل نقف حائرين أمام تبريرات قياداتها للأعداء الذين يمزقوننا. دروبنا واضحة لبعضنا؛ فبدل مساعدة البعض، نقوم بتدمير أبسط المكتسبات التي حصل الآخر عليها، ونصبح عميان في الطرق المتجهة لمجابهة من يريد الشر لنا، نخون بعضنا في كل محفل، على خلفية أبسط العلاقات السياسية أو الدبلوماسية، وبالمقابل نخلق المبررات لمن يريد القضاء علينا؛ حتى على المنابر العالمية، تتفاقم الخلافات بيننا عند حالات فشل أحدنا، فنلقي بالذنوب عليه بدل مساعدته، ونبرأ الأعداء بدراية أو عدمه، إلى درجة أصبحنا نواجه ذاتنا كأعداء، ونتعامل مع الأعداء كما يرغبونه، نحلل مواقفهم كقوى لا تبغي الشر فيما لو كنا حليمين، أو فيما لو أثبتنا لهم على أننا حراك وطني نقبل حكمهم العادل على ذاتنا.
ليتنا كنا دهماء السياسة؛ حيث عدمية القيم، لنفضل الكردي الأخر المخالف على الأعداء، وليتنا تجاوزنا منطق الحزبيين البسطاء والسذج؛ لنرفض ونتحرر مما يمليه علينا محتلونا والمتربصون بنا من شروط. فضمن هذه السذاجة الفاقعة المغمسة بالجهالتين السياسية والدبلوماسية، ننسى أن العدو سيظل عدوا حتى ولو أستمرينا قرون أخرى في خانة الموالي، والطاعة لولي الأمر، ورعايا في وطن ليس لنا فيه حقوق، وسنظل ونحن على هذه السجية لن ندرك أن معالجة القضية مع القوى الإقليمية، والتي لها القدرة على بلوغ ما تريده، لا تأتي بتأنيب البعض على عدم الطاعة لمتطلباتهم، بل على تقاعسنا في دحض وإزالة التهم الموجهة لنا، وتمييع وجودنا أو عدمه ضمن محفل مرفوض من قبل الطرف الكردي الآخر.
منطق معيب، إيجاد المبررات لمحتلينا على تدميرنا، ولمخططاتهم الدائمة الحضور بالقضاء على قضيتنا كلما نهضنا، ففي عالمنا الحالي، عالم الإنترنيت، وسهولة نقل المعلومات، جميع الأطراف السياسية والإعلامية الصديقة والعدوة تعي بما يجري خلف الكواليس، وتعلم ما يحصل على ساحات بعضهم البعض السياسية أو أروقتها من مؤامرات أو اتفاقيات، وبالتأكيد لم يعد خفيا ما يطمح إليه الكردي، إن تم نشره أو طمسه، وفي البعدين:
1- الحاضر؛ كالعيش مع الشعوب الأخرى ضمن جغرافيات الدول اللقيطة والمسماة جدلا بالوطن.
2- والقادم؛ حيث المطالبة بكردستان الوطن الخالي من العنصرية والاستبداد.
فالحجج التي كان يتمسك بها محتلونا في محاربتنا على مدى قرن وأكثر، على أننا نناضل من أجل تقسيم الأوطان أو الانفصال، الجدليتين الباليتين مفهوما ومعادلة، أصبحتا فارغتين من مضامينها، لذلك ومنذ سنوات يقدمون للعالم تبريرات تتلاءم ومنطق الخلافات الدولية الجارية، كتفتيت الأوطان، أو التعامل مع المعارضة الإرهابية، أو أنهم منظمات إرهابية، وغيرها، لقطع الروابط بين مصالحنا ومصالح الدول العالمية، والتدمير المسبق لطموحاتنا في بناء وطن ديمقراطي مشترك، أو كردستان حضارية دون سلطات شمولية دكتاتورية، وكثيرا ما ينجحون فيها، رغم أن معظم القوى الإقليمية والعالمية تدرك، أنه في شرقنا لا الأوطان أوطان ولا الدول المحتلة لكردستان ذات أنظمة ديمقراطية إنسانية.
أخطاؤنا، والتي هي كثيرة، لا تعطي الأحقية لبعضنا بالتمادي على مكتسباتنا، بقدر ما يحق لبعضنا انتقادها لتصحيحها، ونحن هنا لا نعاتب الأعداء على ما يقدمون عليه، فهم يبحثون عن مصالحهم، رغم أنهم كثيرا ما يستخدمون أقذر الأساليب، وعلينا ألا نتوقع منهم العدالة أو الإنسانية في التعامل، لأننا تأكدنا وبعد مسيرة عقود طويلة من العيش مع محتلينا، أنهم لا ينتظرون أخطاءنا للتمادي، ولا يفكرون على تصحيحها كحسنة نية؛ أو أنهم سيتهاونون معنا في حال قلت أخطاؤنا، بل وبعد تجارب عديدة أصبحنا نعلم أنهم يزدادون شراسة كلما صابت دروبنا، بل العتب على الكردي الأخر المتناسي هذا المنطق.
فمسألة وجود طرف كردي ضمن الائتلاف السوري، لا يعطي المبرر للإدارة الذاتية أو غيرها على معاداتهم وتخوينهم، أو التهجم على حكومة الإقليم الفيدرالي على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول الإقليمية، فهم يمثلون جزء من المجتمع الكردستاني، لهم رؤيتهم وأساليبهم في النضال من أجل القضية، مثلما لا يحق للأطراف الأخرى إعطاء المبررات لتركيا على اجتياح عفرين أو قبلها جرابلس والباب، وفيما بعد ما بين سري كانيه وكري سبي تحت حجة وجود رباط فكري أو إيديولوجي أو حتى كردستاني بين قنديل والإدارة الذاتية، هذه الحجج في الأبعاد السياسية والدبلوماسية المعاصرة أصبحت واهية؛ بل تحمل في طياتها ضحالة فكرية، وقناعات تعكس الجهالة بمجريات الأمور بين الدول، تستخدمها سلطة بشار الأسد؛ والمعارضة؛ وتركيا، وإيران، ونحن بدورنا نساندهم، بشكل أو آخر، بالسذاجة التي نعالج بها قضيتنا؛ وبخلافاتنا بين بعضنا، نحن من نقدم لهم بعضنا طرائد سهلة الاصطياد.
على مدى السنوات السابقة، لم تعط التهديدات والتهم الموجهة لحراكنا بكل أوجهها، نتيجة مفيدة للمتربصين بنا، إلا بعد تفاقم الخلافات بيننا، ومن ثم حدوث التغييرات في المصالح الدولية داخل سوريا، فمع الحجج أو بدونها كانت سلطة بشار الأسد تتهم أحزاب كردية بالخيانة الوطنية، وبمثلها أو دونها، كانت تركيا ستهاجم المنطقة الكردية، العلاقات بين الأنظمة المعادية لكردستان لم تكن سرية، والمصالح لم تكن غامضة بين الدول المعنية، فعن طريق الأقنية الروسية دارت حوارات بين تركيا وإيران والسلطة السورية، ففيما لو أردنا معالجة هذه الإشكالية، أي إشكالية العلاقات الكردية مع القوى الإقليمية، وهيمنة طرف كردي دون الأخر، علينا أن نعالجها بمدى تأثير أخطاءنا على العمق الكردي، ومن ثم مدى استفادة العدو منها وتبرير ما يفعله من الجرائم، فعلينا أن ندرك أن أصرار تركيا على الاجتياح، لن تقطعها عدمية العلاقات الكردية -الكردية، مثلما الحصول على موافقة سلطة دمشق ومعارضتها على الفيدرالية الكردية لا تأتي بالابتعاد عن أمريكا أو ترك الائتلاف أو إقامة الحوارات مع سلطة بشار الأسد حسب المقترحات الروسية.
ومن جهة أخرى، وحيث الوجه الواحد الجامد للمفاهيم، فالعلم الذي يزيل الوجود الكردي لا تغير من المعادلة مع الأعداء بقدر ما يخلق الصراع بين الكرد ذاتهم، ويضعفنا، وضعفنا هي التي تسهل للأعداء على نقل الحجج إلى اتهامات والاتهامات إلى مبررات؛ لتنفيذ مخططاتهم العنصرية، ونحن من جهتنا نحاول معالجة إشكالياتنا بنفس المنهجية التي يريدونها، ونعطيهم الحجج الجاهزة لاتهامنا، فقد كانت المطالب الكردية أكثر من واضحة حتى قبل سنوات الصراع السوري، فلماذا تبين وكأن الأعداء انتبهوا إليها الآن؟
في الوقت الذي يعلم الجميع أن مطالب معظم أطراف الحراك السياسي الكردي، مشروع وطني كان ولا يزال، لكن عندما تهدم قيمها ومفاهيمها، لا بد من تبديلها بعرض المشروع القومي، لإنقاذ ليس فقط الشعب الكردي بل الشعوب الصديقة من براثن الأنظمة الشمولية الدكتاتورية، ومطلب الفيدرالية الكردستانية وبسلطة سورية لا مركزية فيدرالية نابعة من هذا البعد الثقافي السياسي، دونها تلاعب بمفاهيم الأمة الكردية قبل الأخرين. ولإدراك السلطات والقوى الفاسدة هذه المعادلة وللحفاظ على وجودها، تحاول أن تؤثر على المجتمع الدولي:
1- باتهامنا بالعنصرية ومحاولات تفتيت الوطن، وبالإرهاب، وإدراج حراكنا كأدوات بيد القوى الدولية، في الوقت الذين يتعاملون أو يجاهدون للتعامل مع القوى الدولية ذاتها لإبعادهم عن الحراك الكردي، والاحتفاظ بالسلطة.
2- كما وقاموا بنشر الدعاية من العمق الكردي في العمق الكردي، لإقناع البعض منا قبل المتربصين بنا على أن مطالبنا بالفيدرالية ذات الجغرافية الواحدة، والممتدة حتى البحر، كان خطأ، تكتيكي أو إستراتيجي فيما إذا كانت هناك إستراتيجيات كردية، وقع فيه الكرد، أو هناك من دفع بهم لإعلانها، وبالفعل قدم البعض تحليلات سياسية ساذجة، متهما الأطراف التي حاولت إقناع الدول الكبرى بأن مصالحهما تتطلب فيدرالية بحدود على البحر، حيث المد الجغرافي الكردستاني التاريخي، أتهمهم بالضحالة السياسية، وأعطوا المبرر للعدو بضرب الكرد، وفي الواقع لو استندوا على خلفية دبلوماسية معاصرة، لأدركوا أن ما نشرته القوى الكبرى عن الجغرافية الفيدرالية المطلة على البحر المتوسط، ليس بسر، بل كان المشروع الذي تم تداوله بين روسيا وأمريكا، ونوقش مع القوى المعنية بالقضية السورية ومن ضمنهم تركيا، كما ولا يعلموا أن المشروع قدمته القوى الكبرى أمريكا وروسيا في السنوات الأولى من الصراع السوري، وأجرينا حوارات ونقاشات مع اللجان المعنية في الدولتين وغيرها حتى قبل الصراع السوري بسنوات، لكن الكرد الذين يعطون المبرر للأعداء بالاعتداء على جنوب غرب كردستان تحت هذه الحجة، لا يمكن وصفهم إلا بالسذاجة السياسية، والتباهي، ومن جهة أخرى محاولة المخادعة العكسية، أي التحايل على الشارع الكردي، باتهام الحراك الكردي من جهة، وإعطاء التبرير للأعداء من جهة أخرى، تحت غطاء عرض جمل منمقة قومية تم فيها مهاجمة العدو بلكنة دبلوماسية كقولهم، نحن المذنبون فيما يفعله أعداؤنا الشريرون بنا!
لم يعد غريبا أن أغلبية الحزبيين الكرد المخضرمين لا يزالون يتجولون في ساحة المفاهيم السطحية، يتناولون التحليلات السياسية على الخلفيات التي كانت دارجة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كما ورغم استخدامهم اليومي للإنترنيت، لا يدركون أنهم يسيرون على قشورها، يرون بدون معرفة ما بلغته قوة النت، وما لها من تأثير على الإعلام العالمي وبالتالي على العلاقات الدولية، والتعاملات الدبلوماسية، ومدى تطبيق الخطط العسكرية على أسسها، ولا يدركون أن الإستراتيجيات العالمية أصبحت تسير في أبعاد مغايرة تماما للعقود الماضية، لذا علينا ألا نتوقع أن أخطاؤنا هي التي تسمح للأعداء بالتمادي، بل خلافاتنا، وأقصد الساذجة منها، وليست المؤدية إلى تصحيح البعض، وعدم إدراكنا لأساليب الأعداء العصرية، وخباثتهم بحضنا على فعل الأخطاء ذاتها، وبأوجه مختلفة، هي التي تجعلنا مذنبون أمام ذاتنا قبل الأعداء لمطالبتنا بحقوقنا، ومن المؤلم أننا اليوم مثل البارحة لا ندرك ما يخططون له، وما نحن فيه من جهالة سياسية ودبلوماسية، فنظل وبنفس السذاجة نتهم بعضنا ونبرأ الأعداء.