يبدو أننا أمام ظاهرة من الممكن أن تُسمى “شمال سوريا التركية” على غرار “شمال قبرص التركية” التي اجتاحتها واحتلتها تركيا سنة 1974. كافة السياسات والسلوكيات التي تنتهجها تركيا الأردوغانية في المدن والبلدات التي تحتلها في شمال وشمال شرق سوريا توحي بأن أنقرة تتصرف في تلك المناطق وكأنها جزء أصيل من جغرافيتها أو كانها في طور الإعداد لإلحاق تلك المناطق بخريطتها إما رسميا أو بحكم الأمر الواقع.
تتريك شمال وشمال شرق سوريا
منذ ان انطلقت العمليات العسكرية التركية في شمال وشمال شرق سوريا في سنوات 2016 و 2018 و2019 والتي أدت الى احتلال تركيا ما يقرب من 10 آلاف كم مربع من الأراضي السورية، لم تدخر أنقرة جهدا لتكريس الأمر الواقع من خلال تبني وتطبيق سياسات تتريك ممنهجة في تلك المناطق. وهذا بدوره يعكس النوايا التركية المبيتة في المكوث في تلك المناطق والاتكال على احتلالها للحصول على موطئ قدم في سوريا المنهكة من أجل المشاركة مع بقية اللاعبين الدوليين والاقليميين في رسم ملامح سوريا المستقبلية بما يتناسب نسبياً مع الرؤى والأجندات التركية. هذا ما عدا النية التركية المضمرة في قضم تلك المناطق بشكل دائم.
ما أن وطأت أقدام الجيش التركي عديد المناطق السورية المحاذية للحدود التركية منذ 2016، حتى بدأت النوايا التركية تتكشف بشأن تتريك تلك المناطق بهدف ضمها لاحقا الى الدولة التركية. عمدت أنقرة الى تغيير السجل المدني للسكان الأصليين في المناطق السورية التي تحتلها وسحبت البطاقة الشخصية والعائلية السورية من القاطنين في تلك المناطق واستعاضت عنها بأخرى جديدة صادرة من المحتل التركي. باشرت أنقرة بإجراءات اقتصادية وتجارية وإدارية مكثفة بهدف التداول بالعملة التركية بدلا من العملة السورية. كذلك سعت الى تغيير المناهج المدرسية والجامعية وفرض اللغة التركية في كافة المناطق التي تحتلها وشيدت فروعا عدة لجامعاتها في إدلب.
يقول مستشار المجلس الوطني الروسي للشؤون الدولية كبرائيل سيمونوف، “يوماً بعد آخر ثمة إحساس بأن سوريا تفقد إدلب، وأن تُركيا هي الجهة التي ستشغل إدلب لفترة طويلة”. في نفس السياق، قال مؤخرا الباحث في علم الاجتماع السياسي، سميان همواند، في تصريح لسكاي نيوز عربية “تعتبر تركيا بأن أكثر من أربعة ملايين سوري من المُقيمين في مناطق شمال سوريا مهاجرين على أراضيها، يضاف إليهم 4 ملايين داخل تركيا، وهؤلاء يشكلون معا قرابة 8 ملايين سوري، وإذا ما تم تتريكهم لغوياً وثقافياً وإدارياً، فإن قرابة ثُلث سوريا ستكون مرتبطة موضوعياً بتركيا وسياساتها وخياراتها المستقبلية … هناك استراتيجية تركية واضحة وراء كل هذه الخطوات”.
الكورد أكثر المتضررين من سياسات التتريك
عمليتين عسكريتين من أصل ثلاثة التي نفذتها تركيا داخل الاراضي السورية في سنوات 2016، 2018، و 2019 والتي اتاحت لتركيا احتلال حوالي 10 آلاف كم مربع، كانت موجهة ضد الكورد لوحدهم تحت ذريعة محاربة القوات الكردية وتقويض أسس الكيان الكردي المزمع انشاءه بمحاذاة الحدود التركية وفق حجة أنقرة الرسمية. وهذا يكشف النوايا العدوانية التي تضمرها أنقرة حيال التطلعات والمحاولات الكردية في الانعتاق والحرية سواء داخل او خارج تركيا. سياسات التتريك المبرمجة اكتست طابعاً أكثر ضراوة في المناطق الكردية المحتلة في سوريا مثل عفرين وسرى كانيه (رأس العين) وكرى سبي (تل أبيض) حيث أدت الى تشريد عشرات الآلاف من السكان الكورد من تلك المناطق وترحيلهم قسريا وإزالة المعالم الكردية وتغيير الأسماء الكردية للشوارع والمراكز والاحياء واستبدالها بأخرى تركية ورفع العلم التركي وصور اردوغان فوق المدارس والمشافي وكافة المراكز والمؤسسات والساحات بهدف إحداث تغييرات ديمغرافية جذرية هائلة لطمس الهوية الكردية لتلك المناطق وإتخامها بنازحين سوريين موالين لتركيا، وخاصة من التركمان القادمين من المناطق السورية المنكوبة الأخرى.
تجرع الكورد في سوريا النصيب الأكبر من سياسات التتريك أمر مفهوم نظراً لمكابدة تركيا التاريخية من الفوبيا الكردية لما يقارب القرن من الزمان. الذريعة المعلنة المباشرة التي استخدمتها تركيا لتدخلها العسكري في سوريا كانت محاربة قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل القوات الكردية عمادها الرئيسي والتي ترى فيها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا. لكن الهدف التركي الضمني كان وما يزال محاربة التطلعات الكردية في سوريا في الحصول على الحقوق القومية حتى لو كان ذلك في إطار سوريا موحدة، بالإضافة الى الرغبة في ضم الشمال السوري والعراقي بدءا من حلب ومرورا بمناطق شمال وشمال شرق سوريا وصولا الى الموصل وكركوك وإقليم كردستان العراق. هذه الأيام، يلوح اردوغان بالشروع في شن عملية عسكرية جديدة ضد الكورد في سوريا بهدف احتلال مناطق كردية جديدة مثل كوباني (عين العرب) والمضي قدما في تقطيع أوصال الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الكورد بهدف تقويضها تدريجيا من خلال فرض درع تركي داخل الشريط الحدودي السوري إحياءً لما ورد في الميثاق الملي العثماني الذي انطلى على معظم الكورد أثناء صدوره.
الميثاق الملي 1920
ما يجعل ظاهرة الاحتلال والإلحاق التركي الهادئ والناعم، إن صح التعبير، لعديد المدن والبلدات والقرى في شمال وشمال شرق سوريا أمر حيوي ومصيري ولا يقبل التأويل بالنسبة لتركيا هو الأساس النظري والذهني الشعبوي المشبع في العقل السياسي النخبوي والجمعي التركي لمثل هكذا نوازع. “الميثاق الملي” أو “الميثاق الوطني” الذي وضعه الآباء المؤسسين للجمهورية التركية سنة 1920، هي الوثيقة التي يتذرع بها أردوغان لتسويغ سياساته العدوانية في سوريا والعراق، بما في ذلك كردستان العراق وكردستان سوريا، وتراقيا الغربية وبحر إيجا وشمال قبرص. في 2016 عندما تم استبعاد تركيا من المشاركة في الحملة التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، جن جنون الرئيس التركي وذكر بشكل علني ولافت “الميثاق الملي” قائلاً ” عليهم قراءة الميثاق الملّي ليفهموا معنى الموصل بالنسبة لنا … الموصل كانت لنا”.
في أعقاب ذلك مباشرة، نشرت كبريات الصحف التركية خريطة المنطقة المثيرة للجدل وفق “الميثاق الملي” وفيها يتم اقتطاع أجزاء كبيرة من سوريا والعراق وأجزاء أصغر من اليونان وأرمينيا وإيران وجورجيا وبلغاريا لصالح تركيا. علماً ان “الميثاق الملي” الذي تبناه “البرلمان العثماني” والمعروف باسم “مجلس المبعوثان” في عام 1920 بإيعاز من القائد العسكري التركي مصطفى كمال والذي عُرف لاحقاً باسم “أتاتورك” أي أبو الأتراك، قد تم التخلي عنه من قبل الأتراك أنفسهم في مؤتمر لوزان سنة 1923. نصَّ المؤتمر المذكور منح كامل منطقة الأناضول للدولة التركية الحديثة مقابل اعتراف تركيا الجديدة بحدود الدول المستقلة عن الامبراطورية العثمانية بما في ذلك سوريا والعراق، وبذلك تم نسف “الميثاق الملي” من قبل الحلفاء المنتصرين وتركيا المهزومة على حدٍ سواء.
المطلوب عربياً وكردياً
المطلوب أو على الأقل المتوقع من جميع المناوئين للاحتلال التركي في سوريا توحيد وتكثيف الجهود التي من شأنها رصد سياسات التتريك في المناطق السورية المحتلة بهدف فضحها وتعريتها من خلال التنسيق مع جميع منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية وغيرها لتأليب المجتمع الدولي ضد الممارسات التركية الشنيعة. كذلك متوقع من جامعة الدول العربية تبني موقف واضح وصريح ضد الاحتلال التركي في سوريا والعراق وطرح هذه القضية المصيرية في الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي بهدف استصدار بيان أو قرار رسمي من المنظمتين يطالب تركيا بالخروج من تلك المناطق. شن عمليات عسكرية نوعية من قبل المقاتلين الكورد والعرب والسريان والآشوريين في سوريا ضد الاهداف التركية داخل الاراضي السورية التي تحتلها أنقرة بهدف تأليب الرأي العام التركي ضد التورط التركي في الشأن السوري. قيام حكومة بغداد وحكومة إقليم كردستان بطرح موضوع الاحتلال التركي لمناطق شاسعة في العراق واقليم كردستان في المحافل الدولية بهدف تشكيل المزيد من الضغوطات على انقرة بغرض الانسحاب من تلك المناطق. التلويح بالمقاطعة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية العربية وخاصة من قبل مصر والسعودية والإمارات ضد تركيا كنوع من الضغط بهدف إرغام أنقرة على الانسحاب من الاراضي السورية والعراقية المحتلة.
يشهد التاريخ بأن كل منطقة غزتها واحتلتها تركيا، بصرف النظر عن الذريعة، تأبدت فيها وألحقتها بدولتها المشيدة على عذابات الآخرين. لواء اسكندرون التي ابتلعتها تركيا سنة 1939 وشمال قبرص في عام 1975 وعديد المناطق التي تحتلها في اقليم كردستان العراق غيض من فيض الشراهة التركية لقضم وابتلاع اراضي الآخرين، خاصة الضعفاء والمتشرذمين، وكالعادة بواسطة بعض الخونة والعملاء والبيادق.
نعم نحن اليوم أمام سورية “التركية” والعراق وإقليم كردستان “التركية” كما كنا بالأمس أمام شمال قبرص “التركية” وفي القرن المنصرم أمام لواء اسكندرون “التركية”. النهم التركي في ابتلاع اراضي الآخرين لن يُكبح جماحه سوى بالمقاومة الشاملة وعلى جميع الصعد وإلا سنشهد الذئب التركي الغدار، على غرار جاره الثعلب الإيراني المكار، ينهش بأجسادنا الواحد تلو الآخر.