طاهر علوان
لم يكن ولا يجب أن يكون المسرح معزولاً عن الواقع والحياة، هي تلك القوة الفاعلة التي تجعل من الأحداث التي تشاهدها على أنّها ليست من الترف ولا الترفيه ولا التجريب الذي يحاول جاهداً أن يجد له طريقاً في الذائقة الجمالية وفي أساليب التعبير.
**
يدرك الصديق العزيز المخرج المسرحي العراقي كاظم النصّار هذه المعادلة منذ عقود حتى شاب شعره وهو يتفقّد ميكانيزمات مسرحه الخاص الذي استمد جمالياته من خميرة المسرح العراقي ومنجزه التاريخي المتراكم منذ خمسينيات القرن الماضي.
وبعد هذا فإنه من فئة المخرجين الأوفياء للآباء المؤسسين وحافظ على تلك الروح الواقعية بكل تفان ووفاء لكنه لم يترك قط في ذات الوقت الأساليب التعبيرية في المسرح المعاصر ولا انقطع عنها.
هذه المقدمة وجدتها ضرورية وأنا اشاهد أحدث الأعمال المسرحية التي أخرجها وهي مسرحية ” حياة سعيدة” للمؤلف المسرحي المثابر علي عبد النبي الزيدي الذي يستحق وقفة خاصة أيضا.
**
يحتفي كاظم النصار وعلي الزيدي وفريقهما المحدود على الخشبة – ثلاث شخصيات رئيسية وواحدة ثانوية، بالحياة، فالعمل في خلاصته ما هو الا دورة الحياة، التكوين، الانشغالات الهامشية، التلاقي بين الذكر والأنثى كبديل لحياة مشبعة بالعنف، انها استعارة مجرّدة لحياة تخفي لحظاتها السعيدة وتغلّفها بغلاف سميك وقاسٍ من المعاناة وبهذا خاض الثنائي المؤلف والمخرج في جدلية السعادة واشكاليتها الفلسفية وليس مظهرها المجرد
**.
فرحان وفرحانة ، وهما الشخصيتان الرئيسيتان، واسميهما لوحده التفاتة ذكية، يريدان تمضية أحلى ليلة في حياتهما وهي ليلة زفافهما بعيدا عن دائرة الموت والخوف والانفجارات فلا يجدان ملاذا عشوائيا سوى غرفة او منزل لأنشا مجهولين لنها غرفة عرس كأنّها معدّة لهما لكنهما يفاجآن بدخول صاحب المكان واصراره على أن ينجزا ما هما قادمان من أجله في أقرب وقت ويغادرا المكان لأنه مكانه وتلك هي ليلته، وهكذا تتوالى زيارات صاحب المكان وتدخلاته التي تمزج الفانطازيا بالكوميديا السوداء بالخيال بالتراجيديا.
**
هذه هي الأرضية التي بني عليها هذا النص والعمل المسرحي وعنوانه كما أرى هو ( البساطة ) المفضية الى البلاغة، البساطة في الثيمة والبساطة في البناء الدرامي وتشكّلاته ثم البساطة في الشكل الاخراجي والتعبيري وهو ما تضافرت فيه رؤى كاظم، المخرج وعلي المؤلف.
**
عن لبوة عرب
أما اذا انتقلنا الى التشخيص، فنحن أمام ممثلة استثنائية بكل المقاييس وهي التي أدت دور فرحانة وهي الممثلة لبوة عرب، التي لم اشاهد لها عملاً من قبل وإذا بي أمام ممثلة رصينة وموهوبة، عندها القدرة على الانتقال المتقن بين الحالات والمواقف، تخدمها خامة صوتية قوية قادرة على التعبير العميق عن الذات بما يحتاجه المسرح من حوار، لبوة تذكّرني شخصياً بنجمات المسرح الشكسبيري من وزن كاثرين هانتر، وفيفيان لي وفيونا شو وشيلا الين نورا نيكلسن وغيرهن.
هذه الممثلة البارعة تستحق مزيداً من الاعمال المسرحية الرصينة التي تظهر عمقها الإبداعي وطاقتها وقدراتها التعبيرية.
بالطبع يكمّل دور لبوة الممثل المعروف تلفزيونيا ومسرحيا حسن هادي الذي يؤكد في هذا العرض انه يتقن تلك الاسرار العميقة للشخصية وهي تتنقل بين اقصى السكون الى اقصى حالات التعبير وهي انتقالات عبر عنها بموضوعية.
**
ختاما
وأنا أحضر مسرحية حياة سعيدة، لا يكفي أن اثني على ابداع الكاتب المبدع علي الزيدي فهو حقا من فئة الكتّاب المسرحيين الذين يحقّ لنا ان نفتخر بهم في اتقانه لوظيفة التأليف الواعي للشكل المسرحي المعاصر.
وأما كاظم النصّار فهو لا يحتاج مني أن اثني على تاريخه ومنجزه، لكنه يستحق من الجميع أن يشيروا اليه أنه واحد من ورثة المسرح العراقي بجدارة وهو يحمل تلك الشعلة بمثابرة ومسؤولية وتواضع.
كاظم النصار، مخرج موهوب ومثقف وواعي لاشتراطات المسرح المعاصر، صقلت خبرته التجارب وكثرة المشاركات والتأني وحُسن الاختيار للنصوص، الى درجة أنك تستطيع ان تدخل أي عمل مسرحي من إخراجه وانت واثق بأنه لن يخذلك و انه سوف يقدم عملاً رصينا جديراً بالمشاهدة.
..
• كلمة أخيرة لابدّ منها،
• وبرقية الى دائرة السينما والمسرح:
• أود في ختام كلمتي عن هذا العرض المسرحي أن اشير لبضع نقاط، أولها أن مكان العرض لم يكن مناسبا على الاطلاق واني استغرب من قبول مؤسسة ( عملاقة ) لديها إمكانات دولة وتابعة للدولة ان تتعامل مع العمل المسرحي بهذه اللامبالاة وهذا الاستخفاف المخجل والعجز عن الترويج له والاكتفاء بعرضه لثلاثة ايام وبدخول مجاني، يا للهول!.
• لم اشاهد اعلانا واحدا في أي ركن من اركان المسرح الوطني ولا خارجه ولا في أي مكان عن ذلك العمل المسرحي واني أتساءل هنا الا تملك هذه المؤسسة العملاقة ما يمكنها من صناعة إعلانات كافية عن المسرحية الا اذا كانت متعمدة في التعتيم على العمل وتلك كارثة وفعل مرفوض باعتبار ان وزارة الثقافة ودائرة السينما والمسرح حاضنة للابداع ودعمة له وهو من ابسط واجباتها على الاطلاق وخلاف ذلك تصبح بياناتها عن الابداع محض انشاء لا أساس له من الواقع في شيء.
• ثم اثار استغرابي اختيار ذلك المكان من مبنى المسرح الوطني لتقديم العمل وهو مكان غير مناسب بالمرة، كراس بلاستيكية بائسة يجرها بعض الجالسين عليه وتطلق أصواتا تشوّش على العرض بالإضافة الى الأرضية غير المناسبة بالإضافة الى التجاور غير المقبول بين الخشبة ومكان جلوس الجمهور ومن ثم الفقر في السينوغرافيا وواضح انه لاسباب إنتاجية وهو عيب آخر يؤشر على المؤسسة ذات الاف الموظفين والمسارح الضخمة انها عاجزة عن تقديم عمل مسرحي سينوغرافيا بشكل متقن وفي قاعة مناسبة.
**
• تحية ومحبّة كما يجب لصديقي المبدع المثابر العزيز كاظم النصّار الذي عانقته وعانقني بعد انتهاء العرض بعد سنوات مرّت لم نلتق فيها.