البرلمانات هي غطاء الأنظمة الدكتاتورية، بعكس الديمقراطية، متعددة الأوجه، وخاصة في دول العالم الثالث، المعانية من الصراعات الإثنية أو المذهبية، ومن بينها المحتلة لكوردستان، تحت سقوفها تم تشويه المفاهيم الديمقراطية ومنهجياتها. أكثرها طغيانا أوسعها تبجحا بالديمقراطية، كالأسد المقبور الذي كان يدعي أن سوريا أحد أفضل الدول الديمقراطية، ومثاله؛ على أن سبع أطراف سياسية تشترك في الحكم، بينهم أحزاب معارضة، كالحزب الشيوعي. وعن خليفته تكاد الكلمة واللغة عاجزة عن تقييم برلمانه أو كما يقال مجلس الشعب، أخر تشكيلة له وطريقة استقبالهم لمجرم سوريا الأول بشار الأسد خير مثال، لم يتجرؤوا حتى التطرق إلى ما جرى من الدمار في سوريا، وعن القضية الكوردية كان حديثه، الذي لم يختلف عن والده ومنهجية البعث، باستثناء أنه لم يتمكن من عدم ذكر الكورد كما في السابق، هو الدستور الفاصل لجميع الأعضاء. ومن الغرابة أن الإدارة الذاتية في غرب كوردستان، من حيث المنهجية تعيش الواقع المتناقض ذاته، حيث التضارب الحاد ما بين النظرية والعمل.
برلمانات هذه الأنظمة في الواقع العملي تمط الديمقراطية أو تضييقها حسب أهواء ومصالح القوى المركزية والمهيمنة على الساحة السياسية، وجلها تعكس الوجه الواحد وهو الرافض للكورد قبل المعارضة، والبرلمان العراقي الحالي، الوحيد بين الدول الأربع المحتلة لكوردستان تعكس مكوناته هذا البعد، على خلفية دستوره المعترف بالكورد وقضيتهم، حيث الوجه الديمقراطي نظريا والعنصري عمليا. تحتلها المعارضة التي كانت في السابق عميقة العلاقات الحسنة مع القضية والقوى الكوردستانية، أصبحت تحت قبتها تمارس منهجية البعث بأساليب مختلفة، ورغم أنها أفضل البيئات مقارنة بالأخرين، إلا أن المكون الكوردي بأحزابه المتصارعة؛ يكافح وعلى مدى العقدين الماضيين، من أجل تلطيفه، وتنقية قاعات برلمانهم المليء بالحقد والكراهية، لتحقيق ما رسخ في الدستور بعد سقوط صدام حسين، والتعامل بالبعد الوطني مع تسلط المكون الشيعي الرافض ليس فقط لأمال الشعب الكوردستاني بل كل ما لا يدرج في سياق منهجية المرجعية الشيعية.
للدول المحتلة لكوردستان ازدواجية غريبة، وجدلية خاصة حول الديمقراطية، من النادر أن يكون لهم شبه في العالم، الدول الأربع تدعي الديمقراطية والتمسك بدساتيرها، تنعدم في متنهم وبنودهم الوجود الكوردي، شعباً وقضية.
ففي تركيا، ما أعطي للكورد بعض الحقوق في المجالات اللغوية والإعلامية كانت بقرارات رئاسية استثنائية، لم يتطرق إليها الدستور ولا البرلمان، وهي في مساحات خاصة، قد تلغى فيما لو تغيرت القوى السياسية الحاكمة، وما يطرحه البعض من الكورد، مفهوم التعامل مع العدالة والتنمية على النهج الإسلامي، على أنه حزب ونظام لا يعادي الكورد كشعب، بل صراعهم مع حزب العمال الكوردستاني، متناسين أن نفس الديمقراطية التي مهدت لهذا الحزب بالتحكم والسيطرة على البرلمان، وفتح هذه البوابات الضيقة للكورد كخدع انتخابية، أضاف على خلفيته قرابة 50 نائبا كورديا لصالحه، قد تزال المكتسبات مع ضمور الحزب، ونتذكر كيف تقلص حزب تورغوت أوزال بعد وفاته، وعليها فمن شبه المستحيل توقع أمل من البرلمان التركي قبل أن تفرض القوى الكوردية ذاتها، وتتغير الثقافة السياسية في الدولة بشكل عام.
وفي إيران، حقوق جميع القوميات معدومة تحت أحكام الفقه وشريعة الأمة الإسلامية، يدرج أنه من ضمنهم حقوق الأمة الفارسية، في الوقت الذي يتحكم فيه ولاية الفقيه (الفارسي الثقافة والمنبت) بالشريعة والفقه والدستور، وما يصدر عن برلمانهم أحكام فارسية لصالح مكون القومي تحت غطاء المذهب الشيعي، وكان حكم أية الله الخميني على مطالب الكورد بالكفر مبنيا في عمقه على هذه المرجعية الذهنية، دعم بقرار البرلمان المتشكل بعد سقوط نظام الشاه، والذي تم فيه تكفير الثوار الكورد بغطاء الشريعة، علما أن القوى الكوردية كنت تطالب بالعدالة الإسلامية وأحكامها، حيث المساواة بالقومية الفارسية الحاكمة، وهو المنطق الديمقراطي الإسلامي والمنهجية التي ظن الكورد أن ولاية الفقيه بنى عليها البرلمان الجديد، لكن تم تكفيرهم ضمن قاعاتها وأجرم به الشهيد عبد الرحمن قاسلمو، وكان الحكم على قدر فظاعة التخوين الذي أتهم به الشهيد قاضي محمد.
عديدة هي المحطات التي تمر خلالها برلمانات الدول المحتلة لكوردستان، من الثقافة التي يحملها البرلمانيون أو الكتل المتشكلة فيها، إلى هشاشة تقديرهم وتمسكهم بالدساتير الصادرة من قاعاتها، إلى الشرخ الواسع بين أقوال النواب وأفعالهم؛ خاصة عندما تمس الإشكالية مستقبل الأمة الكوردستانية، وقضيتهم القومية، إلى جعلها دائرة تنفذ رغبات القوى الطاغية.
الانتخابات العراقية الأخيرة:
على مدى العقدين الأخيرين أثبت الشعب الكوردي في العراق وعن طريق الانتخابات البرلمانية على أنهم الأغلبية المطلقة ليس فقط في كركوك بل وفي جميع المناطق المسماة جدلا بالمتنازعة عليها، رغم المسيرة الطويلة والمؤلمة من عمليات التعريب والتهجير والأنفال، مع ذلك لا تزال أغلبية برلمانيي المكون العربي بشيعته وسنيته مصرين على نفي الحق الكوردي فيه، إلى درجة أن أحد أعضاء البرلمان من المكون الشيعي (حنان الفتلاوي) افتخرت علناً، قبل سنوات، على أنها عرقلت تنفيذ البند الدستوري رقم 140 لئلا تنضم المنطقة إلى الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، وفي الواقع مثل هذا الفعل في الدول الديمقراطية الحضارية طعن في الدستور، وفي البعد القانوني خيانة وطنية يحاكم عليها، ويطرد من البرلمان بل وقد يسجن لسنوات، لكنها أدرجتها على أنها قامت بعمل وطني، ووطنيتها كانت من منطق محاربة الكورد. هذا المثال يعكس الوجه الحقيقي الذي يمثله أغلبية أعضاء البرلمان العراقي الماضي والحالي، والوطني النزيه لا صوت له ولا قوة على التغيير.
قبل سنوات نقض البرلمان العراقي، وبعدة قرارات جائرة استفزازية، استفتاء الشعب الكوردي على مسيرة الاستقلال، وتحركت إقليميا ودوليا لمحاربته، هادما بها أحد أهم صروح الديمقراطية، وهو رأي الشعب، ليس فقط الأكثرية والأقلية، بل الأغلبية المطلقة، والبرلمان ذاته الذي لا يزال يجمد القرار ليس فقط البند 140 من الدستور، بل قرابة 55 بندا دستوريا حول العلاقات بين حكومة الإقليم الفيدرالي الكوردستاني والنظام المركزي في بغداد.
نفس البرلمان تم الصراع الانتخابي عليه مرة أخرى وملئت قاعاته بأوجه جديدة وقديمة، وعلى الأغلب ستستمر المسيرة ذاتها، وسيتكرر الصراع، وسيظل المكون الكوردي الأقلية بين المكونين الشيعي والسني، وبالتالي ستظل القضية الكوردية في خضم ازدواجية الديمقراطية والعنصرية، ولن تؤدي إلى نتائج إيجابية، خاصة وأن القوى الكوردية على خلاف.
في الواقع الإقبال الكوردي على الانتخابات كان هزيلا مقارنة بالمرات السابقة، ففي بعض المناطق لم يتجاوز النصف، مع ذلك فعدد البرلمانيون ظل كما هو، لأننا هنا نتحدث عن مناطق كوردستان، البرلماني الكوردي سينجح؛ مهما كانت النسبة قليلة؛ إن كان من الديمقراطي أو الإتحاد أو كوران أو غيرهم، مثل البرلماني الشيعي في مناطق البصرة والنجف والكوفة وغيرها، والإشكالية ليست في عدد النواب، بل في الخلافات بين الكتل الكوردستانية، ومدى قدرتهم على تحقيق مطالب الشعب، وبالتالي دعم الشارع الكوردستاني لهم، وقلة الإقبال في المناطق الكوردية هي دلالة عدم الثقة بجميع الأحزاب، وبقدرات ممثلهم، على تغيير المعادلة وتصحيح المسار.
برلماني اليوم هو ذاته السابق، أو المشابه له من حيث إمكانيات القدرة على التغيير ضمن البرلمان، أو إنجاح المسيرة الكوردستانية ضمن أو خارج العراق المركزي المتحكم به المكون الشيعي، الذي لم يتمكن المكون الكوردي فيه من رفع الحصار الاقتصادي عن الإقليم، ولا منع السلطة من الحجز على رواتب موظفيه والبيشمركة، ولا يوم تم فيه تقليص الميزانية من 16% إلى أقل من 12%، ولا أخذ قرار من البرلمان لإيقاف احتلال الحشد الشعبي لكركوك والمناطق الأخرى المتنازعة عليها، ولا من تحريك البرلمان للحد من خسارة الإقليم لثلث مساحتها جغرافيا وديمغرافية، وهو ما أدى ليس فقط في تخفيض الحصة من الميزانية العامة بل مطالبة السلطة المركزية بعائدات النفط والبوابات الحدودية أيضا.
القضية ليست في قاعات البرلمان، وهي مسيرة لا بد منها، بل في المنهجية التي يتم التعامل به أعضاءه مع قضايا الشعب ومن بينها الكوردية. وليس في مسيرة الانتخابات والتي لها إيجابياتها، بل في مدى تجاوز القوى السياسية لمنطقته، وهذه تعتمد على مدى تحسينهم معيشة الشعب، وتطوير المنطقة، بحيث تؤثر على ذهنية الجماهير في المناطق الأخرى، والتي تأمل بقدرة هذه القوى في تحسين ظروف المعيشة، أي النزاهة التي تحصل عليها القوى السياسية الراعية لهؤلاء الممثلين، وهو ما لم يحصل عليه أية قوة كوردستانية.
تبين أن الصراع ظل محصورا بين القوى الحزبية الكوردستانية، والتي أدت إلى بعض التغيرات في نسبة ممثليهم، لكن هذه القوى لم تغير من المعادلة المناطقية المترسخة، أي أن الإقليم ورغم التطور العمراني مقارنة بكلية العراق، لم تتمكن من التأثير على الصوت الانتخابي خارج مناطقها. لهذه دلالات عدة، منها:
1- هيمنة الثقافة المذهبية والقومية مقارنة بمفهوم الوطن العراقي، وهي البيئة التي ترشح نوابها الذين يعكسون الذهنية ذاتها.
2- عدم قدرة الكورد على ترسيخ الثقافة الوطنية التي كانت تدعيه نفس القوى يوم كانت تمثل المعارضة، وتمسكهم بالبعد الوطني دون دراسة البعد الثقافي.
3- الأخطاء المتكررة منذ إقامة النظام الفيدرالي إلى الأن، المؤدية إلى ضعف القوى الكوردية في العراق، رغم أنهم كانوا العنصر الأقوى في معادلة تغيير العراق.
وبالتالي فالمكون الكوردي سيواجه ثانية تحت قبة البرلمان العراقي المعادلة العنصرية ذاتها، والصراع ذاته سيتكرر، مضاف إليه أن السلطة المركزية، أي كان رئيس الوزراء، كلما قويت ستزيد من محاولاتها تضيق الخناق على الإقليم، وتقليص مكتسباتها كإقليم فيدرالي، فالثقافة المترسخة تحتاج إلى عقود من التلطيف والتشذيب قبل أن تتغير مواقفها من البعد العنصري إلى المجال الوطني.
وأفضل الحلول ليست تحت قبة البرلمان، بل في الشارع الكوردستاني، وتقوية الداخل حزبيا، وإداريا؛ الحد من البيروقراطية والفساد والمعاملة الفوقية مع العامة. والأهم تحسين معيشة الشريحة المعانية؛ والاهتمام بالريف، وتطوير البنية التحتية للإقليم. ومن البعد السياسي محاولة تقريب المواقف بين القوى الحزبية، لئلا تتكرر تجربة وقف البرلمان لشهور، والذي أصبح مشابها لبرلمانات الدول المذكورة. وتوسيع العمل الدبلوماسي مع القوى الكبرى، وتقريب المصالح، ومحاولة إقناعهم بإيجابيات قادم كوردستان.
الولايات المتحدة الأمريكية