هل امرؤ القيس من أهل الجنة /
في سياق وأنساق التأثيم والتعظيم
حمود ولد سليمان
“غيم الصحراء”
قال لي وكنا ممتطين تاكسي قاصدين توجنين .وقد لاحت منه إلتفاتة هذا ليس جديرا بك أن تضيع فيه وقتك إنه كفر وحرام ولايفيدك في شيء .كنت أحمل معي رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ التي اشتريتها من معرض الكتاب
قلت له ما زلت لم أقرأها بعد .قال لي : نجيب محفوظ هذا لاخير فيه لقد أهدر دمه في مصر بسبب
الكتاب الذي في يدك .يقولون عنه إنه زنديق ومارق علي الدين .وأردف ليس حريا بك أن تقرأه
عليك ان تقرأ الشعراء الجاهليين امرؤ القيس وأصحابه .والعصرين الأموي والعباسي. ودعك من هذا الهراء
كان الوقت مساءا وقد بدأت ظلال النهار تتواري وتنخسف مع الغروب.وكان صاحبي “الرواقي “لايزال يقلب الكتاب بين يديه وهو يسب محفوظ .لم أشأ أن
أقاطعه وتركته يتحدث .وبقيت صامتا وأنا أصغي له
وأسأل نفسي
عن أحكام الذائقة الأدبية وارتباطها بالثقافة والعصور .وعلاقة الأدب بالدين والحدود بينهما وما الذي يحدد جمالية النص الأدبي .ولماذا أنساق التأثيم والتعظيم تصاحب الذوق الأدبي عند البعض .وتحده وتحدد حكمها عليه ؟ قلت له لكن نجيب محفوظ مع ذالك يبقي مسلما وامرؤ القيس ليس كذالك .وتذكرت أن شيوخنا وفقهائنا كثيرا ما يرددون شعر امريء القيس في المساجد ويستشهدون به إعجابا في الوقت الذي يري فيه هؤلاء الفقهاء أنه حامل لواء الشعر إلي النار كما في الحديث (المشكوك في صحته )
امرؤ القيس بن حجر الكندي .الملك الضليل الذي لايتورع في غزله عن فحش الكلم والذي يقول :
جَزَعتُ وَلَم أَجزَع مِنَ البَينِ مَجزَعا
وَعَزَّيتُ قَلباً بِالكَواعِبِ مولَعا
وَأَصبَحتُ وَدَّعتُ الصِبا غَيرَ أَنَّني
أُراقِبُ خُلّاتٍ مِنَ العَيشِ أَربَعا
فَمِنهُنَّ قَولي لِلنَدامى تَرَفَّقو
يُداجونَ نَشّاجاً مِنَ الخَمرِ مُترَعا
وَمِنهُنَّ رَكضُ الخَيلِ تَرجُمُ بِالفَن
يُبادِرنَ سِرباً آمِناً أَن يُفَزَّعا
وَمِنهُنَّ نَصُّ العيسِ وَاللَيلُ شامِلٌ
تَيَمَّمُ مَجهولاً مِنَ الأَرضِ بَلقَعا
خَوارِجَ مِن بَرِّيَّةٍ نَحوَ قَريَةٍ
يُجَدِّدنَ وَصلاً أَو يُقَرِّبنَ مَطمَعا
وَمِنهُنَّ سَوفُ الخودِ قَد بَلَّها النَدى
تُراقِبُ مَنظومَ التَمائِمِ مُرضَعا
تَعِزُّ عَلَيها رَيبَتي وَيَسوؤُه
بُكاهُ فَتَثني الجيدَ أَن يَتَضَوَّعا
بَعَثتُ إِلَيها وَالنُجومُ طَوالِعٌ
حِذاراً عَلَيها أَن تَقومَ فَتُسمَعا
فَجاءَت قُطوفَ المَشيِ هَيّابَةَ السُرى
يُدافِعُ رُكناها كَواعِبَ أَربَعا
يُزَجِّينَها مَشيَ النَزيفِ وَقَد جَرى
صُبابُ الكَرى في مُخِّها فَتَقَطَّعا
تَقولُ وَقَد جَرَّدتُها مِن ثِيابِه
كَما رُعتَ مَكحولَ المَدامِعِ أَتلَعا
وَجَدِّكَ لَو شَيءٌ أَتانا رَسولُهُ
سِواكَ وَلَكِن لَم نَجِد لَكَ مَدفَعا
فَبِتنا تَصُدُّ الوَحشُ عَنّا كَأَنَّن
قَتيلانِ لَم يَعلَم لَنا الناسُ مَصرَعا
تُجافي عَنِ المَأثورِ بَيني وَبَينَه
وَتُدني عَلَيَّ السابِرِيَّ المُضَلَّعا
إِذا أَخَذَتها هِزَّةُ الرَوعِ أَمسَكَت
.بِمَنكِبِ مِقدامٍ عَلى الهَولِ أَروَعا
ورغم غزله الصريح لم يحاكم علي فحش كلمه فهو يحظي بتقدير كبير لمافي شعره من
عناصر قوة من حيث اللغة بغض النظر عن مضمونه وكثيرا ما نري أنصار الشعر القديم المنافحين عنه يلزمون النقد بفصل الشكل عن المضمون حينما يتعلق الأمر بالأدب الجاهلي .فنراهم يقولون بفصل الدين عن الأدب .ولاتنطبق هذه القاعدة في الذائقة الأدبية الموريتانية علي كل العصور الأدبية وإنما فقط علي العصر الجاهلي !
فكثيرا مايدان أدب عصر النهضة وما أتي بعده ببعدهما وتحررهما من الدين بحجة أو أخري في الوقت الذي نري فيه التعظيم من المؤسسة النقدية التقليدية للأدب الجاهلي .
في كتابه القيم الثابت والمتحول /بحث في الابداع والإتباع عند العرب يتفطن آدونيس لهذه المسألة .فيري أن :
(“والواقع أن الذين نظروا للشعر العربي بدءا من القرن الثاني الهجري اعتبروا أن الشعر الجاهلي أصل وأن الشعر الإسلامي تنويع عليه ويتضمن هذا الموقف ازدواجية ثقافية .فقد كانت تتعايش في ذهن العربي ثقافة دينية تناقض الجاهلية وثقافة شعرية قائمة جوهريا علي الجاهلية ./الثابت والمتحول .آدونيس .طبعة أولي .دار العودة .1977.ص 37) وقد ارتسمت
لهذا القديم “الأدب الجاهلي ” هالة من التقديس .في أذهاننا لأنه أرتسم في “بعد قيمي هو الكمال
.ذالك أن المدافعون عنه قد أضفوا عليه (خصائص القدم بالمصطلح الديني الفلسفي وفي طليعتها الثبات والكمال”
الثابت والمتحول /آدونيس .جزء /2 ./ص126)
أنساق التعظيم والتأثيم بمختلف تمظهراتها في الأدب ليست إلا تجلي من تجليات الثقافة العربية المنتظمة في الإطار المرجعي .المؤسس الأول ./القديم/الأصل /المقدس .والأدب والشعر بالأخص باعتباره يعكس صور الثقافة العربية الناصعة ويحظي بالتعظيم ينبغي أن يكون مقلدا للقديم وخروجه عليه خروج علي الدين
الثقافة العربية في بنيتها ثقافة محكومة بتقييدات النص/ الفضاء الذي تأسست وتشكلت فيه إبان عصر التدوين
والذي وسمها بطابع الفقه .وجعل منها “حضارة فقه ” كما يقول المرحوم محمد عابد الجابري .
أنساق التأثيم في الأدب ليست وليدة اليوم .فقدشهدها العصر الإسلامي .ينسب للبيد بن ربيعة رضي الله عنه أنه قال بعد إسلامه :ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله سورة البقرة وآل عمران
يري البعص أن الإسلام اتخذ موقفا سلبيا من الشعر والأدب ويسوق الحديث” لأن يمتلأجوف أحدكم قيحا خيرله من ان يمتلأ شعرا “.مع ان الشراح يقولون إن المراد بالشعر هنا السب و الهجاء والمفاخرة والاشتغال عن القرآن الكريم بالشعر
في حين يري آخرون أن هذا الموقف موقف متحجر ولايستند إلى أي أساس وأنه باطل .وان الاسلام لم يحجر علي الناس في الثقافة والأدب والجماليات .
وأن الأحاديث الواردة في ذم الشعر ليست صحيحة ولم يقلها رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم .
المفارقة الغريبة أن انساق التعظيم هي تلك التي تحتفي وتقلد وتتمثل القديم الجاهلي والذي هو في مجمله ليس إسلاميا وبعيد كل البعد من الإسلام !ومع ذالك يحظي
بالتقدير الكبير والهيبة في المخيال العربي الإسلامي
والذائقة النقدية .
.الأمر الذي يستدعي في نظرنا البحث أ كثر في جذور
سياق وأنساق التعظيم والتأثيم في الثقافة العربية . وإسقاطاتهما علي الأدب
ظل صاحبي يتحدث عن شواهد الأدب الخالد .
غير اني كنت مشغولا بإعتزازه بامرئ القيس وأسأل نفسي
وأفكر أن أسأله مرة أخري :هل امرؤ القيس من أهل الجنة ؟!