لم أرَها مطلقًا. لكنني أعرفُها من ثمارها. “من ثمارهم تعرفونهم”. رأيتُ وجهَها في وجوه بناتها وأبنائها. وتعرفتُ على حنانها وطيبتها من خلالهم. كانت لأبنائِها السبعة أمًّا وأبًا، بعدما رحل الأبُ في طفولتهم. فأخرجت من بين يديها أطباء ومهندسين زيّنوا وجهَ مصر البهيّ. وحين صار ابنُها الأصغرُ في الصفّ الثالث بكلية الهندسة، رحلت عن هذا العالم في هدوء وصمت، فانهدم العالمُ أمام عينيه. كانت بالنسبة له العالمَ بأسره: الأمّ والسند والصديقة والحبيبة. وكان لها الابنَ المدلّل بوصفه “آخر العنقود”. صعدت روحُها للسماء صباحَ يوم شتويّ قاسٍ، بينما كان الابنُ يستعدُ لأداء امتحان نصف العام في مادة الإنشاءات. الحزنُ صعبٌ والامتحانُ صعبٌ. وضعه القدرُ بين نَصليْن حادّين. إما الاستسلامُ للحزن على أمّه وسنده الأوحد في الحياة، والتخلّف عن الامتحان، أو الربط على القلب الموجوع لإسكات نحيبه، واستعارة قلبٍ جامد ليس يملكه، والذهاب إلى الامتحان الصعب. واختار الصبيُّ البديلَ الأخير، لكي يحافظَ على تفوقه فلا يُخيّبُ رجاءَ والدته الراحلة. دخل قاعة الامتحان ورمق ورقة معلقة على الباب مكتوبًا عليها خبر رحيل والدته فأشاح وجهَه وكأن الأمرَ لا يعنيه. تجاهل كلماتِ العزاء من زملائه وأساتذته واتجه مباشرة الى طاولته ليؤدي الامتحانَ صامتًا ثم خرج من الكلية، وركض إلى بيته وقد خانته الدموعُ المتحجرة في عينيه منذ الصباح، ليستسلمَ للوجع والبكاء. وكالعادة جاء تقديرُه “امتياز” في تلك المادة، مثلما في بقية المواد، على مدى سنوات الجامعة، التي تخرّج فيها بتفوق، وأصبح معيدًا مرموقًا.
كنا نسمعُ عن نبوغه في العمارة وموهبته في الشرح وتوصيل المعلومة بيسر واحترام للطلاب خلال سنوات دراستنا الأولى في كلية الهندسة جامعة عين شمس. وكنّا نتعجّلُ مرورَ السنوات حتى نصل إليه في البكالوريوس ليُدرّس لنا. وكان اسمًا على مسمّى. وكأن والدته التي أطلقت عليه اسمَ الطبيب الذي استولدها: “نبيل”، كانت تتنبأ بالاسم والصفة.
19 يناير ذكرى رحيل تلك السيدة الجميلة التي أهدتني ثروةً هائلة: ابنَها الأصغر، زوجي “نبيل”، الذي أهداني عصفورين رائعين يملآن حياتي شدوًا وفرحًا. التقت عيونُنا في سكشن قسم العمارة، بالصف الرابع بهندسة عين شمس، أنا الطالبةُ وهو المعيد، واحتفل معي يوم تخرّجي، وساندني حين امتهنتُ العمل الهندسي في أحد أكبر المكاتب الاستشارية بالقاهرة، وشجعني حين قررتُ أن “أرتكب” الانعطافة الجذرية في حياتي وأسلك طريق الكتابة الوعر، فشدّ أزري وكان الصخرة التي أرتكن إليها كلما داهمني الخصومُ بسهامهم.
لغتنا العربية تُسميها: “الحماة”. والاشتقاقُ غالبًا من الجذر اللغوي: “حما”. فهي التي تحمي زوجة ابنها. ويؤكد هذا المعنى المصطلحُ الانجليزي: Mother-in-Law، فهي الأمُّ بالقانون. وتُدهشني الفلكلوراتُ والأفلام التي تجعلُ من الحماة خصمًا للعروس، ومصدر ضنك وإزعاج لها! لأنني أرى أن أم الزوج منحةٌ سماوية للعروس ليغدو لها أمّان بعدما كان لها أمٌّ واحدة. فقد أحببتُ السيدةَ الجميلة التي أهدتني رجلًا نبيلا، ومازلتُ أحفظُ ذكراها بعد رحيلها بسنواتٍ طوال، تمامًا كما أفعل مع أمي بالجسد. وكذلك صرتُ اليوم بعدما صرتُ “حماةً” مع زوجة ابني. أعتبرُها أنا وزوجي منحةً سماوية أهداها اللهُ لنا، لتغدو ابنةٌ طالما حلمنا بإنجابها حتى وصلتنا عروسًا جميلة في ثوب الزفاف إلى ابننا.
تلك الجميلة التي لم أرها، أشكرها على زوجي الذي علّمني في الجامعة، وساندني في الحياة، ومازال يحتويني بكامل الحنوّ والحب والاحترام بعد ثلاثين عامًا من لقائنا الأول الذي كان على كتاب. التقينا على كتاب. Stories from the Opera. كان أحدَ نهارات عامي الأخير بالجامعة، خرجت من سكشن العمارة في وقت البريك، وتركت الكتابَ الذي يحكي حكايات الأوبرا في غلافه الأحمر الجلدي فوق طاولة الرسم الخاصة بي. وحين عدتُ لم أجد كتابي! أخبرني الزملاءُ أن مهندس نبيل، المعيد، قد أخذه! أسرعتُ إلى غرفة المعيدين لأستردَّ كنزي. فتحتُ الباب فقابلتني ابتسامتُه الجميلةُ قائلا: (آسف، سمحتُ لنفسي باستعارته، بعد إذنك!) أسرني أدبُه، فأخرجتُ قلمي وكتبتُ على الكتاب إهداءً له. وكان أولَ إهداء أخطُّه بقلمي على كتاب، ليس من تأليفي. وكان اللقاءُ؛ ليس وحسب على محاضرات العمارة وتصميمات السكاشن ومواعيد الكويزات والامتحانات، بل كان اللقاءُ على كتاب. وأيّ كتاب! كتاب عن الموسيقى! وأيّ موسيقى؟! الأوبرا الآسرة حيث فيردي وبيزيه وبوتشيني وتشايكوفسكي وفاجنر وشتراوس.
رحمةُ الله على حماتي التي كانت ستفرح بأحفادها مازن وعمر، وابنتنا الجميلة فاطمة الزهراء، زوجة ابني، التي صارت ابنتنا بالحب والاختيار والقانون. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يقدّس أمهاتِ الوطن.”
***
هديةٌ السيدةِ التي لم أرها!
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا