نحن اليوم أمام حالة مماثلة لما حصل بالعراق في فترة حكم البعثيين حين بلغ عدد المهاجرين من النساء والرجال والأطفال ما يزيد عن 3,5-4 مليون نسمة. وضجت المعارضة العراقية حينذاك وفضح بحق جرائم النظام واستبداده وسياساته المناهضة لمصالح الشعب وحروبه والحصار الاقتصادي الدولي والتفريط بالشعب العراق وثرواته. وسقط النظام الذي كان يبشر به صدام حسين بأنه جاء ليبقى! واعتقد الشعب بأن إسقاط الدكتاتورية ستعيد العراق وشعبه إلى الحياة الطبيعية الدستورية والديمقراطية. وكانوا على خطأ كبير! وابتلى العراق بمن نادي أو ينادي بأنه جاء ليبقى أو يتشبث بالحكم مثل لصقة جونسون، فليس من حاكم يحترم الديمقراطية والدستور وحقوق الشعب ونفسه يدعي ذلك، إذ إن من يتشبث بالحكم أو يردد مثل هذا القول أو ما يماثله الذي لا يقال إلا في النظم الشمولية المطلقة التي يبقى الحاكم في السلطة بالرغم من إرادة شعبه ودستوره، كما بقى الحافظ 30 عاماً والقذافي 42 سنة، وصدام حسين 35 سنة وهلمجرا.
ومنذ سنوات يواجه الشعب العراقي هجرة مليونية تمتد من البصرة عبر الجنوب والوسط وغرب العراق وصولاً إلى محافظة نينوى ومحافظات إقليم كردستان العراق. فهل فكر المعارضون السابقون لنظام صدام حسين ولو لمرة واحدة لماذا هذه الهجرة المليونية حيث بلغ عدد المهاجرين من العراق أكثر من 4-4,5 مليون نسمة، ويقدره البعض بـ 5 ملايين نسمة. الكثير من الشباب والشابات أنهى دراسته الجامعية أو المعاهد أو الثانوية وانتظر التعيين في أجهزة الدولة أو العمل في القطاع الخاص أو المختلط. ولكن ليس هناك من مشاريع اقتصادية ولا توظيفات رأسمالية في الصناعة أو الزراعة أو الخدمات، وليس هناك من مجال للعمل ولا هم يحزنون. وبدأ الكثير منهم يعاني من البطالة القاتلة والحرمان والضجر وفقدان الصبر، ومنهم من تعرض للتهديد أو حتى الموت بأساليب وأسباب كثيرة، بل قتل الكثير منهم فعلاً. وتشير المعلومات إلى إن هناك من التحق بعصابات الشر والإرهاب أو بالمليشيات الطائفية المسلحة، في حين فضل الكثير منهم الهجرة إلى خارج العراق، رغم معرفته بالمخاطر التي تحوم حول المهاجرين. لقد فقد العراق الكثير ممن غرق في البحر الأبيض المتوسط، وبعضهم مات في شاحنات أو قتل في البراري ودفن فيها على أيدي المهربين ليخلصوا منهم وسلبوهم كل ما يملكون.
تزاحم شباب وشابات العراق مع شبيبة سوريا وأفغانستان والصومال وأثيوبيا وليبيا وغيرها للوصول إلى تركيا أو اليونان فوصل الكثير ومات الكثير أيضا. وجد الكثير منهم دربه إلى السويد أو ألمانيا أو النمسا، والكثير منهم ما زال عالقاً في كرواتيا والصرب وهنغاريا ينتظر الرحيل إلى تلك الدول أو على وفق توزيع الاتحاد الأوروبي. وإذا كان استقبال الحكومة المجرية للمهاجرين خسيساً وعنصرياً ودموياً أحياناً في ضوء السياسات اليمينية المتطرفة لرئيس الحكومة المجرية ورئيس الحزب الحاكم فيكتور أوربان إزاء الأجانب والغجر واليهود، ويعتبر اللاجئين المسلمين يهددون مسيحية أوروبا، فإنهم استقبلوا بكرم الضيافة بألمانيا والنمسا حتى الآن، رغم التحركات المشبوهة للقوى النازية الجديدة واليمينيين المتطرفين واليمين الألماني عموماً الذي له موقف صارخ ضد اللاجئين. إلا إن أكثرية الشعب الألماني استقبلتهم بحرارة، ولكن إلى متى وكيف يمكن استقبال هذه الأعداد المليونية التي تقف طوابير على حدود هذه الدول.
قبل أيام وقف شابان عراقيان في الطابق الخامس من بناية ببرلين، كما نلقت الأخبار، يهددون برمي نفسيهما من هذا الطابق لينتحرا لأنهما انتظرا طويلاً في الطابور، ولأن أعصابهما لم تتحمل كل تلك المتاعب والأخطار والمعاناة في طريق الهجرة المرير؟ وغير معروف حتى الآن عدد الذين انتحروا في الطريق لأنهم لم يستطيعوا الوصول ولم يرغبوا بالعودة إلى جهنم سوريا والعراق وغيرهما! وبعد حوار طويل أمكن إنزالهما واعتقلا لمعرفة أسباب التهديد بالانتحار.
إن العراق يخسر شبابه وقواه العاملة ممن صرف الملايين على تعليمهم بسبب الواقع المرير القائم بالعراق، بسبب السياسات الطائفية التي تمارس بالعراق، وبسبب غياب الأمل في الإصلاح والتغيير على مستوى العراق كله. فلم يجدوا درباً آخر غير الهجرة المحفوفة بكل المخاطر والتي قادت المئات من الناس إلى الموت قبل الوصول إلى بلد الأحلام والعيش بأمن وسلام وكرامة وعمل.
لن يعود هؤلاء إلى الوطن، لأن أوضاع العراق الآن محفوفة بالمخاطر ولأن الأبناء والبنات سيدخلون المدارس والجامعات وسيتخرجون منها ويتزوجوا وينجبوا أطفالاً ويشتغلوا ويعيشوا بكرامة، كما حصل مع الملايين السابقة التي تركت العراق قسراً ووضعت وطنها الحبيب خلف ظهرها، إنهم أجبروا على ذلك وما كانوا أبطالا.
أن الدول التي تحترم الإنسان استقبلت اللاجئين مخيرة أو مجبرة، رعتهم واستفادت منهم كأيدي عاملة أجيرة أو كوادر علمية وفنية أو أدباء وفنانين، ساهموا في زيادة عدد الشباب والأطفال ورفعوا نسبة الولادات وحسنوا من التركيب العمري للسكان بأوروبا وشاركوا بالعمل وإنتاج الخيرات وفي إنتاج الدخل القومي ودفع الضرائب وساهموا في الحياة الثقافية.
خسارة العراق وسوريا وأفغانستان كبيرة حقاً بشبابها، يقابله ربح الدول التي استقبلتهم واستفادت منهم. وسبب الخسارة يكمن في النظم السياسية السائدة بتلك البلدان الطاردة لأبنائها وليس لتلك الدول الجاذبة للهجرة. إنها مأساة بلداننا المبتلاة بنظم سياسية مستبدة وطائفية وأثنية وفاسدة، نظم تميز بين الناس على أساس القومية والدين والمذهب والفكر والسياسة، إنها نظم لا تستحق الحياة ولا يجوز أن تبقى، وهي في المحصلة النهاية في طريق الزوال، كما حصل لمن قال جئنا لنبقى أو أخذناها بعد ما ننطيها أو من يتشبث بالحكم بالرغم من إرادة الشعب!
18/9/2015 كاظم حبيب
هجرة شبيبة العراق .. خسارة فادحة!
اترك تعليقا