هجرة بدوافع نفسية
هادي جلو مرعي
يهاجر السوريون بحثا عن حياة مختلفة وبعيدا عن المذبحة التي تديرها عصابات ترتدي الزي الإسلامي، وتنادي بقيم لاوجود لها إلا في مخيلة رجال تلك العصابات ومن يسندهم من مخابرات إقليمية وعربية ودولية ليخربوا الحضارة في سوريا والعراق. وتنتقل جموع هائلة من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ الى تركيا عبر شمال سوريا، ومنها الى اليونان ومقدونيا، والى النمسا وألمانيا عبر المجر، ويقابل ذلك هجرة منظمة الى بلدان عربية وأمريكية، فالتقديرات تشير الى ضياع سوريا نهائيا بسبب البطش والقمع والصراع السائد بين منظومات كبرى جعلت من هذه الأرض مكانا للموت، ولاسبيل للنجاة إلا بحمل ماخف والهرب بعيدا.
يتضح إن السوريين يهاجرون بطريقة لم يألفوها هم أنفسهم، ولايروي تاريخ هذه البلاد إن سكانها هاجروا بكثافة عبر الزمن، وفي الحقيقة فإنها أرض تعودت إستقبال الناس من مختلف الأصقاع سواء كانوا مضطهدين، أو حالمين، أو راغبين بتغيير نمط حياتهم والتوسل بحياة مختلفة عن التي عاشوها وعانوا بسببها، حتى تغير كل شئ نتيجة لماحصل من تطورات سياسية وعنف منظم وفوضوى وتدخل عربي وإقليمي ودولي في الصراع بين قوى تبحث عن تحقيق أغراض لاتلتقي إلا على هدف واحد هو تدمير سوريا وبالكامل فقد عبرت تلك القوى حدود المعقول وبطريقة لاتشبهها سوى طريقة السوريين بالهرب من بلادهم الجميلة.
في العراق يهرب الناس لأسباب أخرى عديدة،ومتنوعة وصادمة، فقد عانت البلاد من حرب أهلية وطائفية بعد سنوات قليلة على دخول قوات أجنبية أسقطت النظام السياسي، وحولت العراق الى ساحة صراع مرير كانت سوريا الأسد واحدة من البلدان التي إشتغلت فيها، ونافست قبل أن تتعرض الى الفوضى العارمة في عام 2011 ، وهذا الأمر جعل من العراق مكانا لصعود فئات إجتماعية كانت مضطهدة ومعزولة وغياب أخرى عن المشهد بسبب التحول السياسي والإقتصادي الصادم، ومع الحرب والصراع المرير والمنافسة السياسية الشوهاء، كانت آفة الفساد تنخر الجسد وتتوغل فيه رويدا حتى أتت عليه بالكامل فلم يعد من مرفق حكومي ألا ونخره الفساد، وصارت النخبة السياسية مجموعات من الأشخاص يديرون كتلا وأحزابا تجيد جمع الأموال وإدارة صراع مقيت ولاتبالي بالأحوال العامة للناس المعذبين، وإنتشرت البطالة، ودمرت البنية التحتية، ونهبت الخزينة العامة، ولم يعد من أفق للمستقبل، وشعر الجميع بالضياع ومنهم السياسيون الذين أجزم إن أهم الأسباب التي تدفعهم للفساد ونهب المال العام هو شعورهم بلاجدوى إدارة الدولة، وإن العراقيين شعب لايحكم ولايستقر ولايستكين، وليس من غد مشرق لهذا البلد، فصار الهم الأول لكل سياسي هو جمع ما تمكن من مال، ونقله الى الخارج، ووضع عائلته في بلد آمن ومستقر بإنتظار اللحظة الكافرة، وفي مثل هذه الظروف صار الهروب من العراق حاجة نفسية، فمعظم الذين يهاجرون يعيشون في مناطق آمنة في الوسط والجنوب، ومنهم كثر يعملون ويحصلون على أموال ولديهم سكن، لكنهم قلقون من المستقبل، وليست لديهم ثقة بالنخبة الحاكمة، ويتوقعون الأسوأ، ويعيشون حالا من الإضطراب النفسي القاتل الذي يدفعهم للهروب الى أبعد نقطة في هذا العالم تخلصا من وطن إسمه العراق.