هجرة الشباب ورفد النمو السكاني المتهالك ليس عملا إنسانيا
صالح الطائي
يرتبط بقاء الجنس البشري على الأرض بمعدل النمو السكاني، فمتى ما زاد النمو السكاني عن حده، يتهدد موارد الماء والغذاء بالنفاد والندرة، ويتسبب بمجاعات وفقر، يدفع البشر إلى خوض حروب شرسة من أجل البقاء. ومتى ما قل النمو عن معدلاته الطبيعية، تتعرض الشعوب والمجاميع إلى خطر الشيخوخة، ثم الهلاك والتلاشي. النمو بمعدلاته الطبيعية وحده يخلق نوعا من الاستقرار المسيطر عليه والقادر على تنظيم شؤون الحياة العامة للشعوب.
ومن الطبيعي أن يختلف معدل النمو السكاني من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن نظام إلى آخر، لا يوجد نظام واحد يشمل جميع الفئات أو يمكن تطبيقه عليها كلها، وغالبا تختلف معدلات النمو بين الدول بشكل كبير، ففي الوقت الذي تمثل فيه عُمان وقطر أعلى نسبة نمو حاليا حسب قائمة البنك الدولي لعام 2009، إذ تبلغ نسبة النمو في سلطنة عمان 9،13% ، وفي قطر 7،05% ، وهي نسب فوق المعدلات الطبيعية، نجد في جهات أخرى أهبوطا خطيرا في نسبة النمو، يتهدد مصير بعض الشعوب، ففي سوريا؛ التي تخوض حربا شرسة ضد الإرهاب منذ عدة سنوات، انخفض المعدل حسب نفس المصدر إلى ناقص 9،73% مما يعني أن وجود الشعب السوري يقف أمام لخطر كبير.
بين هذين المعدلين هناك معدلات معقولة وأخرى شبه معقولة، تتراوح بين 4،86% مثل لبنان وناقص 0،3% مثل روسيا ونسبة صفر% مثل الفاتيكان وجزر كوكوس.
ولكل بلد من هذه البلدان أسبابه التي تؤثر على نسبة النمو فيه، منها الأسباب الطبيعية والبيئية والبشرية والسياسية والاقتصادية والأمنية والعلمية والصحية والنفسية.
على وجه العموم وحتى وقت قريب وتحديدا قبل انطلاق ما يعرف باسم (الربيع العربي) الذي زرع الفوضى والدمار في الوطن العربي، كان النمو السكاني في أغلب البلدان العربية فوق معدلاته الطبيعية، حتى بالنسبة للبلدان التي خاضت حروبا شرسة مثل العراق وإيران.
وبالجانب الآخر كانت الدول الأوربية تشكو انخفاض نسبة النمو لأسباب غير تلك التي أشرنا إليها غالبا، منها ارتفاع كلف المعيشة، وارتفاع نسبة البطالة، وتوفر الفرص لإشباع النزوات والرغبات الجنسية خارج نظام مؤسسة الأسرة وبنسب عالية جدا، تغني عن الارتباط بأسرة وتحمل مسؤوليتها ومسؤولية الأطفال، وأخيرا نوعا من الشعور بعدم المسؤولية لدى الشباب يذكرنا بموجة الهيبيز التي غزت أوربا في ستينات القرن المنصرم.
الحكومات الأوربية بما معروف عنها من هوس بالمتابعة الدقيقة والعلمية لكل شؤون الحياة، كانت تراقب انخفاض النمو السكاني، وتدرس إمكانية وقف التدهور من خلال وضع خطط للتعويض من خلال تشجيع الزواج، وتشجيع تبني الأطفال من دول آسيوية وافريقية ولاتينية، وفتح باب الهجرة الوافدة لتشجيع الشباب للجوء إلى تلك البلدان لتعويض النقص.
ومع أن نسب النمو الحقيقية لا يمكن التأكد منها بسبب وجود أكثر من جهة أخذت على عاتقها تنظيم إحصاءات سكانية؛ مثل منظمة الأمم المتحدة التي لديها قائمتها الخاصة؛ وبعض منظماتها التي لديها هي الأخرى قوائمها الخاصة، مثل قائمة منظمة الأغذية والزراعة الدولية (FAO) وصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وهناك أيضا كتاب حقائق العالم وهو منشور سنوي تصدره وكالة المخابرات المركزية الأمريكية منذ عام 1962، ولديه قائمته ومصادره الخاصة عن النمو البشري في العالم.
وهناك البنك الدولي؛ الذي لديه هو الآخر قائمته الخاصة ومصادر للمعلومات، فضلا عن قوائم أخرى تنظمها مراكز البحوث الدولية،
وبالرغم من اختلاف الأرقام الواردة في قوائم الجهات المذكورة إلا أن نسب النمو السكاني للبلدان الأوربية بالذات تكاد تتقارب في أغلب هذه الإحصاءات نظرا لوجود جهاز إداري منظم ومتطور، ولنأخذ على سبيل المثال ألمانيا التي دخلت بقوة إلى ساحة المواجهة التي أثار زوبعتها تكاثر عدد المهاجرين العرب خلال الأيام الماضية ليصل إلى حدود عدة آلاف مهاجر يوميا حسب وكالات الأنباء، فألمانيا كانت تشكو تدنيا في نسبة النمو، تهددها، وتضعها في عين الخطر لأن نسبة النمو فيها كانت حسب قائمة الأمم المتحدة (2005ـ2010) تبلغ 0،07% وحسب قائمة كتاب حقائق العالم لعام 2013 تبلغ ناقص 0،18% وحسب قائمة البنك الدولي لعام 2009 تبلغ 0،11%.
ولما كان المعدل الطبيعي للنمو السكاني السنوي بأبسط أنواعه يمثل عملية طرح معدل الوفيات الخام من معدل المواليد الخام، في ظل غياب الهجرة بنوعيها السالبة والموجبة، في مدة زمنية تكون سنة عادة، وقد استقر على رقم يمثل المعدل الطبيعي، تم التوافق عليه، وهو (1،8%)، فإن ذلك يعني أن ألمانيا تعيش ورطة حقيقية تتهدد وجودها وحياة شعبها، وتحتاج إلى علاج فوري ومستعجل.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة أرى أن موجات الهجرة البشرية الضخمة التي انطلقت في آن واحد في العراق وسوريا وبعض البلدان العربية والإسلامية الأخرى، لم تكن عفوية بالمرة، ولم تأت نتيجة تخاطب شعوري أو لا شعوري بين الشباب، وإنما دفع المهاجرون إلى ذلك دفعا من خلال الإغراءات التي كانت تلوح بها بعض الدول أمامهم، فمن غير المعقول أن يتجاوز عدد المهاجرين أكثر من 10000 آلاف شخص يوميا بشكل عفوي بالرغم من المخاطر الكثيرة المحتملة، لو لم يكن الكثير منهم واثقون بأنهم سيحصلون على الإقامة في تلك البلدان، بما يبدو وكأن ما حدث كان مجرد صفقة تجارية بلا مشاعر، خالية من النفس الإنساني، صيغت بشكل دراماتيكي، لكي لا تجلب الأنظار، أو تحرج الحكومات المستقبلة أمام أصدقائها وجيرانها. والرابح الأوحد في هذه الصفقة؛ هي البلدان التي استقبلت أكبر عدد من المهاجرين.
وفق الحسابات البسيطة، تتحمل ميزانيات البلدان الأوربية مبالغ طائلة تفوق الخيال لغرض تنمية وتنشئة مواطن جديد، وتهيئته ليصبح مواطنا منتجا، تبدأ من مصاريف العناية بالأم الحامل، إلى مصاريف عملية الوضع، إلى مصاريف الضمان الصحي والضمان الاجتماعي، إلى مصاريف الدراسة في كل مراحلها، إلى مصاريف المعونة التي تقدم للعاطلين عن العمل؛ وهؤلاء أغلبهم لا يرغبون بالعمل أساسا، أو لا يرغبون بممارسة الكثير من الأعمال التي يروها منحطة لا تناسبهم، بمعنى أنها بطالة مقنعة وليست حقيقية. فإذا جاء أحد الوافدين الشباب الذي تحمل بلده جميع هذه النفقات، وأعده فأصبح جاهزا للعطاء، فإن ذلك يمثل مكسبا حقيقيا بكل الموازين.
إن صرامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الخاصة في كل ما يتعلق بالمساعدات المالية في الاتحاد الأوربي عندما تتلاشى بهذا الشكل الغريب أمام موجات المهاجرين، لترحب بهم وتستقبلهم وتعلن عن تخصيص مبلغ ستة مليارات دولار لإيوائهم وتأهيلهم، لا تمثل كرما حاتميا، ولا وجها إنسانيا، وإنما هي مجرد حسابات اقتصادية درست بعناية، وأثبتت أن هناك أضعاف هذا المبلغ بانتظارها بعد نجاح الصفقة، وميركل كانت تتحدث بوعي حينما قالت: “إن ما نعيشه هو أمر سيشغلنا في السنوات القادمة، وسيغير بلادنا، ونريد أن يكون هذا التغيير إيجابيا ونعتقد أن بوسعنا تحقيق ذلك”، لأن 800000 ألف شاب لاجئ يتوقع وصولهم إلى ألمانيا خلال هذا العام فقط؛ الأعم الأغلب منهم يحملون شهادات جامعية، سيغير ألمانيا حتما نحو الأحسن من دون أن تتحمل أعباء هذا التحسين.!
وسيكون الخاسر الأكبر هو الشعوب العربية والإسلامية التي فقدت كفاءات كان يمكنها أن تسير بالبلدان إلى شواطئ الأمان لو وفرت لها الإمكانيات اللازمة، وأرى أن حكوماتنا ملزمة اليوم بوجوب الحفاظ على البقية الباقية وعدم التفريط بهذه القدرات الواعدة، لأننا سنستمر بالانحدار، والعالم سيستمر بالتقدم إذا بقي الوضع على ما هو عليه، وسنجد أنفسنا بعد عدة سنوات شعوبا هرمة منهكة فقيرة بائسة خاملة متخلفة، يأنف العالم المتقدم أن يتعامل معنا إلا مثلما يتعامل السيد مع العبد.!