هالة سايكوترونية
قصة قصيرة مصطفى داود كاظم – العراق
لم تكن فكرةً راكدة ،حتى أُضيّعها بين إصبعين ، لا انتشاءَ في المسافة بينهما: سبابتي ، والوسطى .
حافظت على اتزان خطواتي عندما مشيت على الجمر ، وكان يَتَوجّبُ عليّ أنْ أرعى المسافة بين سبابتي والوسطى مثلما يرعى العاشق المدنف نجوم الليل .
أنا مسكونٌ بالوجع وحولي هالة سايكوترونية أصيبُ بها من يحاول الاقتراب مني رغما عني… لست شريرا ،.لكنّي موجوع حد الفزع ،أُحارب طواحينَ الهواءِ وكائنات لا مرئية تَخطّتْ عَتبةَ جسدي وأصبحتْ تُناظرني في الهواء المشبع برائحة زنخة…
في مرّاتٍ كثيرةٍ ، قال لي كائنٌ يُشبه الكاهن ، تَمتّع بِحُرّيتك المُطلقة ولا تُذعن لقواعدِ الرِّق التي تحكم ما يربو على سبعة مليارات إنسان ممن يقبعون في أتون أسْرٍ لا فكاك منه داخل أجسادهم… أطِلقْ نفسكَ مِن عِقالها وحلّق عاليًا ، ارتقِ بها فوق الجموع وسترى أنَّ العبودية وحش مروض يسكن الأجساد… عِشْ تفوقك .
في ليلة موحشة الظلمة تسلقت بخطواتٍ مسرعة جسرا يربط ضفتي نهر عميق… المسافة بين الضفتين تزيد على مائتي متر… تَوسطّتُ الظهر المحدودب للجسر ، وألقيتُ نظرةً مُحايدةً للموجِ المُتلاطمِ أسفلَ منه… كلماتُ الكاهنِ ، وحدها تخترقُ الهالةَ السايكوترونية التي تُغلّف جسدي…
كنتُ عازمًا على فكّ الأرتباطِ بين جسدي المُثخنِ بالقيودِ ، وروحي الراغبة بالتحليق ، كان الألمُ شديدًا ، يكاد يقطع أنفاسي المتعبة…
خطوةٌ واحدةٌ تفصلني عن السياج الحديدي للجسر ، وأُطلقُ العنانَ لتلك الروح المُعذبة بداخلي ،. لكنْ حدث ما لم أتوقَعَه مطلقًا…
نَفْخةُ بوقٍ لسيارةٍ مُسْرِعةٍ ، شَقّتْ سكونَ الليلِ وعُتْمَته،. فأربكتْ كلّ شيء ، وأعادتني إلى خانة السبعة مليارات مأسورًا ، بينما اختفى الكاهنُ المرابطُ على تخومِ الهالة السايكوترونية ، قبل نفخ البوق… لم استغرب اختفاءه لكنني توقعت رِدّة فعله ، وتخيلته يصب اللعنات على صاحب السيارة المسرعة ، وينظر لي بامتعاضٍ ، ويصرخ حانقًا:
– ليسَ بَعْد… في المحاولات ، ثَمّة مفاجآت مزعجة تُعكر صفوَ بُلوغِ الغايات ، لكنّها لَيْستْ نهاية المطاف .
عُدّتُ أجَرجِر أقدامي ، وقد بدأتْ الأصواتُ في رأسي تُحْدِثُ جَلَبةً عاليةً ، لم أعُدْ أُطيق الصراع المشتعل في داخلي… حربٌ تطحنُ روحي المعذبة ، وهي تُصارعُ في جهتي الحرب ،لانّها فقدتْ الانتماءَ وتشظّتْ بين عالمين لاينتميان لبعضهما… الضحيةُ فيه هذا الجسد الذي يَنْسَحِلُ بارتخاءٍ على رصيفِ طريقٍ طويل.
الهالةُ السايكوترونية بدأت تُثقل كاهلي… أشعر بحاجة لانتزاعها… لم أعد بحاجة لمسافة أمانٍ مصطنعة لتكون مبررا كافيا لحروب تتقاذفني حِمَم مدافعها وأزيز رصاصها .
لا يضبطُ المسافةَ بين السبابةِ والوسطى سوى تلك الهالة التي تُغلف جسدي وهي الآن كطبقةِ الأوزون ، يستطيع الكاهن اختراقها من الثقوب التي سببتها انبعاثات روحي المُعذبة…
في مرات عديدة أصابتْ تلك الطاقة المنبعثة من جسدي بعض المقربين… أخي الأكبر أُصيب بشلل تام ، وأنا أعرفُ كلَّ ذلك ولا أحدٌ سواي يعلمُ هذا السر الملعون ، المكنون في صدري .
كنتُ على وشك الإنهيار ، لم تعد قدماي تحملاني.. حاولتُ الاتكاء على السياج الحديدي للجسر لبرهة لكنّ المسافة قريبة للتخلص من عبء الجسر ، عندها قررت المواصلة رغم التعب ، وهناك لاح لي في مدى الرؤية المشوش ضوء ينبعث من سيارة قادمة بسرعة من الجهة المعاكسة لخط سيري… ابتلعت المسافة التي تخيلتها تحتمل بعض الوقت،. لكنّ الوقتَ لم ينتظر… على ملمحٍ يسيرٍ منه تبعثرت أشلائي وتوقفتْ عيناي على صورة الكاهن وهو يبتسم ابتسامته الماكرة ، قبل أنْ ينسدلَ جفناهما إلى الأبد.