علاء اللامي
نقلت وكالات الأنباء العراقية والأجنبية، منها نقلا عن مصادر أمنية عراقية أن الطيران الحربي الأمريكي ارتكب يوم 12 آذار / مارس مجزرة بحق قوات الجيش العراقي في غارتين على مواقع له في مدينتي بيجي و الرمادي قتل فيها 22 عسكريا عراقيا في رواية، أو 25 في ثانية وأكثر من 40 في ثالثة. حدثت هذه الجريمة مع توغل القوات العراقية في مدينة تكريت وتطهير أغلب مدن وقرى محافظة صلاح الدين. بثت هذا الخبر وكالات أنباء عالمية عديدة منها فضائية روسيا اليوم و رويترز وتجاهله الإعلام الحكومي تماما. وقد اعترفت القيادة العسكرية الأميركية بوقوع الغارتين ولكنها نفت سقوط ضحايا. أصدقاء واشنطن العراقيون، منهم مثلا رئيس مجلس محافظة الأنبار صباح كرحوت زعم لوكالة الأناضول التركية أن نفقا فجره مسلحو داعش وليس غارة أميركية هي التي تسببت بالمجزرة وهو زعم كرره قائد عمليات الأنبار التابعة للجيش العراقي، اللواء الركن قاسم المحمدي وأكد عدم قيام طيران التحالف الدولي بقصف ذلك المقر العسكري. النائبة حنان الفتلاوي، المنشقة عن ائتلاف المالكي “دول القانون” والمؤسسة لحزبها الخاص والذي أطلقت عليه اسم “إرادة” أكدت خبر المجزرة وزادت أنها ليست المجزرة الأولى ونشرت على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي وثائق رسمية تعود إلى شهر كانون الثاني / يناير 2015 تؤكد قيام الطيران الأميركي بقصف مواقع اللواء 52 من الجيش العراقي في مدينة بيجي ما أدى إلى استشهاد 80 عسكريا تركوا تحت الأنقاض لفترة طويلة. من بين تلك الوثائق تقارير رسمية دقيقة وموثقة، وبيان نيابي للنائبة المذكورة. و إثر ذلك خاطب مجلس النواب وزارة الدفاع في هذا الصدد وشكلت الأخيرة لجنة تحقيق ودراسة وانتهى الأمر عند هذا الحد بحسب الوثائق المنشورة. النائبة الفتلاوي ختمت مداخلتها بالقول ( هل يحتاج رئيس الوزراء دليلا أكبر من هذا حتى يتصرف ويقدم على الأقل مذكرة احتجاج للجانب الاميركي ويطالب بتقديم اعتذار ويطالب أيضا بمحاكمة الفاعل والمقصر ويطالب بتعويض للجرحى والشهداء من الجانب الأميركي، أم أنه سيجد لهم عذرا كما عودنا؟ ومما يؤسف له ان الحادثة تكررت أمس في الانبار في منطقة آلبو ذياب حيث تم قصف الفرقة 14 لواء 50 الفوج الثاني السرية الرابعة وتسبب باستشهاد حوالي خمسين وجرح ٢٥ فهل نحن تحالفنا معهم لإسناد الجيش وحماية العراقيين أم لقتلهم ؟). رد الحكومة الرسمية جاء بعد ثلاثة أيام والضبط صباح 14 آذار حيث بث التلفزيون الرسمي بيانا حكوميا مضطربا ورد فيه أن ما حدث هو هجوم بعدة عجلات مفخخة على المنطقة التي تقاتل فيها اللواء المذكور “منطقة آلبو ذياب” تمكنت القوات من تفجير عدد منها قبل بلوغها هدفها ولكن بعضها بلغ الهدف ودمر مقر اللواء، ولكن البيان اعترف بوقوع غارة لطيران التحالف الدولي في اليوم نفسه في المحافظة ثم ذكر بأن القيادة العسكرية سترسل لجنة تحقيق في ملابسات الحادث. فأي معنى أو مبرر يبقى لإرسال لجنة التحقيق إذا كانت الحكومة قد جزمت بأن الأميركيين أبرياء من المجزرة وأن سببها هجوم إنتحاري لتنظيم الدولة “داعش”!
عمليا، يمكن القول، إن انتهاء تحرك النائبة الفتلاوي بخصوص المجزرة السابقة إلى اللاشيء والصمت التام يعني أن تلك الحركة لم تكن أكثر من ردة فعل برلمانية من النوع التقليدي والذي يحدث يوميا في برلمانات العالم مهما غلفت بالعبارات الفائرة والمحتدمة، وهي أيضا نهاية تشي بأن ردّات فعل خطابية كهذه على المجزرة الجديدة لن ينتهي إلى نهاية مختلفة وحاسمة تصون دماء العسكريين والمدنيين العراقيين من النيران “الصديقة” الأميركية، والسبب هو أن مجلس النواب العراقي بكل مكوناته و حكومة العبادي -كما هو حال الحكومات السابقة لها منذ 2003 – ليسا في وارد اتخاذ موقف مستقل وناقد للحليف الأميركي في حين أن مجازر وجرائم كهذه تقتضي موقفا أكثر من نقدي و لا يقل عن قطع العلاقة مع القتلة وتحميلهم مسؤولية مجازرهم، سيما وأن ما يطلق عليها “نيران صديقة” قد تكرر وقوعها كثيرا من الجانب الأميركي فقط وليس من جانب الجيش العراقي، مثلما يتطلب التعامل بندية وجدية للدفاع عن النفس وإثبات الاستقلالية والسيادة.
“النيران الصديقة” التي استهدفت العراق والعراقيين أخيرا لم تكن أميركية المصدر فقط ولا هي عسكرية النوع بل ثمة نيران صديقة إيرانية أيضا ولكنها من النوع السياسي هذه المرة.
قبل أيام قليلة ومع تقدم العمليات العسكرية في محافظة صلاح الدين أدلى علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني روحاني للشؤون الدينية والوزير السابق في حكومة خاتمي بتصريحات صادمة و خطيرة قال فيها حرفيا بحسب وكالات الأنباء العالمية ( إن إيران كانت منذ ولادتها إمبراطورية وإن العراق اصبح جزءا من الامبراطورية الايرانية و هو ليس جزء من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا، وهو عاصمتنا اليوم، وهذا أمر لا يمكن الرجوع عنه لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء، ولذلك فإما أن نتوافق أو نتقاتل).
رغم إن هذا التصريح ليس جديدا – إيرانيا- فهناك الكثير من أشباهه منذ استقلال العراق وقيام دولته المعاصرة سنة 1921، وهو الاستقلال الذي رفضته أوساط إيران معروفة تحت شعار ( إيران هي أم العراق وتركيا كانت مربيته وحين ترحل المربية يعود الابن إلى أمه )، ولكن توقيته أعطاه قوة وزخما إضافيين وأثار استياء كبيرا في الوسط العراقي ولم يتجرأ أحد حتى من أكثر الناس قربا من إيران على الدفاع عنه. الخارجية العراقية التي يقودها إبراهيم الجعفري ” إسلامي شيعي” أصدرت بيانا مقتضبا أعربت فيه عن استنكارها لتصريحات يونسي وعدتها تصريحات “لا مسؤولة”، و شددت على أن العراق لن يسمح بالتدخل في شؤونه الداخلية أو المساس بسيادته الوطنية. وإنها تعرب عن استغرابها للتصريحات المنسوبة إلى الشيخ علي يونسي بخصوص العراق. ولكنها لم تتخذ أية إجراءات احتجاجية دبلوماسية أخرى، أقلها استدعاء السفير الإيراني ومطالبته بتوضيحات، أو مطالبة مطلق تلك التصريحات الإلحاقية بالاعتذار!
يونسي ذاته أدلى لاحقاً بتصريح تراجع فيه شكلياً و بشكل غير مقنع عن تصريحه السابق وقال إنه كان يتكلم عن وحدة تاريخية و ثقافية ولم يدع إلى قيام إمبراطورية وإن ( موقف إيران يقوم على احترام الحدود الوطنية و سلامة أراضي الدول الأخرى).
المرجعية النجفية وعلى لسان وكيل المرجع السيستاني وجهت نقداً محسوباً دون ذكر أسماء أو وقائع لتصريحات يونسي قالت فيه ( إننا نعتز بوطننا وبهويتنا وباستقلالنا وسيادتنا وإذا كنا نرحب بأية مساعدة تقدم لنا اليوم من اخوننا وأصدقائنا في محاربة الارهاب ونحن نشكرهم عليها فان ذلك لا يعني في أية حال من الأحوال بأنه يمكن ان نغض الطرف عن هويتنا واستقلالنا كما ذهب اليه بعض المسؤولين في تصوراتهم). و رغم عمومية و تلميحية التصريح لكنه كان مؤثرا خصوصا في كبح جماح المبررين والمؤيدين من “أصدقاء إيران” المتشددين لمضمون التصريح المذكور.
بعد رد فعل المرجعية أصدرت الخارجية الإيرانية توضيحا قالت فيه أن تصريحات يونسي ترجمت خطأ بشكل مغرض ولكنّ صحفيا عراقيا يجيد اللغة الفارسية ترجم التصريحات في مقالة له وهذا نص ترجمته ( قال السيد يونسي، إن” نتانياهو اعترف بصراحة بقوة ايران ونفوذها العظيم حين ادعى بأننا ابتلعنا اربعة بلدان في المنطقة، وفي الواقع فإننا ساعدنا هذه البلدان… العراق اليوم لا يمثل مجرد مجال حضاري لنفوذنا بل العراق هو هويتنا وثقافتنا ومركزنا وعاصمتنا. وهذا أمر يتعلق بالحاضر وبالماضي. وذلك لأن جغرافية العراق و إيران لا يمكن فصلهما. وليس أمامنا مع العراق سوى أن نتحارب أو نصبح حالة واحدة”/ المدى). بعد يومين فقط على رد المرجعية النجفية كتب رئيس تحرير وكالة “مهر” الإيرانية مقالاً استفزازياً مطولاً، موجهاً خطابه إلى العراقيين مباشرة، ناصحاً إياهم بالتخلي عن ( العروبة الزائفة والزي العربي ” الدشداشة والعقال” والتوحد مع الإسلام الحقيقي الذي تمثله إيران) مستدلا على صحة دعوته بقوله ( بلدان الخليج “الفارسي” لا تعترف بكم كعرب لأنكم من أتباع أهل البيت! ) أي أن على العراقيين كما قال ( أن يتجهوا نحو ثقافة جديدة ليس فيها عنصرية لا بل قريبة من الواقع الديموغرافي والمذهبي في العراق يتوحدوا مع إيران لأن دول الخليج لم تساعدكم كما ساعدتكم إيران، وأنتم بحاجة الى حلة جديدة بعيدة عن (الكوفية والعقال والدشداشة ).
بعض المراقبين عدّ تصريحات يونسي رد فعل محسوباً على تصريحات مشيخة الأزهر في مصر والتي انتقدت في بيان لها “أعمال القتل والذبح ضد السنة التي تقوم بها فصائل الحشد الشعبي” وقالت فيه إنها تشعر (ببالغ القلق لما ترتكبه ما تسمى بـ”مليشيات الحشد الشعبي” الشيعية المتحالفة مع الجيش العراقي من ذبح واعتداء بغير حق ضد مواطنين عراقيين مسالمين لا ينتمون إلى داعش أو غيرها من التنظيمات الإرهابية) والواقع فحتى لو سلمنا بأن الرابط السياسي المباشر بين هذا التصريح وتصريح يونسي، لا يمكن الجزم بصحته، وقد اتضح لاحقا أن التصريح الأخير سبق تصريح الأزهر وهذا ما ينفي الربط السببي المباشر بينهما، ولكنّ التصريحين عمليا مكملان لبعضهما جوهريا من حيث التوقيت و إنهما لا يخلوان من النزوع الطائفي والمذهبي لعبت الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية الراهنة في العراق على تنشيط مفاعيلهما.
غير أن تصريحات يونسي هذه، بالنظر إليها كما هي، و بعيداً عن تصريحات الأزهر أو غيره، تبقى تؤشر على الدور الخطير الذي تحاول أوساط إيرانية في الحكم القيام به على الرغم من حراجة ودقة الأوضاع وحساسية الظروف الاجتماعية في العراق والتي يشكل الاستقطاب الطائفي الديني سداتها ولحمتها وهي تصب في خانة الإضرار بالعراق بلدا ومجتمعا.
تنظيم الدولة “داعش” لم يدع فرصة هذه التصريحات الساذجة تمر دون أن يترك بصمته عليها فقد اعتبر الناطق باسمه أبو محمد العدناني في تسجيل مصور تصريحات يونسي إعلانا لإمبراطورية “صفوية رافضية” وهذا بحد ذاته يؤشر على المدى الذي تبلغه تصريحات ساذجة و أحلام عصافير إمبراطورية كهذه.
وفي السياق ذاته، تساءل الكاتب الكويتي وأستاذ العلوم السياسية عبد الله النفيسي في تغريدة له ( هل سنستيقظ غدا على بيان إيراني يعلن ضم العراق إلى إيران كما ضمت روسيا جزيرة القرم؟) إن المنطق الذي ينوس خلف كلمات النفيسي قد يعني أن صاحبه لا يعرف شيئاً عن العراق بل هو يجهل تماما سياق الأحداث وظروفها الموضوعية والذاتية و لكن استغلاله هو سواه لتصريحات إيرانية كهذه لا يضع مسؤوليتها الأولى عليه ، بل على من أدلى بها، وهو ما يجعل التساؤل عن الحكمة في اختيار الرئيس الإيراني لمستشار مثل يونسي والإبقاء عليه في هذا المنصب الحساس، وخصوصا بعد أن طالب أكثر من عشرين نائبا إيرانياً بإقصائه و خاطبوا رئيس السلطة القضائية الإيرانية طالبين أن تجري ملاحقته قضائيا، تساؤلاً مشروعاً ومبرراً تماما.