ليث العبدويس – بغداد
لا يسع الزائر لإقليم كُردستان، تلك الجنّة المعروشة الغافية بين جلاميد الجبال، وبتجاهُل سحنات “الأسايش” المُكفهرّة الواجمة وهي تتلقّفُ أوراقكَ الثُبوتيّة عند حواجِزِ التفتيشِ المُثبّتة على تُخوم جُمهوريّةٍ أو تكاد، وتشرعُ باحثةً في شاشات حواسيبٍ أولتكَ ظُهورها عن كُلّ شارِدةٍ أو وارِدةٍ تتعلّقُ بهذا “العربي” القادِم من مجهول الوسط أو معلوم الجنوب، وطالما كُنتَ لا تُخفي شيئاً قد يُعكّر صَفو هذه الجنّة الهادِئة، سُرعان ما ستنتهي “أزمة” التدقيق على عُهدةِ ختمٍ سياديٍ شاحبٍ تزدانُ به وريقةٌ “إقامةٍ” هزيلة ستصحبُك حيثُما حَللتَ او وَلّيتَ شطر
وجهِكَ في رُبوع الشَمال الكُردي، لا يَسَعُ هذا الزائِر سوى الانحناءِ احتراماً وتثميناً لِنجاح التجرُبة الكُرديّة – التي نتيمّنُ بعراقيتها مع عميق احترامِنا لرأي المُعترضين المُصريّن على عِصاميّة الأنموذج وحصريّة براءة الاختراع – .
ثمّة جيلينِ من الكُردِ يتفقانِ – برغم التباين في الوعي التاريخي – على ترسيخ مفهوم المعزل / الغيتو الكُردي والاستمرار في إمدادِه بسُبُل الحياةِ المُمكِنة وإنْ أفرز ذلك آثاراً جانبية غير محمودةِ العواقب والنتائِج، فمحو الشخصيّة الكُرديّة – بحسبِ دلالات الغيتو القومي – قد لا يتأتى بالضرورةِ من حملات التعريبِ أو الأنفلة، وبالتالي هناك حاجة لإبقاء الوعي الكُردي في حالة صحوةٍ وحضورٍ دائمين لتلافي غيبوبة الاندماج مع هذا (الآخر)، بعبارة أخرى: استبعاد التماهي الوطني كخيار استراتيجي مع الاستمرار في الاحتفاظ بشعرة مُعاوية على المستوى التكتيكي مع
المركز العربي، وهذين ِ الجيلينِ هُما جيلُ الجبل وجيلُ ما بعد النُزولِ من الجبل.
فهُناك الجيلُ الموالي للحرس القديم ممن قضوا الردح الأهم من أعمارِهم لائذين بأسنمة الجبال يحملونَ بنادِق “البرنو” ذائعة الصيتِ وقتئذٍ على أكتافِهم في صِراعٍ إثبات الهويّة مع الحكومات المركزية، وهو الصراع الذي استهلك معظم شبابِهم وسنيهم، ويدفعُهم اليومَ إلى الارتماءِ في خندق الأشد توجّساً وخيفةً من مطامِعِ وسياسات “الضحّاك” في بغداد، وهذه الطبقة التي تفتخرُ بحمل إرث (كاوة) الحدّاد وتُمثّل عُنفوان الثورة الكُرديّة، تتسم بِنظرةٍ تكادُ أن تكونَ “جينية” بصدد نوايا الآخر، طالما أن هذا الآخر – وِفق هذه الشريحة – سيكونُ عربياً بحتميّةٍ عِرقيّة،
فهؤلاء “العرب المطليّة شرايينُهُم بِقَطِران الاستبداد والقمع المُتعدد المُستويات”، سوف لن يتوانونَ كُلما نضِجتْ الظروف الموضوعية عن حِصار الحُلُم الكُردي او حتى إجهاضِه طالما أنَّ “المصلحة الوطنيّة” – تلك الشمّاعة المُثقلة بقُبعات الحواةِ وأزياء المُهرّجين – تتطلبُ ذلك.
وهذا الجيل الذي عاصر القضيّة الكُرديّة مُنذ احتِدام أحداثِها في سبعينيات القرن الماضي، وإن كانَ سائِراً في طريقِهِ للانقراض بِحُكم التدافُع والتقادُم، لا زالَ يملِكُ من السطوةِ والنُفوذ ما يجعلُهُ قادِراً على التأثير في دَفّة السياسة الكُرديّة المُعاصِرة، عبر دعواتِهِ للتمسّكِ بأسس الثقافة الكُرديّة التقليديّة إلى حدٍ يقتَرِبُ من التعصّب القومي – الشوفيني، ذلك المرض الذي تحوّل إلى تُهمة يُلصِقُها الكُرد بكُلَّ من اعترضَ مسيرهم حسب قاعدة “رَمتني بِداءِها وانسلّتْ”، وكذلك عبر مُناداتِهِ بالمزيدِ من التمايُزِ عن باقي الوَطن والحثّ على
عسكرة المُجتمع الكُردي استعداداً رُبما لِصعودٍ اضطراريٍ آخر للجَبل، والتحريضِ على خلق “المجال الحيوي الكُردي” عبر الاستماتة في المُطالبة بِضمّ كركوك وابتلاع المناطق المُتنازعِ عليها بالأمر الواقع، والتخلّي التدريجي عن أكياس الرِمال التي تُكبّلُ انطلاقة المِنطاد الكُردي نحو طبقات الاستقلال العُليا.
وإلى جانِبِهم، هُناك الجيلُ الذي ترعرعَ مُنذُ النُزول الأخير للكُرد مطلعَ التسعينيات بعد انحسار سُلطة المركز وخروج كُردستان من قبضة بغداد وظهور “المِنطقة الآمنة” المكفولة دولياً، وهو جيلٌ يبدو أكثر استغراقاً في حُلُم الفيدراليّة، ومُسلّحاً – بِحُكم الاستقرار النسبي وخُفوتِ حِدّة الصِراع العسكري مع المركز والرعاية الأُمميّة– بالمعرِفة والعِلم والدِراية أكثر منه بـ “برنو” الآباء، جيلٌ من التكنوقراط الحَداثي المُثقّف على المنهجيّة الغربيّة والمُشبعِ بِمفاهيم السياسة والإدارة على الطريقة الأمريكيّة، شبابٌ بيروقراطي على مستوىً رفيعٍ من
التعليم الجامِعي وما بعد الجامِعي يُتقِنُ من اللُغات الأجنبيّة أكثر من اللُغة العربيّة التي اضطرَّ أسلافُهم من الجيل الآخذِ في الاندثارِ إلى احسانِها، ربما تحت هاجس” من عرف لُغةَ قومٍ أمنَ شرَّهُم”، وطالما أنَّ “شَرَّ” القومِ قد انقلبَ عليهم خارج حُدودِ الحُلُم الكُردي المحروس بـ”البيشمركة” لذا فقد انتفتْ الحاجةُ لِلُغَةٍ أخرى تُزاحِم لُغة الجُمهوريّة الآخذةِ في التبلورِ والولادة.
من الغباء والوضاعة في آنٍ واحد أن يستمرّ البعضُ في إطلاقِ النُكاتِ والمُزح العُنصريّة الثقيلة السَمجة على الكُرد فيما تحوّل كُلُّ البلد – عدا إقليمِ كُردستان كما يرِدُ في المُخاطبات الرسميّة – إلى نُكتةٍ سوداء مُضحِكةٍ حَدَّ البُكاء، ومن الامعانِ في الغباءِ والتمرغ في الوضاعة التلويحُ بالقوّة والويل والثُبور – اللكنة الوحيدة التي لا يفهمُها الكُردُ رغم اتساع مدارِكِهم اللُغوية – لكسر إرادة الإقليم او تهديده، الأكرادُ يُجمِلون بوادر الانهيار وارهاصات القطيعة على النحو المُختصر التالي:
كُلما ارتفع منسوبُ إرهاب الدولة وعقليّة اللُصوصيّة وقطع الطريق والبلطجة وكُلما علتْ صواري القراصِنة في خليج بغداد الهائج كلما اندفع أحفادُ (كاوة) لتصفيح سُدودِهم الواقية من الاشباح المؤنفلة، وسوف لنْ تُشكّل نواياك على حُسنِها وبراءتِها سوى (…..) في سوق الصفافير – إن بقي من الصفافير شيء – بإزاء شُهودِ عَيانٍ على ذويهم وهُم يُبادون – كالحشرات – في شِعاب الجبل الكُردي، فالثِقةُ عُملةٌ شديدةُ النُدرةِ بين الحاكِم – وليس الشعب – العربي وبين الأكراد، نادِرةٌ إلى حَدّ أن الإطاحة بِطاغيةٍ لا يشفعُ لِجسورِها أن تمتدّ وتُقام، طالما أنّ “كتيبةً” من
الطُغاةِ تتدافعُ اليوم لملأ المنصِب الشاغِر!!