رباح آل جعفر
يُسمّيه انسحاباً .. وتسمّيه هزيمة .. لا هو منتصر ، ولا أنت مهزوم .. بينكما جبلان : جبل من نار ، وجبل من ثلج .. لا الثلج يطفئ النار ، ولا النار تذيب الثلج !.
تقول الأخبار : إن الفلوجة ومدنا أخرى تعتزم الاحتفال بهزيمة آخر جندي أميركي من العراق
.
ومن حق الفلوجة التي دفنت أطفالها بلا مشيّعين ، إلى أبعد نقطة من مدن العراق التي توضّأت بدم شهدائها أن تستعيد خواتمها وأساورها المرهونة ، وتحتفل كالعروس ، ويُضيء وجهها كالبرق فيصير أجمل .
بيتاً بيتاً ، شارعاً شارعاً .. تزغرد حناجر النسوة بأغاريد الفرح ، بمهج الزهرات ، وعيون الأمهات ، وسواعد الرجال ، فتية وشباباً وكهولا ، الذين احترقوا في لهيبها وعاشوا في نورها ، من المرفوعي القبضات والرؤوس .. من حقها أن تطرّز المدن الأبيّة صدرها بالأوسمة والنياشين ، وتكتب آخر بيت شعر مشطور من القصيدة المموسقة بكبريائها .. كما لم يكتبها ألف شاعر ، وألف خطيب ، وألف هوميروس .. لتكتمل الملحمة .
ليس الوطن مقبرة ، لكن القافلة الطويلة من الشهداء هنا أكثر عدداً من الغارات والقنابل العنقودية وطائرات ” الأف 16 ” و ” ب 52 ” العملاقة .. والأرض هنا فوّارة بالبطولة ، حتى أصبحت البطولة جزءاً من ملامحها وقسماتها ، وقد منحتها قداسة استثنائية .
هو انسحاب أميركي أشبه بهزيمة نكراء مهما حاولوا أن يضيفوا عليه من المحسّنات اللفظية ، والكلمات العذبة المهذبة ليغطوا على الخيبة ، وبعد أن وجدت الولايات المتحدة أن في الانسحاب من العراق غنيمة كبرى وممرّاً آمناً إلى السلامة والطمأنينة لجنودها العائدين إلى بلادهم بلا جوائز ، ودون أن يتهادوا بنشوة النصر في أعياد الميلاد !.
كان النصر فصيحاً والهزيمة بكماء ، ولم تستطع أميركا بأحدث مبتكرات السلاح أن تنتصر على قبضة رمل ، على سعفة نخل ، على ينبوع ماء .. فأدركت أن لحم العراق نيئاً لا يؤكل بمثل هذه السهولة .
في أيام الاحتلال الخوالي كان هناك من يُقدّم لنا بطاقات المواساة ، ويقول والشماتة ملء قلوبهم : أننا سنقيم مجالس العزاء ، ولسوف يرغمنا الاحتلال على أن نركع ، فلم نسقط ولم نقع ، ومضت بنا الأيام وصدورنا صامدة للرصاص .. فإذا الاحتلال هو من يركع .. ونحن نمدّ أرجلنا على طولها ، ونلتقط الصور التذكارية لحطام ما خلفوه من خسائر ، فما كان أصعبها من أيام !.
من فضلكم ، دعونا في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة أن لا نحتفل بالمشهد الأخير من القصة الكبرى بهزيمة أميركا فقط ، وهي تحمل عصاها عن كاهلنا وترحل ، بل أن نتسامى على خلافاتنا ، ندفن الماضي وراءنا ، نضمّد ما فتحه الاحتلال بنا من جراح طائفية وأخلاقية ، نواجه مصيرنا ، دعوا الحوادث العابرة ، ريثما تمرّ العاصفة ، نكتب فصلاً جديداً من القصة الآتية .
إنها حدث عربي بامتياز أمام نهاية تليق بأميركا !.