ماجد حميد الغراوي
اهداء / الى كل اليتامى في العراق والعالم:
كلماتي وجع من نزيف روحي ….. دعوها تعانق آلامكم
ظلمة الليل ، وهمس الأشجان تغشيان القلوب المسكونة بالآلام ، تسقيان آهاتها البائسة بدموع حرى ، أصوات الانفجارات والرصاص تهدر سكون الليل فتحيل السماء بشرر شظاياها المتطاير الى كتل نارية تثير الرعب في النفوس ، نوح ينذر بطائر الموت يحوم فوق الرؤوس ؛ تترنم به شرار الشياطين الأنسية وتهلل له لتنشر أراهبها بين الأرواح البريئة فتهين المقدسات وتدوس الرحمة بوطأتها الفاجرة ؛ يسفكون الدماء الزكية ويعلنون أنفسهم آلهة لدمار وشر مستطير ، فيسكن نبض الحياة وتهان المقدسات حتى تغدو بلدتنا طقوسا” معتمة للأشباح وأكوام من النفايات والقاذورات وتجمعات لقساة القلوب من مصاصي الدماء وقطاع الطرق وأمست الذكريات الجميلة فيها غريبة لا مكان لها بين نعيق الغربان فأتخذ الناس هامش الحياة وطنا” يلعقون فيه جراحهم .
في ظلمة الأزقة الحزينة بين أنين بيوتها القابعة تحت وطأة الفقر والعوز أرملة ثكلى عانت من الفواجع ما شاء لها أن تعاني، ترتدي السواد دائما” ؛ لون تتوارى خلفه أوجاع تعبق برائحة الموت ؛ أوجاع يتردد صداها بين بقايا أطلال نفسها المعذبة لم تستطع مسحة الجمال المتبقية على سمرة وجهها من اخفائه .
بخطوات متعبة تدخل غرفة علق في أعلى مدخلها لوحة دون عليها ( طبيب الأمراض النفسية والعصبية ) وخلفها خطوات بناتها الثلاث؛ يرتدين السواد نفسه وتبدو على وجوههن سحابة حزن غريب وإيحاءات لقهر دفين في أعماق نفوسهن المرتابة وكأنهن استنساخ مصغر لأمهن بملامحها الحزينة ؛ فيدعوهن الطبيب من خلف مكتب عيادته للجلوس مرددا” عبارات الترحيب فتجلس الأم قبالته على كرسي مقابل لمكتبه بينما جلست البنات الثلاثة على أريكة جانبية . ويكرر الطبيب عبارات الترحيب ثانية” محاولا” ان يفك طلسم الشجن والوجوم الذي بدا على مريضاته ، أسلوب اعتاده مع مرضاه كجزء مهم وضروري في عمله الذي يمليه عليه تخصصه فلاحظ عكس ما كان قد أعتاد عليه فلا استجابة لاحت منهن سوى صمت مطبق ونظرات غريبة غير مبالية بشيء حولها أو هي تبدو كذلك ؛ نظرات تائهة تتوارى خلفها هواجس حزن خرساء تشخص في مكان وزمان مجهولين ؛ تشخص بعيدا” بعيدا” بلا قرار فتترك خلفها متاهة” يائسة لفراسة طبيب يعيش في بلاد منسية لم تأبه لها الحياة . وفجأة” تخترق السكونصرخة” من اليتيمة الصغرى يجتاز صداها الأليم المشاعر والأحاسيس ، صرخة انطلقت بدون مقدمات ودفنت أسبابها في أعماق هذه الطفلة البريئة حيث تتجسد في نفسها صورة للألم لن يشعر بها أحد سواها ، فيسعى الطبيب سعيه مع الأرملة لتهدئة الطفلة العليلة فيقدم لها الماء ويبذل جهده لخلق لحظة طمأنينة تعود بعدها الطفلة الى سكينتها وينتبه الى الأرملة التي أطرقت ببصرها الى الأرض وهي تبدأ بالبوح وكأنها تناجي نفسها بصوت منخفض :
خفق قلبي في تلك الليلة فلم تهدأ نفسي المرتبكة من خوف مجهول ، خوف لا أستطيع البوح به لمن حولي وصراخ أبكم ملأ صداه خيالي ، صراخ ينبئ بمرارة الزمن الآتي من عمري المبعثرة أوصاله في هاوية الفجيعة ، تمر لحظات مثقلة بالظلام لتوصلني الى ساعة الفزع المرعب يدق بابنا ليلا” تتبعه بلا هوادة أصوات الرصاص وشظاياه المتطايرة في المكان ليملأ الأرواح فزعا” يبدد أحلامها البريئة ويحيلها الى صراخ مرعب ، تتبعها خطوات أشرار تاهت ملامح وجوههم بأقنعة لم يظهر منها سوى الشر المتطاير من أعينهم البلهاء ، وتمنيت حينها ودعوت ربي أن يكون ما أراه جنونا” قد أصابني أو كابوسا” سينتهي . لحظات لم أتصورها ولم أكن أتصور يوما” أن تعجز أجنحتي عن حماية أسرتي ؛ كنت أظن أني قادرة على تحطيم الأهوال من أجل حمايتهم من كل شيء .
ثم صمتت الأرملة قليلا” وأجهشت بالبكاء فانهمرت الدموع من عينيها ثم عادت تواصل حديثها :
عيناي تنظران اليهم وقلبي يخفق بقوة ؛ كانوا يذبحون زوجي وأبنائي لم يأبهوا الى صراخي وتوسلي بهم ، تمزق قلبي فزعا” ورعبا” وأنا أشاهدزوجي وأولادي يسبحون بدمائهم ؛ بلى رأيت رعشة الموت الأخيرة تسري في أجسادهم المذبوحة وكان صراخ بناتي ليس له حدود ، صرخن بجنون حتى فقدن وعيهن تماما” وعندها أحسست بأن أقدامي عاجزة عن حمل جسدي المنهك ، أطرافي مشلولة ومعطلة لا تتحرك وأنعقد لساني فلم أستطع مواصلة صراخي وغشتني ظلمة حسبتها غشاوة الموت جعلتني أسقط أرضا” على وجهي فتحسست حينها لزوجة الدماء التي ملأت أرضية المنزل ، دماء زوجي وأولادي .وبعد يومين حينما أفقت من أغمائتي وجدت نفسي راقدة في المشفى وترقد بناتي على أسرّة حولي احداهن قد فقدت النطق والأخرى لا تفارق الصراخ ولا يفارقها فهي تصرخ بجنون ليلا ونهارا” ؛ والثالثة تقضي الليل بكاءا” لا تعرف للنوم سبيلا” .
ثم رفعت الأرملة عينيها الى الطبيب الذي أجهش بالبكاء وهو يحاول أن يخفي تساقط الدموع من عينيه بكلتا يديه دون جدوى .