الدکتور سامان سوراني
بما أن التسامح هو، کما يراه الفیلسوف الفرنسي François-Marie Arouet المشهور بـ “فولتیر”، نتیجة ملازمة لكینونتنا البشرية وليست سبب، يظل التسامح رغم الإقتتال والتعصب والتطرف في الأفكار والرؤى المسيطر علی عالمنا المعاصر المبدأ الرئيسي لأي مجتمع منفتح، بل هو مقوم أساسي من مقومات التفلسف والديمقراطية وحقوق الإنسان.
فشعار التسامح، الذي يرفع اليوم عالمياً لمواجهة ما يتصف به عصرنا من مواقف وسلوكيات تميل إلى التطرف وتمارس العنف هو من الشعارات الإيجابية، بعد أن تراجع الإتجاهات الفكرية والسياسية الأحادية، التي کانت تقترن بالوثوقية أو الدوغمائية وتغلق باب الإجتهاد ولا تسمح بالإختلاف وتمارس الإستبداد وإقصاء الآخر.
لقد كان “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” سنة 1948 بمثابة تغيير في براديغم النقاش حول التسامح، وهذه المرة على مستوى الإنسانية.
ففي الفقرة 18 منه يذکر بأن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.”
اليوم يتسع الإقرار بالتعدد، وينتشر ثقافة الحوار والمشاركة، التي هي أساس كل بناء ديمقراطي سليم في الكثير من مناطق العالم.
أما التراث التاريخي للقائد الخالد مصطفی بارزاني کمصدر إلهام ومنبع للدروس والعبر فقد أغنی المجتمع الكوردستاني بمفاهيم قومية ووطنية مليئة بالتسامح والإنفتاح علی أتباع الدیانات وقبول الآخر والصداقة والتعايش بين الأقوام والأديان والمذاهب والحوار السمي والتعاطف مع محنة المرأة الكوردستانية ونصرة الفقراء وإحترام معتقدات وطموحات الشعب المشروعة.
لذلك نری تأكيد الرئیس مسعود بارزاني، الحامي لهذا التراث العظيم، في أكثر من مناسبة علی التسامح والسلام والتعايش المشترك والتفاهم حول الأهداف والغايات والتّعاون على العمل المشترك من أجل تحقيقها، بإعتبار كل تلك المفاهيم رسالة شعب كوردستان الأسمی في مواجهة التطرف والعنف المفرط و سلب الحرية و بروز النهج الدکتاتوري والإستبدادي.
هکذا إستطاع إقلیم كوردستان أن يتحول من ساحة إقتتال وحرب الی موطن للتعايش والتسامح والحقوق والحريات لكل مكوناته القومية والدينية وصار معقلاً للتعددية الدينية والقومیة. إذ أصبح إقلیم كوردستان ملاذاً آمناً لمئات الألاف من النازحين واللاجئين والوافدين من المحافظات العراقية الأخرى و من سورية بسبب الهجمات الإرهابية والعنف والإقتتال الداخلي، فراح شعب الإقلیم بمساندة حکومته يطلق الحملات، وينظم الفعاليات بهدف تقليص الآثار السلبية عليهم، عبر إيوائهم في أماكن مخيمات سكنية لائقة، حیث قدم لهم المعونات والمساعدات الطبية والعينية والمالية، بما يعينهم في تخطّي أزمتهم وتجاوزها.
صحیح أن الإيمان يحصل بالاقتناع الذاتي، ولا يمكن أن يُفرض من الخارج والقيادة الكوردستانية الشابة والطموحة تعرف بأن التسامح هو روح كوردستان، فهو ليس فضيلة فحسب بل هو ضرورة وجودية اجتماعية وثقافية وسياسية.
فمن أجل تحصين واقعنا أمام كل مخاطر الدوغمائية والتعصب الأعمى الذي يمكن أن يحيط بنا ويستهدف وجودنا وتطلعاتنا، تعمل هذه القيادة في هذا الزمن المليء بالتحديات مع شعب كوردستان کفريق واحد علی تعزيز وتعميق ومحافظة ثقافة التسامح، لأنها تدرك بأن المجتمعات البشرية، خاصة مجتمعات منطقة الشرق الأوسط، تعاني من تفاقم مظاهر التعصب والعنف واللاتسامح.
هذە المظاهر تؤدي بدورها الی إحداث خلل في الأسس والمبادئ والقيم التي تحكم العلاقة بالآخر لدرجة إقصائه فكرياً وسياسياً ودينياً وإنسانياً، لأن مآل غياب التسامح أو تغيبه هو سيادة عقلية التحريم والتجریم.
إنّ الشعوب والأمم العظيمة هي التي تدرك أنّ سرّ قوّتها في محبّة أبنائها وتسامحهم فيما بينهم، فتحمي بذلك مجتمعاتها ومكتسباتها، وتصنع لأجيالها حاضراً ومستقبلاً أفضل، بل تشكّل من خلالها جسوراً متينة بين مختلف الثقافات والحضارات.
وختاماً يقول فولتیر: “التسامح قيمة إنسانية، يجب أن تسود العالم، على اختلاف أشخاصه ولغاته وأماكنه ودياناته وعاداته، أي يجب أن يكون التسامح تسامح مطلق، ويجب أن يعم سلام كلي ودائم للكون”، وهذا ما نتمناه للمنطقة وللعالم أجمع.