يصف الناس بعضهم البعض بصفة إزدواج الشخصيّة حتى صار هذا المصطلح تعبيرا شائعا خصوصا في مجتمعاتنا. يقصد بهذا التعبير عادة كلّ التصرفات المتناقضة والأفعال المزدوجة المتباينة التي تصدر من شخص معيّن نحو هدف معيّن أو أهداف مختلفة. ورغم شيوع هذا المصطلح وتردده على
ألسنة الناس، بقي الغموض يكتنف المعنى الحقيقي والعلمي له، إذ ليس هناك تعريف واضح يوصّف هذه الظاهرة. كما تنقصنا الدراسات الإجتماعية والنفسيّة التي تبحث عن أسباب الإزدواج ودواعيه، أو تلك التي تحدد مواقع الخلل في تركيبة الشخصيّة وتدرس ميكانيكيّة هذا التصرّف. كان الباحث العراقي الدكتور علي الوردي الرائد الأول في وصف هذه الحالة الإجتماعيّة والتأشير على حيثياتها وعناصر وجودها، لكن الدراسات في هذا المضمار تكاد تكون متوقفة عند حدود الوردي حيث لم يحصل تجديد أو تعمّق أو إستمرارية في البحث والتنقيب في هذا المجال رغم أهمية هذا الموضوع من الناحية النفسيّة والإجتماعيّة.
إنطلاقا من هذه الحقيقة وجدت بأن ” التحرّش” بأهل الإختصاص من خلال هذه المقالة ربما يؤدي الى تحريك ساكن أو يلفت النظر الى أهميّة هذا الموضوع والى ضرورة السعي من أجل البحث في ماهيّة ظاهرة الإزدواج والخوض في تفاصيلها. من أجل فهم المعنى الحقيقي وراء ظاهرة إزدواج الشخصيّة وتحديد مكانها في شخصيّة الإنسان ومعرفة ميكانيكيتها علينا، سابقا ذي سبق، أن ندرك ما هي عناصر الشخصيّة التي تشترك في بناء مركب الشخصيّة وأين هو مكان الإزدواج فيها .
شخصيّة الإنسان تتركب من ثلاثة عناصر رئيسيّة وهي : المظهر والجوهر والإستجابة (التصرف). فعنصر المظهر يعني بشكل الإنسان وهندامه ومميزاته العامة الأخرى كالمميزات الماديّة والسلطويّة. أما عنصر الجوهر فينشأ من عاملين أساسيين وهما الإدراك ” العقل” والإحساس أو ما نسميه بالعاطفة أو ” النفس”. هذان العاملان يتأثران في نشأتهما بفعلين رئيسيين وهما فعل الوراثة ” الجينات” وفعل المحيط الخارجي الذي يتلخص بالبرمجة الفكريّة الحاصلة من بواعث التربية والثقافة والمجتمع والمعتقدات والتقاليد والعلم والخبرة الشخصيّة وغيرها. أما العنصر الثالث في مركب الشخصيّة فهو عنصر الإستجابة أو التصرف وهو عبارة عن المحصلة النهائية في توافق العقل مع النفس تترجم بتصرفات المرء وأفعاله وأعماله. أي أن كلّ تصرف يصدر عن الإنسان هو عبارة عن قرار نهائي إشترك في صنعه إدراك المرء وإحساسه.
وهكذا فان موقع إزدواج الشخصيّة في مركب شخصيّة الإنسان، من وجهة نظري، يجب أن يكون في منطقة الجوهر، أي منطقة الإدراك والإحساس لأنهما العنصران الحقيقيان في تركيب الشخصيّة. على هذا الأساس أستطيع تصنيف أنواع إزدواج الشخصيّة طبقا لمكان الخلل أو أساس نشوء التصرف الى الصنوف والأقسام التالية :
1- إزدواج الشخصيّة عقليّ المنشأ : وهو إزدواج في التصرف ينشأ نتيجة لإزدواج في الإدراك أو في العقلية. هذا التصرّف المتناقض يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة. الأمثلة على ذلك كثيرة منها : تعايش الفرد في مجتمعين مختلفين في السلوك والعادات والثقافة، كمجتمع الحضر ومجتمع البادية، حيث قد تنشأ عند نفس الشخص مفاهيم متباينة طبقا للمكان الذي يتواجد فيه، يتصرف على أساسها بتصرفين متناقضين. فيسلك بعقليّة أهل البادية حينما يكون في البادية ويسلك بعقليّة أهل الحضر حينما يكون في المدينة. هذا الإنتقال من شخصيّة الى أخرى يحصل من دون جهد أو تكلّف وكأن المسألة تسير بشكل ميكانيكي وتلقائي، حتى راح الدكتور الوردي بعيدا في وصف هذه الحالة، حينما شخص هذا التصرف بالتصرف ” اللاشعوري”!.
لا يمكن أن نعتبر هذا النوع من الإزدواج مرضا إجتماعيّا أو خللا في جوهر الشخصيّة، بل على العكس من ذلك، فهو تصرّف إيجابي وصحي يجاري ضرورة الحالة الإجتماعية التي يتعايش معها الفرد ويشير الى مدى المطاطيّة في طبيعة الشخصيّة وخصوصيّة تكيّفها طبقا للظرف والحالة. لا يشعر المرء الذي يتصرف بهذا السلوك المزدوج بتأنيب ضمير أو بأحاسيس سلبية نتيجة لهذه الممارسة، بل على العكس حينما نطلب من الشخص ذو المفهوم المزدوج أن يسلك بعلقية أهل البادية في المدينة أو بعقلية أهل المدينة في البادية فإن هذا قد يسبب له إحراجا ومضايقة لأنه خارج نطاق مفهومه الخاص بضرورة المرحلة.
الأمثلة كثيرة عن إزدواجيّة التصرف نتيجة لإزدواجيّة المفهوم، فمن الأمثلة الشائعة الأخرى التي نراها اليوم هو تصرفات بعض المغتربين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية ويندمجون فيها وتتكون لديهم مفاهيم جديدة. فهم يتصرفون بالسلوك الغربي حينما يكونوا هناك، بينما ينتهجون سلوك البلد الأم حينما يزورون أوطانهم. لا أقصد هنا من يعيش في الغرب ولا يندمج في مجتمعاته، فهؤلاء يبقون محافظين على مفاهيمهم السابقة وتصرفاتهم تبقى كما هي سواء كانوا في بلدان الغرب أو في بلدانهم. فمن لم يتكون لديه مفهوم جديد لا يتصرف بتصرف جديد.
2- إزدواج الشخصيّة نفسيّ المنشأ : هو إزدواج في التصرّف ينشأ في منطقة الإحساس في مركب الشخصيّة نتيجة لتناقضات أو إختلافات إحساسيّة. التناقض في التصرف هنا ينطلق من تناقض الأحاسيس المتضادّة إتجاه هدف معين واحد، مثل المحبة والكراهية أو الرقة والعنف، أو بين الأحاسيس المتباينة المنطلقة نحو نفس الهدف، كالغيرة والمحبة أو الخوف والكراهية. حالات تناقض التصرف بسبب تناقض الأحاسيس أمر غير نادر والجميع شهد أو شاهد أو سمع عن حالات كهذه، فكم من مرّة يتساءل المرء مع نفسه عن تصرفات شخص ما: هل هذا الشخص يحبني أم يكرهني؟، وهذا التساؤل ينطلق بسبب التصرفات المتناقضة الصادرة عن ذلك الشخص التي تشير بأنه يتصرف بشكل متناقض وبسبب شعور متناقض مثل (الحب والكراهية). هذه الظاهرة ترجع في أسبابها، في الغالب، الى أمور تتعلق بوضع الشخص النفسي وحالته النفسيّة التي تتناقض فيها الأحاسيس.
كما أن بعض تصرفات المرء قد تشير الى محبته لذات ما بسبب الخوف منها ثم ما يلبث أن يناقض ذلك بتصرفات تبيّن الكراهية والحقد لنفس الذات حينما يكون في مأمن منها أي أن تناقض التصرف هنا يحصل بسبب إختلاف الأحاسيس( الخوف والكراهية) . في مرات عديدة يأتي الحبيب بباقة ورد الى حبيبته تعبيرا عن الود والمحبة وما يلبث بعد برهة حتى ينقلب هذا الود الى نزاع وتخاصم ينبعان عن عوامل الغيرة، وهو مثال آخر عن تناقض التصرف بسبب إختلاف الأحاسيس(الحب والغيرة). الأمثلة كثيرة على تناقض الأحاسيس أو إختلافها التي يتبعها تناقض في التصرف. على القارىء الكريم أن يدرك بأن وجود أحاسيس متناقضة أو مختلفة ينتج عنها تصرّف واحد في نهاية المطاف لا يعتبر ” إزدواجا” في الشخصيّة لأن من شروط الإزدواج هو وجود تصرفات متناقضة وليس تصرّف واحد رغم تناقض الأحاسيس أو إختلافها. كما أن من شروط الإزدواج نفسيّ المنشأ هو أن تكون التصرفات المتناقضة: متوالية، غير متباعدة بالزمن، متكررة، وبإتجاه هدف واحد.
3- إزدواج الشخصيّة التناقضي أو “تناقض الإدراك مع الإحساس”: هنا يكون التصرف المتناقض ناشىء عن تناقض بين إدراك المرء وإحساسه، فمفاهيمه ومعرفته وإدراكه تحتم عليه سلوكيات محددة يستجيب لها ويتصرف على أساسها، لكن أحاسيسه تدفعه الى تصرفات تناقض القيم والمفاهيم التي يمليها الإدراك فيتصرف طبقا لذلك بمكيالين مختلفين يناقض أحدهما الآخر. هذا يفسر السلوك المتناقض لدى من يصوم في النهار ويحتسي الخمر بالليل أو من يصلي ويسرق أو من يمارس الطقوس الدينية في المسجد أو الكنيسة ويقترف مؤاخذات جنسيّة قد تصل الى حد الجريمة. أي أن الموازنة الإجتماعية بين المحضور والممكن تختل عند هؤلاء لسبب أو لآخر مما تجعل المرء غير قادر على كبح جمام أحاسيسه الغريزية أو الفسلجيّة، فيقوم بتلبية أو إشباع أو تفريغ هذه الأحاسيس بالصورة التي تخالف متطلبات الإدراك، وهذا ما يؤدي الى تناقض في التصرف الإجتماعي. خلافا لحالة إزدواج الإدراك فأن التناقض بين الإدراك والأحساس قد يؤدي الى حالة تأنيب الضمير أو ربما يمتد صراع النفس مع النفس الى درجة الإصابة بأمراض نفسية أو عصبية. هنا مرة أخرى يجب أن نقول بأن تناقض الإدراك مع الإحساس لا يمكن إعتباره إزدواجا في الشخصيّة مالم يتمخض عن تصرفين متناقضين أحدهما بوازع الإدراك والآخر بوازع الإحساس. الكثير منا يحصل عنده تناقض بين إدراكه وإحساسه في مواقف معينة، لكنه في النتيجة يتصرف بتصرف واحد تبعا لإدراكه أو تبعا لإحساسه وهذه حالة طبيعية وليست إزدواجا.
على هذا الأساس نستطيع القول بأن إزدواج الشخصيّة الناشىء عن إزدواج الإحساس أو تناقض الإدراك مع الإحساس قد يشكل مرضا إجتماعيّا إن إستشرى في المجتمع بسبب المضاعفات والتأثيرات السلبية التي ستقع على الفرد أو على المجتمع برمته نتيجة لذلك. على العكس من ذلك فأن إزدواج الشخصيّة الناشىء عن إزدواج الإدراك لا يمكن إعتباره بأكثر الأحوال مرضا إجتماعيّا بل يمكن إعتباره حالة إجتماعيّة صحيّة تبرز الشخصيّة فيها قابليتها على التكيّف والموازنة، فتبدي المطاطية والمرونه اللازمة في الظرف الخاص كي لا يحصل النشاز في التصرف ضمن الدائرة الإجتماعيّة الواقعة في ذلك المحيط.
هناك بعض التصرفات المتناقضة التي قد تنشأ عند بعض الأفراد نتيجة لأمراض نفسيّة أو عقليّة أو إجتماعيّة، أسترعي إنتباه القارىء الكريم لها كي لا يتم الخلط بينها وبين إزدواج الشخصيّة الإجتماعي الذي هو محور حديثنا ومنها:
1- إضطراب الهويّة الإنشقاقي أو الإنشطاري : وهو مرض نفسي نادر يتميّز بإنتهاج المريض لسلوكين متعاكسين تماما في الطبيعة والمنهج مما يخلق شخصيتين متباينتين بأغلب الصفات وقد لا تعرف كلّ شخصيّة عمّا تصنعه الشخصية الأخرى . هذا المرض النفسي كان يسمّى سابقا بمرض ” إزدواج الشخصيّة ” وقد غيّر إسمه لاحقا، وقد أثار هذا المرض حفيظة الكتّاب وأهل السينما حيث عرض الكثير من الأفلام الأجنبية والعربية في هذا المضمار. علينا ألآ نخلط بين هذا المرض النفسي النادر والذي قد لا يمر حتى على أهل الإختصاص وبين حالة “إزدواج الشخصيّة الإجتماعي” الشائع الذي نتحدث عنه في مقالنا.
2- فصام الشخصيّة ” الشيزوفرينيا” : إزدواج الشخصيّة هو ليس إنفصام الشخصيّة، فالفارق كبير بينهما بل لا توجد صلة بين الحالتين، فالفصام مرض عقلي ونوع من أنواع الجنون يتميّز بوجود هلاوس وأوهام وضلالات. المريض عادة يبدي أوهام حسيّة فيسمع أصواتا لا وجود لها أو يرى أشياءا أو أحداثا لا أساس لها فيتكلم مع الهواء ويتصارع مع الماء!. أو يظهر ضلالات ووهم في الإعتقاد فيتصور الناس تتآمر عليه أو تريد الإطاحة به أو أن يعتقد بأن له شخصيّة متميزة وشأن عظيم بين الناس، فيرى نفسه سياسيّا بارزا أو أديبا لامعا أو شخصيّة دينية أو إجتماعيّة متميّزة أو غير ذلك، وهذا ما نطلق عليه عادة بمصطلح ” جنون العظمة”. من خلال هذا الوصف الموجز يتبين لنا بأن فصام الشخصيّة هو ليس إزدواجها ويجب ألا يتم الخلط بين المصطلحين.
3- النفاق الإجتماعي والدبلوماسيّة : أي سلوكيات متناقضة لا يصاحبها إزدواج في الإدراك أو إزدواج في الإحساس أو تناقض بينهما لا تعتبر إزدواجا في الشخصيّة بل قد تدخل في خانة الدبلوماسيّة أو خانة الخداع أو النفاق الإجتماعي وذلك حسب الحالة وحسب طبيعة الموقف ومقتضيات الحدث. لأن مثل هذه التناقضات لا تكون نابعة من إنشطار مفهومي أو إحساسي ولا من حالة تناقض بينهما، إنما يتصرف المرء تصرفات تناقض إحساسه أو مفهومه من أجل تحقيق غاية معينة أو من أجل الوصول الى هدف معيّن، ولا يمكن إدراجها ضمن مفهوم إزدواج الشخصيّة الذي ينبع من جوهر الشخصيّة وليس من خارجها.
4- التصرف التناقضي المرحلي: التغيّرات الحاصلة في مفاهيم الإنسان وأحاسيسه ثم تصرفاته وممارساته في مراحل زمنيّة متفاوتة من حياته لا تعتبر إزدواجا في الشخصيّة لأن هذه التصرفات المتناقضة لم تحصل في نفس المرحلة الزمنيّة، إنما تعتبر حالة تطوريّة طبيعية. فمن كان في شبابه مبتذلا وماجنا وتبدل في مراحل أخرى من حياته وأصبح عابدا زاهدا، لا نعتبره أبدا مزدوج الشخصيّة، كون التناقض قد حصل في مراحل مختلفة من العمر وليس آنيّا أي في نفس الوقت والمرحلة.
5- إزدواجية الجوهر مع ثبوت الإستجابة : أي إزدواجيّة في الإدراك أو في الإحساس أو تناقض بينهما لا تتصاحب مع إزدواجيّة في الإستجابة لا تعتبر إزدواجا في الشخصيّة. فلو تضاربت الأفكار والمفاهيم أو تحفزت الأحاسيس الثنوية المتضادّة نحو هدف معيّن أو حصل نزاع عاطفي عقلي عند الإنسان ونتج عن ذلك تصرّف واحد ثابت ملتزم بمفهوم ثابت أو بإحساس ثابت، فإن ذلك لا يعتبر إزدواجا لأن الناتج النهائي هو فعل أو تصرف واحد ثابت. أي أن المعادلة في منطقة جوهر الشخصيّة قد حسمت لمفهوم معيّن أو لإحساس معيّن وأنبعث تصرّف ثابت عنهما.
بتلخيص ما ورد ذكره نستطيع أن نعرّف إزدواج الشخصيّة الإجتماعي وحسب التصنيف الجديد وضمن فهمي الشخصي للحالة بأنها: حالة تناقض آني في التصرف بإتجاه هدف واحد أو عدة أهداف، يشترط فيها التكرار والإستمراريّة في الفعل وتنشأ في منطقة جوهر الشخصيّة أي منطقة الإدراك والإحساس وتقع على ثلاثة أنواع : إزدواج إدراكي أو عقلي، إزدواج إحساسي أو نفسي، وإزدواج تناقضي ناشىء عن تناقض الإدراك مع الإحساس. الأول لا يعتبر مرضا إجتماعيا إنما هو حالة تكيّف للشخصيّة في ظروف إجتماعية متباينة، والثاني والثالث قد يشكلا معضلة إجتماعية إن تزايد زخمهما في المجتمع. أي إزدواج في جوهر الشخصيّة لا يتصاحب مع إزدواج في الإستجابة لا يعتبر إزدواجا في الشخصيّة، كما أن أي تناقض متوالي في التصرف لا يصحبه تناقض في مكونات جوهر الشخصية لا يمكن إدراجه في قائمة إزدواج الشخصيّة الإجتماعي بل يدرج ضمن مصطلحات إجتماعيّة أخرى. بمعنى آخر، أن إزدواج الشخصيّة يشترط إزدواج الجوهر وإزدواج الإستجابة (التصرف) في آن واحد.