نص” جروح ميتة ” .. و مفاهيم التأصيل لثقافة مضادة للفكر الشاذ
في التعاطي الجريء مع تجارب تنسج خيوط عوالمها مشاهد الجنائزية والموت، ثمة مناقب عدة تؤثث شعرية المسار الإبداعي لدى الشاعر العراقي المتألق كاظم خنجر،وتمنحه صبغة خاصة و منزلة الصدارة بين مُجايليه ممن تستحوذ على انشغالاتهم الأدبية والفنية درامية وفوضوية ودموية الراهن في كلية تناقضاته ومفارقاته.
ولست أجد حرجا يذكر في نعت رجل من هذه الطينة النادرة ،بالهامة الإرباكية التي لا تعقّ سرب الغوغاء والأقنعة الكلامية جزافا ، و لا تستعدي سائر ما يرفد في ذلك من باب العبثية و الارتجال ،بقدر ما المطارحة أعمق التحاما بالوازع الإنساني والهدف السامي النبيل .
هامة استثنائية تختزل وعيا جمعيا في واحديتها وصوفية تصوراتها فضلا عن أنها ما تنفكّ تستمدّ ديناميتها من عصارة ونبيذ ما يختمر في كواليس جماهير الطبقات السفلى ، وتنهل بنهم من إشكالات فلسفية ووجودية وحياتية عموما .
هامة عالمية يخجلنا الافتقار إلى الكلمات الأنسب لوصفها هي و الاحتفاء بها وإحاطتها بالإطراء الذي تستحقّ .
كونها تستفزّ فينا كلّ دفين ومكبوت ، وتحرّض على خوض مغامرات القفز في متاهات اللانهائي والتملّص من خندق إغراءات اجترار المعاناة في صمت وخنوع، باتجاه مستويات إرخاء العنان لحنجرة الغضب والتمرد المشروع وتمكينها من نسج رؤية ورؤى كونية ثاقبة تنتصر للهوية والإنسان تحديدا.
وأحسب هذا ما ستشفّ عنه مقاربتنا الجمالية لنص طيفي طافح بعنصر الإثارة والتشويق، صادم بأهواله وطقوس حداده وأعياد نحيبه وامتزاج دمعه بدمه منذ العنونة وحتى آخر سطر شعري ونبض آخر حرف ناري يشجب شيطنة القتلة.
قطع رأس
نائم على بطني، يداي مربوطتان إلى الخلف. ها هي بساطيلكم تدور، تضبطون جهاز الصوت، ترتّبون الناس على شكل قوس. كان الكثير من الله ومحمد ومن شابه، في البيان الذي ألقاه أبو عبدالله المهاجر. كنت أسعى لأرى لون الحَرْبة، درجة حدّتها، وأحمل رأسي معكم، وأحتفل.
أنحنى. ضغط على المقبض. مثل سيارة طامسة بالوحل، تدور يده في مكانها.
عند الليل، أعمدة الكهرباء تمشي بالرؤوس المقطوعة إلى أجسادها بعدما تداولتها الأقدام والحراب الأميركية والذباب.
الحربة على الرقبة، كعود ثقاب على علبة كبريت رطبة، تروح وتجيء.
حين تلتمس الحرب أعذارا واهية وتختلق أسبابا باعثة على التهكم والسفاهة والسّخف، وتنشد أمومتها الزائفة بل وتستجديها من فكر دوغمائي متطرف ،فقط يجني ثماره الأعادي والخونة وسماسرة مصالح الوطن ، أنذاك ،لا شكّ ،يستعصي حدّ الاستحالة وتفشل محاولات التكهن بالنتائج المترتبة على تأليه المآرب الشخصية و تسييد الطائفية الضيقة ، وتغدو اللعبة برمتها و كأنها بعبع قيامة تهيمن على كوابيس واقعية الحلم وحلم الواقعية.
و هكذا متسلّحا بكرامته ، أعزلا إلا من تهجّم أنامله ، لا يلفى الشاعر بدا أو مناصا من اللجوء إلى نرجسيته المقبولة جدا وتفجير ينابيعها، قصد فضح المكنون وتعرية الواقع المرّ، ضمن قوالب تعبيرية باذخة تتجدّد وتتناسل مُتيحة إمكانات استنساخ الحالة الإنسانية بمعزل عن التلفيق والنفاق ، و منتشية حدّ الغيبوبة بإستطيقية بروز أسمى معانيها في مرايا الروح بين إخفاقات آدمية تقاوم شتى أشكال الاضطهاد، و بين زخم من استنطاقات فلسفية توبّخ العالم .
ويتنزّه، أي الشاعر، حدّ تقمّص شخصية أسطورية منشطرة نصفين إلى ما يموقعها ويزجّ بها في عتمة دهاليز البين بين ، فإذا هي ضحية وجلاد زمكانيا، لدرجة لا يمكث معها سوى تلبسّ صوت الحرية و التسلّح بالفطرة والنواميس السوية،و النأي الملائكي عن خيانة الضمير والحسّ الوطني والهمّ الإنساني إجمالا.
هكذا تحصل مسْرحة الانزلاق بالمتلقي في تعطّشه الوجداني وفورة استفساراته وفضوله المعرفي، إلى مناخات غرائبية تنسجها الذات الشاعرة مقتصدة في اللغة محاذرة من فخاخ الإسفاف ومعتمدة قاموس غير المألوف في التعبيرية السردية على السائد ، كما متبنية خلاف ما تتغنّى به أبواق الاعتباطية والارتجال،متماهية مع أدوار الكائن المهمّش المنسي المنبوذ، تنتابه حمى الهذيان بخريفية مصيره،و يئنّ صلصاله تحت رحمة رمح أو مقصلة شاهدة على الجرائم البشعة في استرخاص طغاتها للدم و تقيدهم بشهوة اللحظة المستذئبة في تواطئها مع فوبيا الرذيلة والفتك.
يتسارع أفقيا وعموديا نبض النفسية المضطربة والمسكونة بهواجس الموت.
انتحاري بحزام من كلمات
1
في المطبخ أسقطنا الوطن مثل صحن صغير، حاولنا الهرب من الجريمة، دسنا على شظايا الزجاج الكبيرة.
2
على رصيف المسجد، جثث ناشفة لا نعرفها. لهذا يأتي أُناس لا نعرفهم، يشترون الخشب، يجهزون التوابيت ، بينما يُقشّر المؤذن بصوته الدماء اليابسة عن سكاكين القتلة.
3
إذا أنجبتم طفلاً، علِّموه أن لا أصدقاء ولا أخوة في هذا العالم، وإلاّ أنهى عمره في حساب الجثث.
4
الأعمى دموعه تخرج من عكّازه.
5
نسير بتابوتكَ فوق السيّارة. كُنّا نبكي جميعاً. إلّا أُمّي، كانت تمشي على دموعها.
6
عند النوم أحسب أصدقائي القتلى، أجمع جثثهم، أُقسم حزني على الأحلام، وفي كل ليلة أراهم ينشفون مثل الجراح التي تُغرينا بحكّها، وما إن أبدأ حتى تسيل دماؤهم على الفراش.
7
عمركَ يجفّ بين أصابعي أيها الإنسان. عليك أن تفهم أن الجسد من رصاصٍ والطلقة من لحم.
8
تتقلب سنواتهم مثل قيطانٍ مفتوح. الذين تجمعوا في السوق قطعتهم السيارة الملغومة. كانت أعضاؤهم تسقط كمَن يحمي أحدهم الآخر. كانوا يحبّون نظافة السوق لهذا جمعوا كل الشظايا بأجسادهم، حتى أننا وجدنا السوق نظيفاً ومغسولاً بالدم.
9
علّق رجال الشرطة لافتة على البناية التي تواجه بيتنا، تحوي أسماء المطلوبين وصورهم، وهناك مبلغ كبير جداً يمكن أن يقتل كل الديوان. في كل صباح أواجه هذا اليانصيب، مفتشاً عن وجوه القتلة بين الناس، والناس يفتشون في وجهي عن القتلة.
10
يجب أن نقصّهم، الأصدقاء الذين يكبرون كالأظفار.
11
نعلم أنك تحت كتل الأسمنت والقضبان المعدنية. نعلم أنك ما زلت تتنفس لأن الصاروخ كان محاذياً لغرفتك، وها نحن نرى أطفالك العراة بجثثهم المفتتة، كما نعلم أنك تسمعنا هناك تحت الكتل الكبيرة وتُدرك جيدا أننا لا نستطيع إخراجك لأننا لا نتنفس تحت الكتل المجاورة.
تدخل في تشكيل بنية تلكم الجغرافية العجائبية منظومة مواصفات تتضافر وتتناغم كي تبصم نصا كريستاليا بامتياز يزهد في الوظيفة الذهنية أو أي التواء تشوهه التعقيدات والتراكيب المبهمة التي يسهل معها إلى حد بعيد السقوط فيما ينفّر وتعافه الذائقة كالحشو الزائد على سبيل المثال لا الحصر.
هو نص كريستالي من الدرجة الأولى مثالبه ضئيلة جدا حتى أنها لا تحتسب ولا تؤخذ بعين الاعتبار مقارنة بمزايا القصيدة وإيجابياتها الجمّة في نزوعها نحو المغاير وكلّ ما يمثل الإضافة والجدة .
لوحة كلامية مغرية ، على امتداد خارطتها يتم الالتزام بممارسة رشيقة ومقبولة لتقنية السهل الممتنع والجنوح لأسلوبية احترافية مفضية إلى أغراض قزحية تسكت عنها ما ورائيات ألوان النص، تخدم الغاية الإيديولوجية والفنية على حد سواء.
يتأتى لشاعرنا ذلك اعتمادا على تنويعات إيقاعية وانزياحات بالجملة والنّفس الفوضوي إذ يتغيا إعادة الصياغة والبناء ، وترديدات وترقيم محكم و صور شعرية متداخلة ومكثفة وتبئير مولّد لدلالات ومعان جديدة جوانية ومنطلقة من وإلى وفي حدود الذات.
وأيضا ، مؤنسنة للمكون الطبيعي وهو الأهم من حيث إضفاء نكهة خاصة وملمحا بديعيا على النسق العام وأجوائه ، كما هو الشأن في السطر الرابع” الأعمى دموعه تخرج من عكازه” .
السابقة دالة على الإعدام،وهذه محيلة على الانتحار، بيد أن الانتحار الآخر ذروة ما تزدان به أولويات شاعرنا وتنتشي به جوارحه ، كون البوح أجل وأقدس من أن يفنى أو تطاله عوامل المحو ،شريطة أن يتسربل هذا الأخير بهلامية تخوله الظفر بقابلية إسقاطه على الراهن والتعالي على الترجمة الحرفية المملّة لتفاصيلنا الحياتية والسباحة مع تيارات الترويج لقران ديني ــ سياسي موغل في الشرخ ممزق للهوية معمم للفوضى والدمار.
لحم أخضر
أملك فتحة في القلب، تتسع كلما ضحكت. تدخل وتخرج منها الحروب.
أملك ندبة في وجهي، عميقة وغائرة، تنزف كلما طارت عيونكم حولها. حصلتُ عليها من حزام ناسف، عندما تركتك يا مهند فاهم تذهب وحيدا إلى “شارع المكتبات.”
أملك مقبرة صغيرة في غرفتي، تكفي لعين واحدة وبعض الأصابع.
أملك مسدساً فيه الكثير من الجراح الميتة.
في سياق سريالي يترنم خطاب الحماسة متقنّعا بفورة الغاضب الهادئ، تقودنا الذاكرة المترهلة والمثقلة بجور التراب والشياطين والأشباح، تقودنا إلى فضاءات الحكي عند نقاط احتكاكات رمزية والتحام مخمليّ بميكانيزمات ذات صلة بالجسد في استعباد الغرائز له والبهيمية والنزوات حال تغافل وتناسي الوظائف الحيوية للروح كمحرك لا يحيد عن جادة الصواب والوسطية والاعتدال الذاتي والموضوعي في ذات الآن.
و لا جرم أن يتدرّج شاعرنا في استدعاء أدوات الإبادة المادية والعقدية، لينتهي بآلة / المسدس كشاهد على عصرنة الفتك والتفنّن في صناعته ،كأغرب مفارقة تخدم الفكرة الأم وإن تشظت وتشعبت عبر جسد النص ككل،لتؤول انتهاء إلى ما يشدّها إلى نواتها الأصلية ،ويربطها بجذورها البلاغية المتشبّعة بالإستعارة الكلية في استحضارها مفاهيم حداثوية مؤصلة لثقافة تجريدية مناهضة لفكر التطرف والدوغماية و الشذوذ وارتكاب المجازر بغير وجه حقّ اللهمّ إرضاء للجنون البشري و الهيستيريا السلطوية والأنانية المريضة.
أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي/22/11/2015