نجاح إبراهيم
تلبس لغتها معطفا يقيها من برد الدوال..!
“حسن بيريش”
(1)
“كنْ صوتي
لأكنَ صداك”.
لما قرأت عبارتها، ذهبت لأستعير صوتها، وأهبها صداي. ثم ما هي إلا ثوان، قضيتها جالسا في صالون نصها، حتى تبين لي، أن لا صوت يعلو فوق صوتها. ولا أصداء ثمة غير صدى يدي التي صدقت أنها صوت.
يا لذكاء محبرتها،
ويا لغباء يراعي..!!
لفرط اتساع مسافة مكرها، ضاقت مساحة حبري. لشدة رواء لغتها، ارتبك وثوق أبجديتي. ولغزارة سيول مجازها، انحبس ماء استعارتي. وما من مفر منها إلا إليها.
وها أنا أبحث عن وعدها، فلا أجد غير أطلال موعدها. وألوذ بصمتها، فأتعثر بصوتها. فلا الخطو يفتح طريقا نحو صقيعها، ولا الطريق ينفتح على اعترام اتقادها.
الآن، ستتنصل من الصوت، تنصرف عن الصدى، كي تتركني رهين محبسين، أحدهما يضاعف تحديقي، والآخر يجلو كنه دهشتي، قبل أن يمشي كلامها على حبل من وجلي، فأسقط على أم لغتي، وتعلو هامة شغبها.
“كيف قلب ثوبه
ليصبح بلواي؟!
وفي الطريق كنته
وكأنني في خطاي”..!!
(2)
احترس وأنت تقرأ أورادها في ليالي ولعك بحرفها. ثمة أكثر من مطب قد يربك تهجدك، قد يفقدك توازن خشوعك. وبدل أن تكون على متن امتلائها، تغدو على متن فراغك. لذا، اتل ما تيسر من سورة تفردها، وغص في يم نصها.
“وقلبي..
إذ نادى من حجره،
إني مسني العشق
وأنا في الشوق غريق،
فمن يفتح الخطو في الطريق
وتلك الأحمال من عطره؟!
أغثني
يا إمام العاشقين!”.
وسوف تعود خائبا، وخالي الوفاض، إذا فتشت في نصها عن فلذات المتصل، وتعاميت عن كلية المنفصل. وذلك لأن يدها مفطورة على محو ما اكتمل، ثم صوغ ذاك الذي ما يزال في مهد التطلع يتشكل كي يقفز، ينمو كي يتخطى. وما من لحد ثمة، لأن جثمان الغياب، في رؤى النص، تم تشييعه من لدن أزلية الحضور، في نص الرؤى.
“لست وحدك في الاحتراق!
جهاتي
ومدني
ولون أرغفتي،
حتى بللور حزني
يعرق من سر الاشتياق”..!!
(3)
“لقد فاض عطري
على قواريرك…”.
سر كتاباتها يجد علانيته في الاختلاف. وجهر تفردها يكتمل همسه في سرائر التعدد. إذن، لا صبوات ترتجيها في سردها، دون اتفاقك مع اختلافها. كما لا شهوات ترتجيك في شعرها، دون اختلافك مع اتفاقها..!!
وعوض أن تنظر إلي بريبة، وتتهمني بالإسراف في الهذيان، انظر إلى نجاح إبراهيم بإعجاب، واتهمها بالضلوع في قلب نظام المعنى، والتٱمر على إدهاشي أنا..!!
“أشيحي نقاءك واطو الهدب
ونامي،
فما الحياة إلا تفاحة فاسدة!
وماكان هذا الحلم إلا كاذبا
كنشرات الأخبار،
وابتسامة الطغاة
مضللا كألسنة القساة،
نامي،
حتى فجر آخر
يحثك على القيام”.
نجاح إبراهيم تقوم بالسطو علي، تحرض لغتها على خطفي، من أول عبارة حتى ٱخر نقطة، في نصوص منزوعة الفتيل لا يشبه ظل جنونها سوى قامة تعقلها..!!
(4)
“يا بَعضي!
يا كلّي!
يا انبهارَ قصيدة
راودتني عن رؤاي”.
ما من مرة قرأتها، ساردة وشاعرة ودارسة، إلا وتبدت لغتها، الموارة بشجن الإشارات، الٱهلة بجزر المجازات، والمنظورة لأبعد الأرخبيلات، أمام تفحصي كما مسدس كاتم صوت، لا يترك خلفه جلبة، وإن كان يخلف أمامه قارئا مضرجا بدماء الافتتان، في النزع الأخير من الإبداع..!!
“كالماء السّاكن أشتهي
وجهَك،
يُشرقُ صبحاً منتظراً
في مراياي
فمن أنتَ؟!
هل أنتَ وهجٌ لامسَ عطري
وأيقظَ اليَمام في صدري
أم بحرٌ أدورُ بفلكه
لأدركَ أنّ ما أدور فيه
هو أناي؟
إنها، نجاح الاسم والمسمى، تلبس لغتها معطفا يقيها من برد الدوال، وتتركنا عرضة لزمهرير الأقاصي، حيث يطوح بنا كل تشبيه مجبول على الاعالي. كل تورية تبلغ من الفرادة عتيا. وكل بديع شب عن طوق المحايث، وفطم عن المخاتل، لكي يرضع من جوامع غير المطروق إلا لماما.
“فيُذهلني حضورُ القصيدة
نديةً كالعشبِ
كآلهةِ الحُبّ
فيورقُ في رئتي حريقٌ
من اللّهبِ إلى اللّهبِ
أنضجُ كروماً وخُبزاً…”.
(5)
لا تصوف خارج رواء الأنثوية، ولا أنوثة في منأى عن ماء التصوف. بذلك، يشهد نص نجاح، وهو يتوغل في شهوات المعارج، ويطوف حول براق الذوات.
“لو رآها “الشيخ الأكبر”
لعوّل كلّ شيءٍ عليها…”..!!
سلْهَا عن أوجاع الأنوثة في رقعة النص، وعن انصهار أمكنة النص في غياهب الأنوثة. لا، لا تسلْهَا هي، بل عانق كتابتها، اطو صفحة المذكر، وارفع شراع المؤنث، ثم مارس إبحارك صوب مرافىء أصل الوجود، وسبب النزول.
“ما فعل “صباحُ الأنوثةِ” فيها
عن برارٍ تفتقتْ شَجراً
في أوردةِ دمِها
عن قمرٍ ترك ضوءه
على زهرة خدِّها
عن نجمةٍ خَضراءَ ترامى عطرُها
فوقَ ليلِ شعرِها…”.
رموز أنوثة تقيم في مرتفعات المضمر، تصعد إليها مجاز لا حد لانبثاقاته، لانبجاساته المضيئة كشهب في سماء أجساد تجهش بوابل الإيحاء، وتذرف مدار الرؤى.
بينما المتجلي، الخفي، المنغلق، المنفتح، ينوس بين إسقاط من ري ذاكرة الجرح يأتي غيثه، وموقف من شسوع الذات المتشظية يجيء زفيره.
“سلْها..
عن صَلاةِ نَحلٍ رتّلَ حلاوةَ الأزلِ
في مآذن شهدها
عن ” إياز” وسلطانٍ
أضاعَ “سمرقند” لأجلِ خَالٍ
يا لحجم خديعته
إن علم سرَّ خالِها!”..!!
(6)
بمكر أدهشني، تخطت نجاح إبراهيم المتن الشهرزادي، كي تنبش في ركام السرد الشهرياري، وتذهب بنا نحو منجز لا يفصح عن ذاته إلا انطلاقا من عقدة شهرزاد.
ذاك هو ما هزني، وأنا أهب وقتا لكتابها: “قراءة في السّرد الرّوائي الشهرياري”. دراسة مشمولة بعمق نقدي، وممهورة برؤى غميسة، جعلت المتلقي، بذكائها البارز، يدرك الفوارق بين سرد يتوالى تحت تهديد السيف، وحكي يتفاقم تحت التهديد بوهم الفحولة..!!
“شهرزاد الكاتبة،
تتعاطى الأدب كالتنفس،
كما تتعاطى أبداً
العزلة الموحية والوحدة المتألمة
والحزن المتوارث”..!!
ومن أحوال سرد شهريار، إلى مقامات سرد شهرزاد، عادت، نجاح الناجحة، إلى المتن النسائي في كتابها الفذ: سادنات السرد عند حافة إثمدهن الأسود / قراءة في سرد المرأة”، الدراسة التي رأيت حبرها “يقرع الأجراس في دماي”، كما أحسست بلغتها تضعني “أمامَ شمسِ أنوثتها”.
(7)
تقرأ شكل تعاطيها مع السرد القصصي، ينتابك اهتزاز لأنها تجعل النص يشتبك مع نفسه، قبل أن يعري واقعه. وتلوذ ببنيات الحكي عندها، فتكتشف أنها ترى أبعد مما يجسده النص نفسه.
وتحار: أهي كتبت قصة لتعبر عن موقفها من العالم..؟ أم صاغت نصا يعبر عن موقفه من الكتابة..؟ وفي الحالتين، ليس ثمة سوى نص وكاتبة يتبادلان الأدوار في لعبة سرد متسم بالإغواء، شكلا، ومطرز بالإرباك، محتوى.
وكل مجموعة قصصية لها، تتفوق على سابقتها، في رهان سردي لا يتوقف أواره إلا ليبدأ انصهاره. وليست هي من تلاحق النص، كي تكتبه، بل هو من يصطادها، في كمائن رغائبه المشتعلة، كي يكتبها.
بين قصة تلوذ بها، رواية تلجأ إليها، وشعر يسخو بها، ثم دراسات تضيء فيها، ما فتئت نجاح، أيقونة سوريا، تلهو بأجناس الأدب، كي تجعل المتلقي يرقص إبداعا.
(8)
“شامخا
يعتلي العطرَ”.
وها أنا أنوس، من جديد، بين الصوت والصدى، يدركني السؤال، دون أن أدرك الجواب. وبينهما لا أعرف لخطوي مسارا يقود إلى غير نجاح إبراهيم.
أكنت صوتا
وأنا ألاحق ريح صداها
في صداي..؟!
أم كنت صدى
وهي تطارد ظن صوتي
في يقين صوتها..؟!