د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة–2014
# (زينب على حالها تلك منذ ساعات ، ربما منذ سنين ، نصفٌ محجوب ونصفٌ مسفوح . امرأة في العراء لا شيء يسترها ، ، لا أحد يقف بينها وبين أن تُهتك حتى الله)
# (هذه المرة صفعها لكن ليس بيده بل بأن ناكها . لم يكن ذلك الذي فعله ويسمّيه الجماع ، أكثر من ردّ مغتاظ ، مسبّة ، نفس المسبّة والشتيمة التي يتلفظ بها أولاد الشارع في سبابهم اليومي . لا فرق إلا أن هذه السبّة ليست لفظية بل فعلية )
# (.. لكن ذلك اليوم اختارت أن تكون مع الله ، بين يديه وحده ، تحمده وتسأله أن يشفي جراحها . بدا كأنه جل وعلا يركلها بقدمه ، ويقصيها عنه . فجأة أعاد الحدث نفسه ، ليس في شريط مصوّر بالصوت والصورة ، بل الحدث نفسه بواقعة حيّة . أيّ ردّ هذا يا ربّي ؟! )
# (ليس من المستبعد أن نسمع لصهيب مثل كل الوزراء خطبا ، عن دور النيك الأميركي في التنمية المستدامة ؛ هذه الجملة التي يكثر تردادها هذه الأيام ولا ندرك معناها)
نبيلة الزبير
رواية (زوج حذاء لعائشة)
تستهل الروائية نبيلة الزبير روايتها هذه “زوج حذاء لعائشة” (1) بالإهداء : إلى عائشة : “لم يكن هنالك طريق . دائما كانت هنالك خطوات تبتكر طريقا” . وهو إهداء يشي بالتفاؤل القائم على الحس بأهمية إرادة الإنسان الصلبة ، وعلى روح التحدي والإكتشاف والمبادرة . لكن سيتضح لنا أن الإهداء مُربك ، فهو ليس من الروائية بل من إحدى بطلاتها وهي (نشوى) التي تقوم بكتابة قصة عائشة عبر لعبة “ماوراء نصّية –metafiction ” وظّفتها الكاتبة ، ولكن بصورة متأخرة .
بعد الإهداء تأتي مجموعة من الأقوال “المأثورة” الإفتتاحية ، بعضها باهت وتقليدي وغير مؤثر ، لأن تجاربنا كبشر عرب نتعرض للتحطيم والعذابات في البلاد العربية ، وننهض بالرغم من جراحاتنا وانكساراتنا ، تجعل عبارات إينشتين وغاندي وموليير وتولستوي التي ذكرتها الروائية أشبه بمن “يحاول تعليم اليتيم على فن البكاء” كما تنص الحكمة الشعبية الباهرة .
ثم تستهلّ الروائية حكايتها في القسم الأول (أبواب للخروج فقط) بالقول :
(1998
الخامسة من عصر يوم عادي ، من أيام مدينة ليست عادية ، ربّما ، ليست مدينة ، لا تشبه المدن في شيء . يلزمها ساعة ، ربما بدأت الآن ، لتخلد إلى القات بالكامل ، الرجال بمقايلهم ، والنساء بتقاريطهن ، الأزقة بأطفالها المطرودين يوميا في مثل هذا الوقت) (ص 11) .
فنفهم فورا أننا على أرض اليمن لمجرد سماع اسم “القات” . ومن الخطير بمكان أن تكون واحدة من علامات تلك البلاد في حاضرها – مع علمنا طبعا بعمقها الحضاري الكبير – هو المادة التي تخدّر الحواس وترخي الإستجابات العقلية . وأن تكون علامتها الفارقة في حركتها على محور الزمان ، هو تعطيل هذه الحركة في موعد “التخزين” مساءً . في هذا الموعد لا تتغير حركة الزمان من مسراها الطبيعي الراكض إلى التباطؤ ، فالسكون (وهو أخو الموت أو ابنه) ، بل تتبدّل مزاجات الناس وردود أفعالهم وطبيعة سلوكياتهم . لكن حتى في ظل هذه الحالة العقلية – وكما تشير الكاتبة – فإن العقلية الذكورية الحاكمة لا يمكن أن تتسامح مع “أخطاء” الأنثى مهما كانت بسيطة وعادية ، كأن تقود بنت هي “نشوى” سيارتها بتلك السرعة الشديدة . فمن الممكن أن تتسامح الوجوه الذكورية الغائمة بنظراتها المغبشة بفعل التخزين مع هذا الفعل إذا صدر من رجل ، لكن أن يصدر من أنثى فمعنى ذلك أن (المدينة لا تنجرح في عاداتها فقط بل أيضا في شرفها – ص 12) .
كانت نشوى تتجه ، بسرعة مجنونة ، وانفعال ، على أنغام زعيق الجاز المنبثق من مسجلة السيارة إلى واحدة من عمارات أبيها ، لتكون شاهدة على فضيحة (زواج أخيها من قحبة) أسكنها في شقة في الطبقة السادسة . وعبر لمحات سريعة وذكية – وهذا هو روح فن السرد – تقدّم لنا الكاتبة عبر تداعيات نشوى ، لمحات سريعة – لكن كافية بالنسبة للقاريء اللمّاح – عن طبيعة شخصيات عائلتها ، وهي تتصوّر مواقفهم من الفضيحة ، ومكانها :
الأب لن يكترث للقحبة ، بل للطابق الذي بُني بالسر .
العمّة ستجدها فرصة للتنكيل بالأب / أخيها بسبب فضائح أولاده .
أخوتها : أمين .. قد يبني الطبقة السابعة .
أمّأ عارف فلا يهتم لأي شيء فهو غارق في الجنس وفي ما يشاع حوله عن ميوله المثلية .
أمّا طارق ، زوج القحبة :
(فقد أخذ مساحة شقتين بشقة واحدة . يبدو أنها قحبة عريضة ) كما تقول نشوى (ص 14) .
ولاحظ أن هذه التداعيات “المكشوفة” وبالتعبيرات العارية الصادمة والبذيئة ، ستبدأ من هنا ، وتتصاعد بصورة كاسحة وشاملة حتى نهاية الرواية . ستكون هذه الرواية حكاية متخمة بالأوصاف البذيئة التي ترميها الكاتبة في وجوهنا كقراء ونقاد بجسارة وشجاعة . وفي العادة – وتكاد اللغة المكشوفة أن تكون من سمات النص النسوي وليس الرجولي – يستنكر بعض النقاد والقرّاء اللجوء إلى مثل هذه المفردات أو التعبيرات كلمة أو جملة أو فقرة . هؤلاء نقاّد وقرّاء “نباتيون” في الواقع ، وهم لا يختلفون عن ممثلي الفساد الآخرين ورموزه الذين يستنكرون قول الكلام البذيء بلسانهم الذي يقومون به بأحط الأفعال من تخريب ذمم وعقول وخيانات أمانات وأوطان ناهيك عن الممارسات الجنسية التي يسخرونها له . مرّة أجاب رجل دين متنور أحد الأشخاص الذين سألوه هل باستطاعته استخدام لسانه لإمتاع زوجته : لا تستخدم لسانك في قول ما يُغضب الله . أمّا من الناحية النفسية – وهذا ما تحدّثت فيه كثيرا مستعيرا الفكرة المركزية من المحلل النفسي “أوتو فينخل” في كتابه “الأنا وأواليات الدفاع” ، فإن مفردات مثل : قحبة .. نيك .. شرموطة .. إير .. عاهرة .. بغي ..
ثم لاحظ هذه النماذج من التعبيرات الملتهبة :
# (حتى “القُحْب” (العُهر) حقٌ يمارسه الرجل جهارا، ويحفظه لأشباهه من الرجال . المهم ألا تقرب من أختي . وأختك مالهاش نفس يابن الـ ..) (ص 15)
# (ما الذي كانت ستقوله لقحبة أخيها لو أنها فتحت الباب. أهلا أنت القحبة زينب ؟ أنا القحبة نشوى . عفوا نشوى قاسم عبيد. أنت قحبة علنا وأنا قحبة في السر ) (ص 15) .
# (زينب على حالها تلك منذ ساعات ، ربما منذ سنين ، نصفٌ محجوب ونصفٌ مسفوح . امرأة في العراء لا شيء يسترها ، ، لا أحد يقف بينها وبين أن تُهتك حتى الله) (ص 168) .
# (هذه المرة صفعها لكن ليس بيده بل بأن ناكها . لم يكن ذلك الذي فعله ويسمّيه الجماع ، أكثر من ردّ مغتاظ ، مسبّة ، نفس المسبّة والشتيمة التي يتلفظ بها أولاد الشارع في سبابهم اليومي . لا فرق إلا أن هذه السبّة ليست لفظية بل فعلية – ص 80) .
# (.. لكن ذلك اليوم اختارت أن تكون مع الله ، بين يديه وحده ، تحمده وتسأله أن يشفي جراحها . بدا كأنه جل وعلا يركلها بقدمه ، ويقصيها عنه . فجأة أعاد الحدث نفسه ، ليس في شريط مصوّر بالصوت والصورة ، بل الحدث نفسه بواقعة حيّة . أيّ ردّ هذا يا ربّي ؟! – ص 172) .
# (ليس من المستبعد أن نسمع لصهيب مثل كل الوزراء خطبا ، عن دور النيك الأميركي في التنمية المستدامة ؛ هذه الجملة التي يكثر تردادها هذه الأيام ولا ندرك معناها – ص 93) .
# (الضابط نفسه لم يكن لديه “خليوي” ، كانت التلفونات المحمولة لم تزل حكرا على كبار المسؤولين ، وكبار التجار ، وكبار القحاب – ص 55) .
# (القصة بحسب النموذج تتلخص بمتى وكيف تم نيكك أول مرة . هنا تكون إجابتها لا أدري . والله العظيم . والله – ص 60)
ومن الحقائق النفسية المهمة المتعلقة بالنمو النفسي للإنسان ، هي أن الطفل تجتاحه نشوة عارمة وإحساسا طاغياً بـ “القدرة الكلّية – Onipotence” ، حين يحتاز الكلمات الأولى من اللغة ، فبدلا من الصياح والصراخ والعياط الحيواني المُذل بفعل اعتماديته المُهينة ، كوسيلة لإحضار الأم وإشباع حاجاته ، توفّر له الكلمة إمكانية “كن فيكون” ومشاعر “إله” ، فيُحضر أمّه و “يبعثها” برهاوة . لكن مع تقدّمنا في العمر ، تتبلّد اللغة بسبب تكرار الإستعمال ، وتبدأ لذة الإقتدار هذه بالتخافت ثم تضمحل وتنتهي . ولا تُستعاد تلك الدهشة الطفلية الباذخة إلّا في الشعر والتجديف والكلمات البذيئة . هذه المجالات الثلاثة تفرك الصدأ عن وجه اللغة ، وتستعيد لها قدرتها والإدهاشية وعافيتها السحريّة . هذه المفردات الجارحة والبذيئة تصبح أحيانا حاجة .. وضرورة للصحة النفسيّة . لكننا ننكرها بفعل مقاوماتنا التي يستعر مفعولها بفعل التربية المنافقة .
… لكن نشوى تعود أدراجها من دون أن تطرق الباب لشعورها بـ “التعادل” ، فزوجة أخيها زينب قحبة في العلن ، وهي ، نشوى ، قحبة في السر كما تعلن لنا . يبدو إن الوصمة لا تحتاج سوى الإشهار لا أكثر . فها هي قحبة السر ، والشريفة علنا ، تقود سيارتها بلا تبختر :
(في مشوار يبدو يوميا أو أشبه باليومي ، لشقة برجال كثيرين . الرجل الواحد لا يملأ الوقت ، بعد العشر دقائق الأولى لا يجد ما يقوله أو حتى ما يفعله . انفتحت الشقة . ثمة رجال كثيرون ونساء ، هؤلاء لسن نساء ؛ إنهن شراميط لزوم “الطيرافة” (أي المجون)- ص 15 و16) .
تعود نشوى لتبقينا الكاتبة مع زينب زوجة أخيها ؛ القحبة السابقة ، والتائبة – ليس النائبة – حاليا ، التي تزوّجها أخو نشوى “طارق” ، خطيب وإمام أحد الجوامع ، وهي تقف أمام نافذة الشقة ، تتأمل حالها وتقارن وحدتها بحال وسلوك صديقتها المومس أيضاً (رجاء) التي جاءتها تزورها بعد انقطاعها عن المهنة ورائحة خمرة الليلة الماضية تتصاعد منها . ولا أعلم لماذا أدخلت الكاتبة نفسها ، الآن ، كصوت سردي يعبّر عن لسان زينب في ملاحظة عاديّة جدا ، وكان بالإمكان أن تستمر بسياق السرد السابق والموفّق بصوت الغائب :
(زوجها لا يحب جمع زوجاته تحت سقف واحد . هي تقطن شقة في أعلى طابق في عمارته . مهم أن أقول لكم : نوافذ هذه الشقة ليست كبيرة إلّا في عيني زينب – ص 17) .
إن دخولها بهذه الصيغة ساهم في “قطع” سياق التداعيات الذاتية الهاديء الذي تنقله الكاتبة وهي تقف “خلف” زينب . كما لم أجد مبرراً لتلك “المماحكات” التي أدخلت نفسها فيها ، وهي تفترض أقوالا لزينب ، وترد عليها ، لتصححها أمامنا :
(هي وقفت (كان بإمكان الكاتبة رفع الضمير “هي” فتصبح الجملة أرشق – الناقد) إلى لوحة من الزجاج العاكس يسمونها النافذة لترى داخلها . النافذة كبيرة ، غير صحيح . وستقول لكم إنها في أعلى شقة في مبنى بالغ الارتفاع ، . المبنى ليس بالغ الإرتفاع ، بل ليس مرتفعا أصلا ، لكن ستة طوابق يمكنها أن تبدو شاهقة الإرتفاع – ص 16) .
هذا الدخول التصحيحي لمعلومات لا قيمة لها يعبّر عن نرجسية الكاتب ومحاولته إزاحة حضور الشخصية الرئيسية في حكايته من جانب ، والشعور بالذنب المستتر الناجم عن التماهي العميق والذي يدفع للإفراط في التفاصيل والتصحيح من جانب آخر . كان من الممكن جعل الأفكار هذه تنساب على لسان زينب وهي تراجع أمامنا حال العمارات المجاورة بما يعكس حالة “الحريم” المقرفة التي يحياها الذكور حولها والذين يجمعون زوجاتهم في طبقات عماراتهم بخلاف زوجها طارق الذي لا يرغب في جمع زوجاته تحت سقف واحد (ص 17) .
ولكن حين يدخل صوت الراوي – ومن ورائه الكاتبة طبعا – ويقول :
(زينب ، هذا هو اسمها ، أو زينب وبس (…) كما اعتادت أن تقولها وخصوصا لمن تستلطفهم . لقد كانت لوقت قريب واحدة من بنات كثيرات تمتلك الواحدة منهن خمسة إلى ستة اسماء – ص 17) .
فهذا دخول مبرّر ومُثرٍ. أتذكر هنا عبارة فلوبير الشهيرة : (على المؤلّف أن يكون في عمله مثل الله اتجاه الكون، حاضراً في كل مكان، ولكن لا يُرى في أي موضع) .