د. حسين سرمك حسن
————————————————–
بغداد المحروسة – 2014
2003
وقفة مع نشوى وهي تراجع دور عمتها حورية التي أنقذت جانبا من تجارة أخيها (أبو نشوى) و (الحشد من عقود العمل والصفقات التي دفعت بها العمة في اتجاه N.R.Z.) (ص 339)
أي أن نشوى “الثورية” التي تدين تصرفات عمّتها وزوجها عزيز الفاسدة دائما على المستوى الشخصي والسياسي كما راينا ، لا يضرّها الآن أن تستقبل الدعم الكبير منهما لمكتبها ! ثم تكابر مكابرة زائفة وسخيفة أمام رجاء وزينب اللتين حاولتا إقناعها بإرسال رسالة شكر من المكتب للعمة ، كأدنى حدّ من الواجب ، مادامت لا تستطيع أن تشكرها شخصيا . فكّرت بذلك المقترح ، ولم تستطع (ص 339) .
ولماذا لا تستطيع ؟ هل تمنعها القيم الثورية النظيفة ؟
إذن لماذا تستقبل منها المساعدات المالية ؟
دعونا نتذكر دائما مبدأ حياتيا كبيرا وخطيرا يتحكم بنا – حتى لو كنا أولياء مصلحين – لكننا ننكره بفعل مقاوماتنا وهو “أن الرذيلة هي الذراع الأيمن للفضيلة” .
2004
في مطبخ نشوى الطائرة من الفرح مع فؤاد الذي صار طبّاخا ماهرا . يلبس مريولا ويطبخ معها . ثم وقفة مع تناقضاتها في العلاقات الحبّية التي لا تعود إلا للتخريب الذي مارسه الأنموذج الأبوي أولا والضغوط العائلية والمجتمعية ثانيا في حياتها كما قلنا (ص 340 و341) .
ثم نشوى وهي تغيّر ثيابها :
(دخلت قميص La Senza القميص الذي شاركهما فراش الحب عصرا) (ص 341) .
ولا أعلم ما هو سرّ ولا دور ذكر ماركات الملابس والعطور باللغة الإنكليزية . وهل لها دور جمالي أو نفسي مثلا ؟ قد يكون لذكر أسماء الأغاني والمطربين وبعض مقاطعها مبرّراً . لكن ما هو الفارق إذا كانت ماركة القميص ماركة أخرى؟ وما الذي سوف يحصل حين نقول على سبيل المثال :
(دخلت قميصا وردياً شفّافاً ، القميص الذي شاركهما فراش الحب عصرا) ؟
المهم ، ونشوى في ذروة استرخائها مع صوت جنيفر لوبيز وكأس الأوزو ، يُطرق الباب .. إنّها العمّة حوريّة . تبدأ العمّة بشرب الخمرة مع نشوى بعد أن تصلي .
ثم تفترقان صباحا بعد ليلة يبدو لنشوى أنها مقدّمة لأمور مقبلة .
الفقرة (9)
الحديث للعمة حورية بضمير الأنا عن جدّ نشوى ونضالاته ودوره الصادق أكثر من غيره وحسابات القيادات العشائرية التي استخفت به .
نقلة إلى طارق الذي تكلم أخيرا عن تجربة زواجه (ص 347)
ثم عودة إلى جلسة العمة مع نشوى كي توضح لها أمرا طال انتظاره وهو ميراث الأب الكنز . تنتهي الجلسة برنين موبايل نشوى لتخبرها زينب باكية عن وفاة أبي رجاء (ص 350) .
نشوى مع عمتها من جديد تسألها عن دور أبيها الملتبس في عام 67 ؟ العمة تكشف مساهماته في كل الثورات والتنظيمات (ص 351) . نشوى تسجل انطباعاتها عن كلام عمّتها عن الثورة :
(مسكينة هذه الثورة ! هي أيضا كانت عائشة ، لكن بحذاء دبابة .. مشوا هم وخلّوها وحدها ، تركوها هناك حيث خرجت أول يوم حافية) (ص 351).
عادل يكاد يطير من الفرح بعد أن أخبرته سامية بظهور بوادر الحمل لديها بعد سنتين من القلق . (351 و352)
الفقرة (10)
العمّة تتحدّث بإيجابية عن أخيها (أبو نشوى) الذي ظلمه الجميع حتى زوجته البكّاءة التي لعبت دور الضحية الفاشل . الغريب أننا سابقا قرأنا كيف استولت العمة على ميراث الأب وكيف تعيّره بأولاده .. وكيف .. وكيف .
في ختام الجلسة يأتي العرض المنتظر من وراء كل هذه الزيارات : مشروع سياسي .. صحيفة سياسية ترأس تحريرها نشوى . هل يعقل أن العمّة السياسية تسلّم رئاسة تحرير صحيفة سياسية لفتاة تخرجت حديثا وكانت مسجونة سابقا ومعروفة بتقلباتها السلوكية وعدم نضج شخصيتها ؟ لا أدري .
وهناك أيضا مشروع صحيفة سياسية أخرى سوف يتسلّمه طارق بدعم العمّ عزيز .. هما في الحقيقة صحيفة سياسية معارضة واحدة مقسومة على اثنين . ترفض نشوى مشروع العمة وتقول وهي تضحك :
(عمّتي أيضا تحتاج إلى زوج حذاء) (ص 355)
وقد اصبح حذاء عائشة وصفا مرجعيّاً تعود إليه نشوى لتلخّص عن طريقه وبه أفعال وحوادث (الثورة مثلا) لا تريد الخوض في تفسيرها . لكن وصف حذاء عائشة لا ينطبق على العمة . حذاء عائشة هو حذاء الظلم والخيبة والمرارات .. وحذاء العمّة هو حذاء النفاق والإنتهازية والإنحطاط . كما أن كثرة استخدام التشبيه هذا يمتص قدرته على إثارة الدهشة والتركيز .
نقلة إلى نشوى وهي تكتب جانبا من روايتها عن (عائشة) لكن التركيز هنا يجري على سميحة الباحثة الإجتماعية وهي ترصد مكونات هذا السجن .. واللوحة المؤسية لمقبرة الضحايا المهملة الرابضة في قلب سجن النساء (ص 358) .
الفقرة (11)
العمّة تكلف رجاء وزينب ، وهما عاهرتان معروفتان بالأمر نفسه ، فتوافقان بشرط أن تمهلهما العمّة إلى حين إكمال دراستهما والتخرّج من الجامعة (ص 359) .
2005
زينب مستوحشة في بيت الفتيات . تشعر بعزلة وخوف حقيقيين . لكن هل بقي لقلق زينب تأثيرا في نفس القاريء بعد أن علم أن بإمكانها بتلفون واحد إلى الولايات المتحدة أن تحل أعقد المشاكل ؟! ألا تستطيع حماية نفسها بنفس الطريقة ؟ المهم الكاتبة نفسها جرّدت زينب من شروط الإنكسار والتعاطف .
في 12 شباط 2005 تزوّجت نشوى من دون أية مراسيم .. أواخر آذار توفيت أمّها .
زينب تصبح جارة نشوى حيث استأجرت الشقة المقابلة لها . في حفل تدشين الشقة لم تحضر رجاء فقد اقتادتها الشرطة لأنها كانت في خلوة مع صديقها في سيارتها . نشوى حائرة بمن تتصل لتطلق سراح صديقتها المظلومة . هل نسينا أن العمّة المؤثرة سياسيا والتي سجنت نشوى من قبل عرضت على رجاء وزينب العمل معها ووافقتا واتفقت معهما ؟ المهم أن زينب تبكي وتبدأ بالإتصال بكرستوفر ثم دانيل في الولايات المتحدة بانكليزية ركيكة . وما هي إلا ساعة حتى كانت رجاء تتصل من نفس هاتف الضابط المرافق . انتهى كل شيء .. والحمد لله (من ص 358 إلى ص 363) .
الفقرة (12)
2009
نشوى تصحح معلومة عن عدد أطفال الشوارع .. هو أربعة ملايين .
قفزة إلى رجاء وهي تستيقظ مرعوبة على أصوات رصاص وقصف طائرات . الحوثيون والحراك الجنوبي يريدون الإطباق على العاصمة .
إنّها “حروب صغيرة” كما يسمّيها “ماجد” .. ثم تقدّم لنا رجاء معلومات متلاحقة عن “ماجد” وحديثه المفرط والمنفعل عن الحرب .. ويظهر لاحقا أن “ماجد” حبيبها .. ترى من هو “ماجد” ؟ ومن أين ظهر ؟؟؟!!
رجاء تعلّق على مشية زينب بالكعب العالي في البيت : حقيقةً هذي مشية قحبة” .. لا تنفعل زينب . رجاء تلمح إلى عودة زينب من أوروبا وتتساءل مع نشوى : ماذا كانت تفعل هناك ؟ (ص 367 و368) .
المهم في هذا التطوّر أنّه – كما قلت – قد نزع اندفاعة التعاطف التي كان يثيرها في نفس القاريء انكسار زينب وعزلتها الموحشة كإنسانة كسيرة الجناح تحس بالتهديد الوشيك حيث يمكن أن تُسرّب كهرّة من اي مكان تجد فيه فرصة للأمن والإستقرار . إنها ، الآن ، امرأة نافذة لها علاقة بمسؤولين أمريكان .
الفقرة (13)
نشوى تؤرّخ لصدور العدد الأول من صحيفة “شراكة” . زينب صارت رئيسة التحرير . نشوى اشترطت على الصديقتين ألّا تجمعا بين عملهما في الصحيفة وعملهما في المكتب . رجاء تأخذ نشوى إلى بيت أهلها وهناك تشرح لها الكيفية التي بنت بها هذا البيت واستطاعت أن تفلت به وبنفسها من تآمرات القوّادين الأشاوس .
طارق أرسلوه إلى أمريكا بطلب منه ليتدرب على العمل الصحفي فقد ترأس تحرير صحيفة “منبر الفضيلة” .
قد يكون هدف الكاتبة من هذه الخلطة العجيبة الإشارة بجرأة إلى أن العاهرات والمعصوبين والتجّار والإنتهازيين السياسيين هم الذين يتولّون شؤون البلاد وإدارة أمور العباد وتشكيل أفكارهم . وأمريكا الشيطان التي دمرت وطننا العراق وقضت على مستقبله أيضا هي الحضن الذي يفرز هؤلاء ويدرّبهم . لكن الأمر لم يأت منضبطا من الناحية السردية ولم يكن “نواة” بل استطالات وتفرّعات متراكبة ومتراكمة حد الإختناق بحيث أنها ضيّعت الجانب الإنساني في الحكاية ؛ الجانب العظيم الذي بدأنا به ، وهو الإنتصار لهؤلاء النسوة المظلومات المحطّمات اللائي يمكن أن يصبحن رمزاً لحال المرأة الأم الكبرى : البلاد .
تكتب نشوى عن عائشة وتصف جانبا من حكايتها ، فلا نكاد نتأثر بحكايتها أكثر من تأثّرنا بحكايتي زينب خصوصا ثم رجاء . وبالتالي لا تصلح حكاية عائشة أن تكون هي الفيصل “المرجعي” الذي تُقاس عليه الحوادث والوقائع والأفعال وسلوكيات الشخصيات . وإذا كانت كذلك ، ينبغي أن تكون هي الحكاية الأم والأصل التي تتفرع من رحمها باقي الحكايات الجنينية لا أن تظهر كحكاية عرضية في نهاية الرواية وتّعرض كهواجس وذكريات من قبل نشوى التي لا تمتلك مؤهلات كتابتها . لكن ما لا ينبغي إغفاله هو تلك المحاولة الميتانصيّة أو الماوراء نصيّة التي تجعل حكاية عائشة تتنقل من لسان سارد إلى سارد آخر ، فتنضاف إسقاطات السارد ومحمولاته اللاواعية على الحكاية الأصلية . لكنها محاولة افتتحت بطريقة جيدة في ربطها بحكاية سميحة ثم أجهضت بالتشتت والإبتعاد عن مركزها .
الفقرة (14)
نشوى ستلد مولودها الثاني .. وفؤاد نسي الموعد مجددا .
طارق فخور بعلاقته بسعاد .
أواسط عام 2008
زينب تنظم حملة للجنة دولية لزيارة سجن النساء والعمل على إطلاق سراح عائشة . حضرّت لها كيس هدايا أهم ما فيه أحذية لعائشة . في ختام الزيارة تثبت نشوى ملاحظاتها المؤلمة عن سجن النساء وحال عائشة . صارت عائشة تهرب من كل غريب يأتي إلى السجن حتى من يبغي مساعدتها .. صار السجن الأكير ؛ سجن المجتمع أكثر إفزاعا وترويعا لها من سجن النساء الخانق المحاصر بالحديد والأسلاك الشائكة . وتعلّق نشوى على ردّ فعل عائشة على حقيبة الهدايا التي ردّتها بأنها قالت (إنما أنتم بهداياكم تفرحون) ، وأن هذه الجملة لبلقيس ملكة سبأ في حين أنها قول للملك سليمان في ردّه على الهدايا التي قدمتها بلقيس له لتدفع الأذى عن قومها كما قالت (الآية 36/ سورة النمل) .
تكتب نشوى أيضا :
(كم زوج حذاء من قبيل ما اشترته زينب لعائشة لبسته هي لثماني عشرة سنة ، لم يعد بها إلى بيتها ؟ لكنها مرتاحة ، حلّت المشكلة !
مشكلة من تلك التي حلتها زينب ؟ ) (ص 377) .
وهو توظيف ممتاز لذيول حكاية عائشة وثيمة حذائها .
الفقرة (15)
بعد أكثر من مئتي صفحة يظهر “سعد” شقيق زينب الأصغر وقد ذُكر مرة واحدة سابقا ليعرض على أبيه الصحيفة التي رئيسة تحريرها أخته زينب . زينب تزور أباها في لقاء مؤثّر يثير بدوره تداعيات عن علاقة رجاء بأبيها وحنانه عليها وعلى أخوتها في عرض “متأخر” وإضافي لا محل له الآن ونحن على مبعدة صفحة واحدة من نهاية الرواية (ص 381 والرواية تنتهي بالصفحة 382) .
الفقرة (16) وهي الفقرة الختامية في الرواية
نشوى تقلب دفترها لتصل الصفحات البيض وتكتب :
(ما الذي يحدث ؟ هذه الجملة أو هذا السؤال ، وفقط ، ولم تضف شيئا . ما الذي يحدث ؟ لا شيء يا نشوى ، في هذه اللحظة لا شيء غير أن أحد طفليك .. طفلتك تتسلق صدرك .. تريد أن تمسك بنظرك الشاخص في البعيد .. أعطيها حضنك وخلّي لي هذا الدفتر .
نشوى ! هناك بالإضافة إلى الصفحات المهجورة صفحات منزوعة . ما الذي يعنيه ذلك ؟ عموما هناك الكثير من البياض لتكتب عائشة سيرتها .
نشوى !
هلووو ..
هيييييي
إلى أين ذهبتِ يا صديقتي ؟
إلى البياض ؟ ذهبتِ إلى تلك الهاوية حتما . أنا أيضا ، حين لعنتني أمّي ، قالت لي هكذا : إذهبي إلى البياض .
محبتي لك ولكل عائشاتك وعائشيك
نووون
تشرين الثاني 2009 م ) (ص 382 – الصفحة الأخيرة من الرواية)
وفي بعض الأحيان يشعر المؤلّف بأن الحكاية صارت عبئا عليه ، وأن أبطاله صاروا يتصرّفون بالكثير من الحرّية التي تتيحها درجة تماهيه المفرطة معهم ، وشحنة الحماسة لموضوعته الأساسية ، فيتدخل بذاته ليتوّج عمليّة الزحف النرجسي التي هي أساس التماهي والحماسة المضمونية .
ملاحظة ختامية :
—————-
إن الإنطباع الأساسي الذي يخرج به من يقرأ الرواية بتمعن هو أنً البلاد كلّها ساحة للإنحطاط والفساد الأخلاقيين على المستوى الشخصي والعام . لن تجد شخصية واحدة تحمل من النقاء ما يمكن أن يثقل كفّة الإستقامة والشرف اللذين يوّفران الأمل بالإنسان . ليست الرواية عبارة عن مبغى سردي إذا ساغ الوصف بل البلاد كلها عبارة عن مبغى كبير . ومن الناحية النظرية لا اعتراض لأن “الحكاية” كانت هكذا ؛ حكاية النسوة اللائي يسقطن في براثن البغاء ، وكيف يساهم هذا المجتمع المحمل بالخطايا ، باطنا وظاهرا ، والمنافح عن الشرف ، كذبا ونفاقا ، في إسقاطهن . لكن من الناحية الفنّية كان من الممكن تصعيد الحكاية من خلال الصراع بين إرادة الخير والشر الذي يوفّره وجود نموذج إنساني “إيجابي” على مسرح الحكاية . لكن يبدو أن الكاتبة أرادت أن تغسل دماغنا بصورة نهائية لصالح أولئك الفتيات المحطّمات المسحوقات في حملة ضارية على الذكورة الفاسدة الحقيرة كما عُرضت في الرواية . ولا تكتفي بذلك بل تسلّم زمام عمليّة الإنقاذ لهنّ وتضعه في أحضانهن بلا تردّد . إن الرواية في ما هو مستتر منها تعبّر عن شحنة مقت هائلة للذكورة القاهرة ، شحنة تمظهرت في الإنحياز المفرط للغانيات الحزينات إذا جاز الوصف من جانب ، وفي النقمة الكاسحة على النماذج الذكورية ومسخ النموذج الأبوي بكل تمظهراته الإجتماعية والسلطوية من جانب آخر . وليس غريبا على مجتمعات تكذب على الله من الصباح حتى المساء أن يكون عالمها الأسفل أكثر طهرا ونبلا من عالمها العلوي .
هوامش :
———-
(1)زوج حذاء لعائشة – رواية – نبيلة الزبير – دار الساقي – بيروت – الطبعة الأولى – 2012 .
(2)عشر روايات خالدة – سومرست موم – ترجمة سيد جاد وسعيد عبد المحسن – دار المعارف – القاهرة – 1971 .