د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2014
وتشتعل أهمية هذا الرمز ، العلامة ، الّلحية ، في نفوس الشباب الذين تتآكلهم شتى الصراعات (الجنسية خصوصا) وتحاصرهم الإحباطات ، وتغلي في نفوسهم الحاجة إلى الإنجاز والقيادة والوجاهة وتأكيد الذات . كلّها تأتي ببساطة .. بلحية.
يأتي القسم الثاني من هذه الفقرة ليصف معضلة ندى مع طارق في عزلته في الغرفة التي كانت تتراكم الأوساخ فيها ، مهملا نفسه في صمت طويل واكتئاب متطاول (هو الآن مقلوب حالة زينب في صمتها وإضرابها عن الطعام . ولا أعلم ما هي وظيفة هذا التناوب السرديّة ؟!) . وفي الوقت الذي تفكّر فيه ندى بحلّ لحال زوجها يجب علينا – بتخطيط من الكاتبة طبعا – أن نسمع قصّة حياة أمّها وخلاف إخوتها الكثيرين – من زوجات أبيها الأخريات – حول الإرث واقتسام المنزل … إلخ . وهذا ما لا يقرّه الفن الروائي الحقيقي . فما الذي أضافته مشكلات أم ندى إلى معضلتها مع زوجها ؟ فقط مداورة .. ومسافة قطعناها في شارع فرعي عدنا بعده إلى نفس الغرفة ؛ غرفة طارق ، حيث تدخل ندى – بعد أن قررت أن تثبت لطارق أنها بنت أوادم وبنت أصل ولن تتخلى عنه لأن ظروفه تدهورت – وبيدها مستلزمات االإستحمام ومعها قنينة عطر رجالي – Hugo Fragrances ، من القناني التي أرسلتها كرستين من أمريكا . صرنا كلما واجهتنا معضلة في الرواية فكرنا بقنينة عطر تكون أداة “افتح يا سمسم” . ولا أعلم لماذا تصرّ الكاتبة على كتابة اسم العطر بالإنكليزية . سوف تواجهنا هذه الحالة كثيرا في مسار السرد حتى تصبح ظاهرة ! العطر يفتح مشكلات طارق والأهم أنه يفك قيود ربطه الجنسي ويمنحه الإنتصاب المؤمل . وها هو يمتطي ندى وسط دهشتها . وندى الفتاة البسيطة المسكينة يحوّلها الإجتياح الجنسي إلى شاعرة ! ولا ندري من يتلفّظ بهذه الجمل الشاعرية المسحورة المطعّمة بالمفردات الإنكليزية بعد أن انتهى اتصالهما الجنسي :
(ليس مهما. قالت لنفسها : تكفينا تلك الموسيقى . لقد كانت وحدها فتنة ! (…) بقايا رائحة . لم تكن بقايا ، ولم تكن Hugo Fragrances. لقد دخلت وهي شيء ، وهي الآن شيء آخر أكثر فتنة . بماذا مُزجت تلك الرائحة ، لتصبح هذا السحر؟) (ص 198 و199) .
.. عاد طارق لهجرها من جديد . وسوف ننتظر عودة وصلحا جديدا .
الفقرة (16)
روحية السعي للتلويث والإشباع المنفلت لدى طارق ، سوف تستمر طوال صفحات الرواية ، ولكن بأشكال مختلفة في كل مرة ، وكأننا أمام جهد تطبيقي للحالات السريرية التي رصدها التحليل النفسي . ففي هذه الفقرة يجمع طارق الصديقتين : زينب ؛ زوجته ، ورجاء التي عرض عليها الزواج باندفاعة غريبة ورفضته ؛ جمعهما على مائدة للخمرة كي تشرب زينب وتسكر وترقص .
وكما توقعنا .. عاد طارق إلى ندى ، لكن هذه المرة جديدا وبثياب جديدة وسلوك متفتح جديد ، واستأنف نشاطه الجنسي معها . ثم – وكما هو متوقع أيضا – تعود حليمة إلى سيرتها السردية القديمة ، فيترك طارق البيت من جديد ، وعلينا أن نقف عند باب البيت ننتظر عودته من جديد . وكان الله مع الصابرين .
الفقرة (17)
زينب تسكر وتبدأ بسكب محتويات ذاكرتها الجريحة أمام رجاء ، وبعد “الذروة” العاصفة التي قدمتها لنا الكاتبة عن حادثة اغتصابها الدامية والفاجعة وهي على فراش “دانيل” الأمريكي . فغيرة “أمل” التي آوت زينب لأيام وخوفها على زوجها ، لم يعد قادرا على هزّ أعماقنا بقوّة كما هو متوقع . وإلى الآن لم نعرف كيف تأسست أواصر الصداقة بين رجاء وزينب ؛ صداقة بهذا العمق والقوة تتيح للأخيرة أن تكون كاتمة اسرارها والحانية عليها في الملمات .
والآن ، ونحن على باب شقة طارق ننتظر عودته ، لا يخيب أملنا ويعود فعلا ، ولكن هذه المرة مع ضيوف لليلة واحدة ، اختصروا إلى صديق جريء واحد احتل البيت وصار يتصرّف – بمباركة طارق طبعا – على هواه . وصارت ندى – التي كان يعرّيها بنظراته – ضيفا في شقتها تتحرّج من أداء أفعالها اليومية .
الفقرة (18)
عودة إلى زينب وسكرها .. ومخاوفها من أن يسرّبها طارق من البيت . كانت تغرقه بملذاتها وتتفنن في إمتاعه كي لا يملّها ويتخلى عنها (ص 208) .
ثم عودة عاشرة .. إلى ندى وهي تستقبل طارق حليق الوجه ووسيما .. صار يجامعها ثم يبكي على ركبتها طالبا منها أن تخبره عن عشاقها الكثيرين .. فتلملم حقيبة ملابسها وتذهب إلى أمّها . وشذوذات هؤلاء المعصوبين السلوكية الجنسية ليس لها حصر . ويبدو أننا على موعد مع أغلبها في كل زعل لطارق وندى .
الفقرة (19)
طارق يعود إلى زينب حليق الوجه ووسيما . يشرب الخمرة معها ومع رجاء .. ثم يأخذ ملابسه ويهجرها (وبعدين ؟!) . تنتقل زينب لتعيش مع رجاء في بيت الفتيات المومسات .
وصديق جديد في مطبخ ندى يتعطر بعطرها الأثير Hugo Fragrances . ثم صرعة عصابية جديدة :
(شاع خبر تناقلته بنات هوى ، أغرب خبر التحاق بالمهنة . زوج يهيء لليلة فاحشة ، يجمع فيها بين زوجته وصديقه ، في فراش الزوجية . لـ الليلة الأولى فقط . الثانية ليست من شأنه) (ص 211) .
قد يعتقد البعض أنّ المطلوب هو ملاحقة تمظهرات السلوك العصابي الشاذ لطارق من الناحية الجنسية لإثبات أن السلوك الداعر لهذا الرجل لا يختلف عن سلوك المومس (الذكوري) ، وأن هذه الإنحرافات المغطاة التي لا يرصدها المجتمع المهادن هي سبب خطير لانحرافات الأنوثة المستغلة الكسيرة . لكن إذا أردنا أن نرصد تلك التمظهرات في رواية كاملة (وهذا ما سيحصل هنا) فإن مئات الروايات لن تكفي لعرض الممارسات المنحرفة المسجلة في أدبيات التحليل النفسي . الروائي يلمح ويعرض بطرق (مكثّفة) الصراعات النفسية للشخصيات ، وليس مسؤولا عن عرضها بصورة (سريرية) . هذه مسؤولية المحلل النفسي . أمّا الروائي الفنّان فهو يقدّم لنا المعاناة والنتائج بتأثيرها على المصائر ، ولا يستعرض الطرق الني لن تنتهي .
الفقرة (20)
نشوى في شقتها الملونة تضحك بلا سبب . ثم نعرف السبب ، فقد أرسل أمين أطفاله الثلاثة ليعيشوا في بيت جدّهم بعد أن طلق زوجته وطلب من أخيه طارق أن يتزوجها بعد أن “يتأكد” منها . نشوى مذهولة تخرج لجلب الليمون لشرب الجن . تسأل بائع السمك والأواني المنزلية عن الليمون . موقف مفتعل لن يضيف للحبكة شيئا . أبو ندى سلّم إدارة أعماله لابنته الدكتورة (طبعا هي سامية التي نسيها القاريء حتما) .. مات أبو ندى (عرفنا سابقا أنه مات من تداعيات ندى) وظهر طارق لعدة أيام ثم غاب . عارف مازال “أمرد” لا تنبت له لحية .. نشوى تقرر الإقامة وحدها . طيب ألم تكن وحدها تسكر وتفضفض لسماح ؟ ما الذي تغيّر الآن ؟
القسم الثالث : مقاعد بعجائز لاصقة
الفقرة (1)
العام 2000
رجاء تتجوّل في شارع حدة ، وتلاحظ اقسام الأثرياء الجدد (القطط السمان) .. تسير وتعلّق وهي في طريقها إلى موعد صباحي مع زبون .
الفقرة (2)
نعلم الآن أن الدكتورة هي سامية ناقشت الدكتوراه وتفرّغت لإدارة أعمال أبيها . ثم يأتي عرض لجهدها في التعرف على تفاصيل هذه الأعمال عبر الإجتماعات والمناقشات … إلخ . شخصية جديدة دخلت ساحة الحكاية وعلى الكاتبة أن تحدّد للقاريء صلتها بالشخصية المركزية : زينب . لكن هل زينب هي الشخصية الرئيسية وفق الحسابات السردية الدقيقة عن مفهوم الشخصية الرئيسية ؟
كلا طبعا .
صارت واحدة من الشخصيات الرئيسية .
ما الذي سوف يضيفه حضور سامية غير دور بل فعل يحوّل أو يقلب مسارات الحوادث ؟ ستعمل سامية على نقل تجارة أبيها من تجارة دكاكين إلى مؤسسة وفي هذا معان وإيحاءات عن الحركة الإقتصادية وعن طبيعة العقلية الاجتماعية المتخلفة التي تقودها . لكن ما هي “الجدوى” بالنسبة لحكايتنا الأساسية ؟
وفجأة تخبرنا الكاتبة أن سامية ناقشت عمتها حورية لساعات حول “خطأ” .. وهذا الخطأ فات وقت تصحيحه وهو إخراج نشوى من السجن من دون فضائح ولا تحقيقات (ص 222) . لكن متى اعتُقلت نشوى ومتى دخلت السجن ؟ معقولة سُجنت نشوى ونحن لا ندري !
لكن الأغرب من ذلك ، هو التسلسل السردي الذي تقدّم فيه الكاتبة الوقائع : مناقشة سامية لعمّتها عن ضرورة إخراج نشوى من السجن الذي وُضعت فيه بترتيب من عمتها وأبيها كـ “قرصة أذن” ، ثم إذا بنشوى خارجة من السجن .. ثم إذا بها كانت شرموطة وأصبحت شرموطة وسياسية قد تُعتقل لتهمة سياسية هي أشد من الدعارة في مجتمعاتنا . كل ذلك وفق مفاجآت بلا مقدمات .. وهكذا :
(لكن نقاشها مع عمتها الذي طال لساعات (…) كان لا بدّ من إخراج نشوى من السجن وبالسرعة نفسها من دون فضائح ولا تحقيقات (…) منذ شهور خرجت نشوى من السجن أسوأ حالاً (…) أمس كانت شرموطة فقط . اليوم هي شرموطة وسياسية … أردنا أن نحميها من نفسها وبشكل لا يعرّضنا للفضيحة . ماذا كانت النتيجة ؟ أصبح لدينا شرموطة تشتغل بالسياسة !!) (ص 224) .
الفقرة (3)
العام 1999
عن اعتقال نشوى بترتيب عمّتها وأبيها لمدة 130 يوما . شرح عن ظروف الإعتقال والزنزانة (1×2 متر) . وبعد خروجها استمرت تستقبل الجنسين في شقتها ولكن جلساتها الآن كلها طروحات وأفكار . يقول أهلها ساخرين أنها تريد تشكيل حزب !! قررت تبديل مسار حياتها وطبيعة انشغالاتها العبثية . قررت العودة إلى الجامعة . وبدأت تسرق الكتب من مكتبة أبيها بدلا من قوارير الخمرة (ص 229) .. كتب تختص بتاريخ اليمن .
الفقرة (3)
وبموازاة نشوى التي ستنهمك في القراءة والتثقيف الذاتي ، بدأت زينب بالقراءة في بيت رجاء ، والأخيرة بدأت قبلهما بتعلم الإنكليزية وقراءة الروايات . وهي لمحة سريعة تشعرك بأن شيئا مشتركا سوف يحصل بين الفتيات الثلاث . المهم ، أنّ البنات السبع صرن مع زينب ثمانياً ، وها هن يصمن رمضان وينقطعن عن الزنا ، ليعدن إليه بعد خروج الشهر إلّا زينب التي لم تزل منقطعة لا تدري عمّاذا ؟ (ص 234)
الفقرة (4)
نشوى تخطط لسهرة انفرادية مع ذاتها بعد أن نجحت . وصف طويل لا حاجة له للكيفية التي تضع فيها الطاولة والمازات واللنشون … إلخ . تستعيد (تقنية الفلاش باك) فترة سجنها المريرة التي لا يعتبرها البعض أساسية في حين أنها أكلت فيه حتى الخراء . ولكن هل كان سجنها لـ 130 يوما في زنزانة منفردة مبررا أو معقولا ؟ لا أدري .
الفقرة (5)
رجاء تحتفي بافتتاح مكتبتها . والآن نعلم أن “سيف” قد اعتقله العسكر ومزقوا كتبه .. وما تبقى تقرؤه رجاء الآن (ص 239) . ورجاء بنت لأهلها فيللا ، وها هي تقف مرتعشة باكية أمام بابها وهي تشاهد أمها تخرج مع أبيها الذي يسوق السيارة وقد شفي ظهره الذي اوصلها إلى هاوية الدعارة !! (ص 239 – 245) .
الفقرة (5)
زينب تعود للدراسة وتختبر الأول ثانوي . رجاء وجدت لزينب عملا . ثم حديث عن التفلسف . وفجأة تطلب رجاء من زينب أن تعاود سرد قصة كانت قد سردتها في رمضان الماضي عليها . كلتا القصتين في السجن المركزي بصنعاء : ليلى وحبيبها الذي من وراء القضبان ، يطل عليها من نافذة بينهما . هو في بيته وهي في السجن المركزي . لكن بينهما نافذة ما … وسيرة عائشة ، بحذاء أمها الذي أخذته خلسة من تحت فراش الخالة سعدية . سيرة الهرب الذي انتهى بها إلى السجن مرتين (ص 246) .
وكأن الروائية تعدّنا لاستقبال حكاية العنوان (زوج حذاء لعائشة) . لكن رجاء اختارت إعادة زينب لسرد القصتين لسبب علاجي نفسي لكنها لم تفلح :
(كانت رجاء تتمنى أن تنتبه صديقتها لما تقوله ، تنفعل ، تستحي ، نحن لا نخرج من كتاب إلا وقد صرنا أثرا لهذا الكتاب . بينما زينب عايشت السيرتين ؛ البنتين ليلى وعائشة ، لامست بيديها أيامهما في السجن .
هل لهذا السبب ! لأنها كانت جزءا مما تقوله وتسرده . كانت داخل الإطار . لم ترَ إليه من خارجه ، لتستوعب الصورة .
عذرت صديقتها . حين تريد أن تتفلسف ستكون هي الساردة ، وستختار واقعة لم تشهدها زينب ، لم تكن جزءا من تفاصيلها ، لتظل هكذا مشغولة بالجزء الذي هي فيه . حين تكون جزءا من صورة ، يصعب أن نرى إلى “كل” الصورة إلّا من خلال ذلك الجزء . ) (ص 246 و247) .
ومن أخطر ما تواجهه الرواية العربية في الوقت الحاضر – وقد تصل إلى هاوية الشعر العربي – هو أن بعض كتابها صاروا يكتبون وفي أذهانهم القاريء النخبوي والناقد الحداثوي ؛ زميلهم المتخم بالأطروحات الحداثية وما بعد الحداثية . رجاء نفسها أدركت أن زينب لا يمكن أن تفهم مقاصدها “البنيوية” إلّأ إذا كانت خارج “اللعبة” السردية !