نافذة على الطريق ( 2 )
ــــــــــــــــــــــ
في زيارتي الاخيرة للقاهرة في نيسان الماضي قصدت مطعم قدورة لتناول الغداء وهذا ما أعتدت عليه في كل زيارة من زياراتي للقاهرة ان اخصص يوما لتناول الغداء فيه والذي يقع في حي المهندسين , وحسب ماقيل لي ان هناك فرعين آخرين في القاهرة وفرعا في كل محافظة من المحافظات المصرية , وتمتاز هذه المطاعم انها متخصصة لبيع الاسماك فقط بالأعتماد على اسطول من سفن صيد الاسماك العائدة لصاحب المطعم , وعندما تدخل فرع حي المهندسين يجرك احد العمال الى غرفة الاسماك وهي غرفة مبردة لاتقل مساحتها عن ثلاثين مترا مربعا , تحتوي على رفوف وضع عليها انواعا مختلفة من الاسماك ( سمك موسى , البوري , الشأنك , الاستاكوزا , الكبوريا , الجمبري وانواع متعددة اخرى ) وبعد اختيارك لنوع السمك و وزن الكمية التي تحتاجها من هذه الانواع , يعطيك العامل المختص ورقة فيها نوع السمك والوزن وتدخل المطعم الكبير نوعا ما والمكون من طابقين , وبعد أن ان تختار المكان المناسب والطابق الذي يتلائم مع مزاجك يأخذ منك عامل آخر هذه الورقة ليأتي لك بالطعام خلال اقل من عشرين دقيقة , وفي هذه المرة كنت على موعد مسبق للقاء احد الاصدقاء وزميل مهنة , اقام في القاهرة بعد احالته على التقاعد فوجدته امامي في انتظاري متأبطا ملفا صغيرا حسبته بادئ الأمر معاملة اقامة او ما شابه ذلك الا أنه صارحني بعد جلوسنا في المكان الذي اخترته بنفسي في الطابق الاول مجاورا لأحد الشبابيك الذي يشرف على الشارع مباشرة , بانه بدأ بالكتابة استجابة لنصيحتي قبل مغادرته البلد واستقراره في القاهرة , اذ يومها طلبت منه في محاولة لقتل الفراغ ان يكتب اي شئ يخطر في باله , في حينها تندر علي قائلا بأن ذلك بعيد عنه وانه لم يفكر بذلك على الأطلاق , اجبته على الفور .. حاول .. حاول مبتدءا بكتابة نكتة قد سمعتها , ثم تذكر حادثة طريفة كانت قد وقعت معك , وحاول من توثيقها وبالتأكيد انها كثر , وبكثرة المحاولات
سوف تجد لنفسك هواية قد لاتجد متعة دونها ولكن لم يحاول في حينها وسافر الى القاهرة للاقامة هناك , مستجيبا لما تتطلبه شروط الأقامة , وأن هذا الملف الذي بيده ماهو الا نتاجاته خلال الاشهر الماضية وقد استقر مزاجه على كتابة القصة القصيرة , فقلت له ان هناك وقتا غير قصير ريثما يكتمل طعامنا , هات ماعندك , فاذا بهذا الملف
يحتوي على خمس قصص قصيرة لها من الاحاسيس والمقومات الكتابية مايتطلب الانتباه وانا اقرأ القصة القصيرة الاولى ثم الانتقال للاخريات وقراءة بعض العبارات في هذه وتلك , فأثنيت عليه وعلى جميل ماكتب الا أني قلت له صراحة هذا رأيي ولكن بالتأكيد أن لذوي الأختصاص آراءا ً اصوب وأقوم , حينها قال لي .. أصبت , وهذا ما اسخبرك به بعد تناولنا غدائنا , ولكل حادث حديث .
وبعد تناولنا غدائنا كان لي مع صديقي حديث له صلة بما كتب , ونحن نحتسي الشاي , موضحا له رأيي الصريح بأن الكتابة عالم آخر للكاتب , الا ان هناك اشكالية ضبط اللغة , وكما تعلم أن للغة فروعا كثرا ً , فمن قواعد أصول الكتابة , الى قواعد اللغة , فقه اللغة , ضبط الكتابة الأملائية , الاشارات والعلامات الكتابية وامور أخرى كل ذلك من شأنه ان يعطي النص الكتابي خصوصيته الكتابية والخوض في مجرياتها ما يجعل المتلقي يتأقلم طبيعيا عند قراءة النص , اجابني باني سأعرف ما هو بفاعل بعد خروجنا من المطعم , وعند خروجنا استأجر سيارة اجرة قاصدين مصر الجديدة مما دعاني للاستفسار عن السبب وهو يسكن في مدينة 6 اكتوبر ؟ , أجابني بأن هناك دكتورا جامعيا عراقيا بدرجة استاذ لغة عربية , مقيم هناك سوف نستأنس برأيه , اجبته على الفور , اصبت الهدف , وعند وصولنا الى ماقصدنا ويبدو ان الاستاذ كان على علم مسبق بقدومنا قدمنا لبعض للتعارف , ما دعاه للترحاب بنا وبمقدمنا , وبعد استراحة قصيرة جيئ بكأسي عصير معتذرا , من انه مصاب بالسكري لذا جيئ بكأسين فقط , ثم تساءل الدكتور عما يبغيه صاحبي من امر الزيارة , اجابه أنه يريد ابداء رأيه بما كتب من قصص قصيرة , فذهلت من ردة فعل هذا الاستاذ الذي سرعان ما بدا منزعجا لما سمع قائلا .. ومالذي جعلك تنحو منحى هذا الامر ( شجابك على هذه الشغلة ) ؟ اشارة منه الى أن مجال تخصصه العسكرية , فأفغر صديقي فاه وهو يجمع افكاره للرد على هذا السؤال الغريب الذي لم يخطر على باله قط , ولم يتكلم ببنت شفة , وكأنه اصابه الخرس , فأسعفته بالرد والكلام من أن كل التخصصات الاكاديمية لها دراساتها الخاصة بها الا المواهب فلها منابعها وجذورها ولايمكن تكميمها , فلو درس احدهم الرسم لسنين طوال ولم يمتلك موهبة الرسم فسوف لن يكون رساما قط وهذا ما ينطبق على النحات , والخطاط والموسيقي والشاعر , وربما كان زميلي قد امتهن العسكرية الا انه كانت له هناك موهبة نائمة لم يوظفها نحو مايستوجب من توظيف وقد وجد فرصته الآن في توظيفها , وبخاصة صنوف الادب فأنه متاح للجميع , فأن لم يكن بارعا في احداها إلا أنه بالتأكيد سيكون متذوقا , وما قيمة مايكتبه الكاتب اذا لم يكن هناك من متذوق ؟ , فلو رجعنا الى الوراء قليلا
لوجدنا أن ديستوفسكي كان عسكريا , ومحمود سامي البارودي عسكريا , وعلي محمود طه مهندسا , واحمد شوقي حقوقيا , وابراهيم ناجي طبيبا , ويوسف ادريس , طبيبا , ويوسف السباعي عسكريا , واحمد رامي اختصاصه ادب فارسي , وبدر شاكر السياب , ادب انگليزي , وهلال ناجي محاميا وكذلك نجيب محفوظ كان هو الآخر اختصاص فلسفة , بينما عباس محمود العقاد لم ينل شهادة السادس الابتدائي الا أنه كأن في داخله بركان موهبة الكتابة في الادب العربي , والقائمة تطول دكتور , وهنا وجب عندي سؤال جوهري في مغزاه , كم من الرسائل الجامعية تم أخذها بنتاجات هؤلاء القامات الأدبية ؟ وأعني بها نيل شهدات الماجستير والدكتوراه بمختلف العناوين , كان تكون .. فلان .. دراسة في حياته وشعره , الدعابة عند فلان … الخ , ثم كم من البحوث تم اخذها لنيل الدرجات الوظيفية ؟ كأن تكون درجات المدرس المساعد او الأستاذية , توقفت عن الكلام وساد الصمت لبضعة لحظات , وتسائل الاستاذ عن مهنتي فأجبته على الفور , أنا هو الآخر عسكري ومتقاعد حاليا , حينها اجابني بان ماتطرقت له كان صائبا , وان طريق الكتابة الادبية لم يكن طريقها سهلا , فقلت له , وهل قرأت ماكتب زميلي استاذنا الفاضل ؟ اقرأ وتمعن ثم سيكون هناك حديث آخر … وحاولت تغيير جو الحديث الى امور الحياة في مصر وبالاخير سألت ذلك الدكتور .. عفوا دكتور , وهل لديك مؤلفات لنستقي وننهل منها وانت ترانا اننا مغرمان بالقراءة الادبية ؟ , هنا تسمر لسانه وكان صاعقة نزلت عليه , واجابني بانه وبصفته اكاديميا , لم يكن له هناك وقت كاف للتاليف لانشغاله بالمحاضرات وتصحيح دفاتر الامتحانات والاشراف على الاطاريح الجامعية … وتبين لي ان هذا الاستاذ لم يكن له اي مؤلفات سوى اطروحة الماجستير واطروحة الدكتوراه , ومضى الوقت سريعا لنستأذن الاستاذ بالخروج وما هي الا لحظات حتى وجدت نفسي منفردا بصديقي , وقلت له لا عليك , استمر بالكتابة بغض النظر عما اذا كان هذا وذاك وذيـّاك راضون ام غير راضين ويبقى عامل الثقة بالنفس اكبر من كل الاحتمالات .